”سعى ميلز من خلال مفهومه عن الخيال السوسيولوجي إلى ضرورة إيجاد رؤية تصورية جديدة لعلم الاجتماع، وهي رؤية لا تستند إلى إبراز التعارض بين فكرة الصراع أو التوافق، أو بين التغير والاستقرار، بل إن قوامها دراسة الإنسان في إطار التاريخ، أو كما يقول ميلز دراسة التفاعل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الإنساني، وهذا يعني من جانبه عودا إلى علم الاجتماع التاريخي الذي أغفلته الوظيفية. ذلك أن علم الاجتماع في تصور ميلز ينبغي أن يكون تاريخيا؛ حتى يستطيع أن يدرك المشكلات الاجتماعية الحاسمة التي تواجه البشرية؛ وذلك لأن طبيعة الظواهر الاجتماعية تستلزم قيام تصور لهذه الظواهر يحوي أبعادها التاريخية “.
التاريخ هو دراسة الماضي وأثره على الحاضر والمستقبل، ويمكننا تعريفه بأنه جملة من الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، وتصدق على الفرد والمجتمع. كما تصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. وقد عدّ هيجل التاريخ جزءا من الفلسفة، لأنه ليس مجرد دراسة وصفية، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب. “وعلى كل حال فإن التاريخ وببساطة شديدة هو العلم الذي يهتم بدراسة التطور الذي لحق بالمجتمعات الإنسانية منذ الماضي البعيد “.
تأتي أهميته لعلم الاجتماع من أن البحوث الاجتماعية هي بحوث تاريخية؛ لأن علماء الاجتماع يسجّلون الحوادث والظواهر التي يشاهدونها خلال احتكاكهم ببيئة ونظم المجتمع. ويستعمل اصطلاح علم الاجتماع التاريخي في دراسة الحقائق والحوادث الاجتماعية التي مضى على وقوعها فترة تزيد على الخمسين عاما.
إن الصلة بين التاريخ وعلم الاجتماع هي صلة قوية وثيقة، ومع هذا فإن هناك من يقول بأن التاريخ يختلف عن علم الاجتماع، بكونه يدرس الحوادث التاريخية الماضية التي لا يمكن تكرارها أو وقوعها ثانيةً بأية صورة من الصور، بينما يدرس علم الاجتماع حقائق ثابتة ونظريات نسبية تتعلق بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل. أضف إلى ذلك أن التاريخ يهتم بإيجاد وشرح وتعليل حقيقة أو حادثة أو شخصية تاريخية معينة، أما الاجتماع فيدرس مجموعة عوامل وحقائق، دراسة تفصيلية عامة تساعده على استنتاج الأحكام والقوانين التي تفسر الظواهر والعلاقات الاجتماعية تفسيرا كاملا وعقلانيا.
بذلك فإن كلمة التاريخ تدل على مجرى الحوادث وما تصنعه الشعوب. وفي هذا الصدد يقول العلامة ابن خلدون “التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من أمم في أخلاقهم”.
ويُمَيَّز بين التاريخ وعلم الاجتماع؛ بأن التاريخ ينزع للبحث عن الحالات الفردية الفريدة للسلوك الإنساني، أما علم الاجتماع فينزع إلى البحث عن التتابعات الانتظامية في السلوك البشري. لكن علم الاجتماع لا يستطيع أن يستغني عن التاريخ والعكس صحيح، لأن التاريخ حافل بالوقائع التي صنعها الإنسان، الذي هو محور وهدف دراسة علم الاجتماع. ومعظم الاستنباطات والأفكار الاجتماعية استنبطت من التاريخ.
وهكذا فإنه يوجد علاقة قوية بين التاريخ وعلم الاجتماع، وتتضح لنا من خلال اعتماد علم الاجتماع على المنهج التاريخي في دراسته وتتبعه لتطور وتغير الظواهر الاجتماعية، التي حدثت في الماضي بغية تحليلها وتفسيرها لمعرفة القوانين التي تحكمها.
مثال: (دراسة تطور أشكال الأسرة العربية، قبل ظهور القطاع الصناعي، وبعد ظهوره).
وتنحصر العلاقة بين العلمين بشكل واضح وجلي في جانبين أساسيين:
– تطبيق المنهج التاريخي، أي أن الظاهرة لا يمكن دراستها وتحديد طبيعتها إلا عن طريق تتبع صورها في الماضي، فمثلا عند دراسة النظام الأسري في البلاد العربية؛ علينا دراسة تاريخ النظام الأسري في الماضي، وتحديد وظيفته في ذلك الزمان، وتتبع التغيرات التي طرأت عليه حتى وقت الدراسة.
– اتخاذ التاريخ كحقل تجارب للعالم الاجتماعي، فمن المعروف أن التجربة في علم الاجتماع مجالها ضيق ومحدود، فلا يمكن إجراء تجارب على المجتمع بشكل مباشر؛ لذا يلجأ علماء الاجتماع إلى التاريخ.
مثال ذلك: لو أدرنا أن نتعرف مدى تماسك المجتمع في زمن الحروب؛ فلا يمكن أن نجري حرب اصطناعية، وإنما ندرس تاريخ الأمم في أوقات الحرب الفعلية الماضية.
بذلك سيكون علم الاجتماع دون الرجوع للتاريخ علما ضحلا خفيف الوزن، ولا يستطيع إنجاز بحوثه ودراساته وصياغتها؛ دون الرجوع إلى التاريخ، في سعيه الدءوب لتتبع تطور الظواهر الاجتماعية والقوانين الناظمة التي تحكمها.
بناءً على ما تقدم، يرى رايت ميلز أن علم الاجتماع يتعامل مع مشاكل البيوغرافيا، والتاريخ، ومع تقاطعاتهما داخل البناء الاجتماعي، ويعتقد أن هذه العناصر الثلاث المتمثلة في البيوغرافيا، والتاريخ، والمجتمع – عبارة عن نقاط تتساوي في أهميتها؛ بالنسبة للدراسة المناسبة للإنسان ولواقعه الاجتماعي.
تمثل هذه النقاط الرئيسية لميلز مساحة أساسية؛ ارتكز عليها في نقده لمختلف مدارس علم الاجتماع، التي أهمل ممارسوها هذا التقليد الكلاسيكي. فالمشاكل الحالية التي نواجهها في عصرنا؛ لا يمكن دراستها بصورة كافية ومناسبة، دون ممارسة للرأي الذي يقول: بأن التاريخ يمثل العمود الفقري للدراسة الاجتماعية، التي لها أساسها السوسيولوجي وتوافقها التاريخي. لأن بدون توظيف التاريخ لا يستطيع عالم الاجتماع أن يحدد ويقرر أنواع المشاكل التي ينبغي أن تكون نقاط التوجيه للدراسات التي يتناولها.
فإذا أراد عالم الاجتماع أن يفهم التغيرات الديناميكية التي تقع في أي بناء اجتماعي معاصر، فيجب عليه أن يكشف ويتتبع بوضوح التطورات طويلة الأمد، التي حدثت في هذا البناء الاجتماعي الذي سيقوم بدراسته. بعد ذلك ينبغي عليه أن يطرح بعض التساؤلات الهامة حوله: ما الديناميات التي وقعت بها هذه التطورات، ما أدى إلى حدوث التغيير بهذا المجتمع؟ فمن خلال هذه التساؤلات سيصل اهتمام عالم الاجتماع بهذه التطورات إلى ذروته.
هذه الذروة لها علاقة بالانتقال التاريخي من حقبة إلى أخرى. وبذلك نسمّي هذه العملية ببناء الحقبة التاريخية، فيرى ميلز أن على عالم الاجتماع، الذي يرغب في فهم طبيعة الحقبة الحالية؛ لتحديد البناء الخاص بها، وللكشف عن القوى الرئيسية التي تعمل داخله – لا بد له من أن يحددها تحديدا ملائما، حتى تصبح ميدانا واضحا للدراسة تؤدي به إلى الكشف عن ميكانيزمات صنع التاريخ الخاص به، ويضرب ميلز مثال على هذا الطرح، فيقول: “إن الدور الذي تلعبه صفوة القوة في صنع التاريخ، يختلف وفقا للمدى الذي تتمركز فيه وسائل القرار النظامية والمؤسسية”.
يعتبر ميلز مفهوم البناء الاجتماعي وديناميات “العصر الحديث”، مفهوم من المفاهيم المركزية. لأنه يتمتع بالخصوصية والسمات الجوهرية الفريدة التي قد يتميز بها، لذا لا بد للعلوم الاجتماعية وفي مقدمتها علم الاجتماع من الاعتراف به مكونا أساسيا يتصل بالبعد التاريخي عند دراسة مجتمع ما؛ لأن معظم المشاكل الكلاسيكية التي تعاني منها العلوم الاجتماعية الحديثة لها في الحقيقة علاقة بغياب أحد التفسيرات المفصلية التي تعتبر أقرب إلى التفسير التاريخي المحدد: وهو تفسير نشأة ومكونات وشكل، المجتمعات الحضرية الصناعية في الغرب الحديث، الذي غالبا ما يكون نقيضا لعصر الإقطاع.
يرى ميلز أن الكثير من المفاهيم التي يشيع استخدمها أكثر في علم الاجتماع، هي مفاهيم لها صلة بالتحول التاريخي من المجتمع الريفي إلى عهود الإقطاع إلى المجتمع الحضري في العصر الحديث.
من هذه المفاهيم نذكر: مفاهيم “مين” عن المكانة الاجتماعية والعقد الاجتماعي. مفاهيم “توينز” عن المجتمع المحلي والمجتمع العام. مفاهيم “فيبر” عن المكانة الاجتماعية. مفاهيم “هربرت سبنسر” عن المجتمع الصناعي. مفاهيم “ريدفيلد” عن المجتمع الشعبي، مفاهيم “بيكر” عن المجتمع المقدس، والمجتمع العلماني…إلخ.
كل المفاهيم سابقة الذكر مهما كان شيوع استخدامها، فهي مفاهيم قد ترسّخت جذورها جميعا من الناحية التاريخية. بل حتى أولئك الذين يعتقدون بأنهم لا يعملون مستخدمين التاريخ، فهم يكشفون بصفة عامة باستخدامهم لمثل هذه التعبيرات قدرا من الفهم بالتيارات التاريخية بل وحتى إحساس بالعصر.
يحث ميلز علماء الاجتماع في نطاق هذا الوعي بديناميات وشكل ” العصر الحديث “وبطبيعة أزماته، الاهتمام المعياري بالتيارات. فنحن عندما نحاول دراسة التيارات للذهاب إلى ما وراء الأحداث؛ لكي ننظم إحساسنا بها. لذا فإننا في مثل هذه الدراسات، فإننا غالبا ما نحاول التركيز على كل تيار، فيما يسبق بقليل الوضع الذي صار عليه الآن، والأكثر أهمية لكي ترى جميع التيارات في الحال، وهي أجزاء متحركة للبناء الشامل للعصر.
لذا يجب على علماء الاجتماع أن يحاولوا دراسة التاريخ وليس التقهقر بداخله، والاهتمام بالتيارات المعاصرة دون أن نكون “مجرد صحفيين”، وأن نستشرف مستقبل هذه التيارات دون أن يكون عملنا قاصرا فقط على مجرد التنبؤ. ما يوجب على عالم الاجتماع قبل كل شيء، أن يحاول رؤية التيارات الرئيسة المتعددة معا- من الناحية البنائية بأكثر من رؤيتها من أشياء واقعة في أوساط اجتماعية مبعثرة. لأن هذه الرؤية تمثل الهدف الذي يعطي دراسة التيارات صلتها الخاصة بفهم العصر، الذي يتطلب الاستخدام الكامل والاستفادة البارعة بمادة التاريخ.
وهكذا سعى ميلز من خلال مفهومه عن الخيال السوسيولوجي إلى ضرورة إيجاد رؤية تصورية جديدة لعلم الاجتماع، وهي رؤية لا تستند إلى إبراز التعارض بين فكرة الصراع أو التوافق، أو بين التغير والاستقرار، بل إن قوامها دراسة الإنسان في إطار التاريخ، أو كما يقول ميلز دراسة التفاعل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الإنساني، وهذا يعني من جانبه عودا إلى علم الاجتماع التاريخي الذي أغفلته الوظيفية. ذلك أن علم الاجتماع في تصور ميلز ينبغي أن يكون تاريخيا؛ حتى يستطيع أن يدرك المشكلات الاجتماعية الحاسمة التي تواجه البشرية؛ وذلك لأن طبيعة الظواهر الاجتماعية تستلزم قيام تصور لهذه الظواهر يحوي أبعادها التاريخية.
– المراجع المعتمدة:
- اسماعيل محمد الزيود: علم الاجتماع، دار كنوز المعرفة للنشر، عمان، ط1، 2011.
- صلاح مصطفى الفوال: علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية (علاقات ومجالات وميادين)، عالم الكتب، القاهرة، 1982.
- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، تحقيق وشرح: علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة، الجزء الأول، ط7، جديدة مزيدة ومنقحة، مارس 2014.
- مجموعة مؤلفين: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983.
- رايت ميلز: الخيال العلمي الاجتماعي، ترجمة: عبد الباسط عبد المعطي- عادل مختار الهواري، تقديم: سمير نعيم أحمد، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية (مصر)، ط1، 1986.
- حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية – نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.
- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.
- Mills C.W: The Sociological Imagination, Oxford University Press, 1959.