ترجمة: أحمد بركات
في أول يوم له وزيرا لخارجية الولايات المتحدة، 22 يناير 1953، ألقى جون فوستر دالاس، كلمة أمام مجموعة من الدبلوماسيين في مقر وزارته، الذي كان لا يزال جديدا في ضاحية فوجي بوتوم، في العاصمة الأمريكية واشنطن.
وعلى مدى السنوات السابقة، تعرضت الوزارة لعاصفة عاتية من الانتقادات، من قبل النشطاء الجمهوريين والمحافظين باعتبارها “مأوى للجواسيس الشيوعيين والمتعاطفين مع الشيوعية”، بعد أن أدين ألجر هيس، أحد النجوم الصاعدة في سماء الدبلوماسية الأمريكية بتهمة الحنث باليمين في عام 1950، لإدلائه بمعلومات كاذبة بشأن تسليم وثائق حكومية سرية، لجاسوس سوفييتي.
وعلى أثر ذلك، أعلن السيناتور جوزيف مكارثي، أنه يمتلك قائمة تضم مئات الجواسيس الذين يعملون في وزارة الخارجية. ومع وصول دالاس إلى مكتبه الجديد، كانت الثقة الشعبية في الوزارة قد تهاوت إلى درجة كبيرة.
وفي كلمته الافتتاحية التي ألقاها أمام موظفيه الجدد، أوضح دالاس أنه لن يقف إلى جانبهم برغم كونه رئيس العمل. كانت كلمات دالاس في ذاك اليوم باردة وقاسية مثل حالة الطقس في ذلك الوقت، وفق ما كتبه الدبلوماسي الأمريكي تشارلز بوهلين.
وفي ثنايا خطابه شدد دالاس على أنه “بدءا من اليوم، لا أتوقع منكم مجرد الولاء، وإنما الولاء الإيجابي”، موضحا أنه سيقدم على “فصل أي موظف لا يلتزم بمكافحة الشيوعية بحماس”. كان ذلك إعلانا من وزير الخارجية الجديد بأن وزارته “محل اشتباه حقا”، على حد وصف بوهلين، مشيرا إلى أن هذه الملاحظة “أثارت استياء بعض مسئولي الخدمة الخارجية، وحتى أولئك الذين كانوا يتطلعون إلى الإدارة الجديدة”.
وهكذا بدأ ما يُعد حتى الآن “أكبر عملية تطهير ضد موظفي الحكومة غير المخلصين” في تاريخ الولايات المتحدة، وفق تقدير كلاي رايزن، مؤلف كتاب Red Scare: Blacklists, McCarthyism, and the Making of Modern America (الرعب الأحمر: القوائم السوداء، والمكارثية، وبناء أمريكا الحديثة) الذي سيصدر في 18 مارس 2025، عن دار نشر Scribner.
وسرعان ما شهدت الحكومة الفيدرالية، أحداثا مماثلة في عهد الإدارة الجديدة للرئيس دوايت أيزنهاور، الذي كان أول رئيس منتخب عن الحزب الجمهوري منذ عقدين. ورغم أن وزارة الخارجية كانت نقطة البداية لعمليات التطهير المناهضة للشيوعية، إلا أن عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي فحصوا ملفات آلاف الموظفين في جميع وكالات الحكومة الفيدرالية. وفي أبريل 1953، أصدر الرئيس أيزنهاور الأمر التنفيذي رقم 10450، الذي افتتح حملة نشطة للتحقيق بشأن آلاف التهديدات الأمنية المحتملة في جميع أرجاء الحكومة.
وعلى مدى الأشهر الأربعة التالية فُصل 1456 موظفا فيدراليا من الخدمة، برغم أنه لم يكتشف تورط أي منهم في عمليات تجسس. وفُصل بعضهم ببساطة لكونهم مثليين، وهو ما اعتبره الأمر التنفيذي خطرا أمنيا.
كما أجبر الملازم في القوات الجوية ميلو رادولوفيتش على الاستقالة؛ للاشتباه في أن أخته شيوعية، إضافة إلى حالات أخرى مشابهة.
“وتتردد اليوم بجلاء أصداء عمليات التطهير السياسي الموسعة التي شهدتها الحكومة الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي”، حيث فتحت ذريعة عمليات ملاحقة العملاء السوفيت، التي انطلقت منذ 70 عاما، الطريق أمام “حملة مجنونة مدفوعة بنظريات المؤامرة الخارجية”، ما أسفر عن تدمير الحياة المهنية لعدد لا يحصى من الموظفين دون أن يكون لها أثر واضح على تعزيز أمن الولايات المتحدة، وفق ما خلص إليه كلاي رايزن، في مقال بعنوان What Happened the Last Time a President Purged the Bureaucracy.
واليوم تُستخدم الرغبة المعلنة للحد من برامج التنوع والمساواة والإدماج لتبرير عمليات الفصل والإغلاق السريعة لمكاتب فيدرالية بأكملها. ومن ثم فإنه قد يكون من الحكمة التبصر بعواقب حقبة التطهير الماضية، والتي شكلت جزءا مما بات يُعرف بـ “الرعب الأحمر”.
ففي أوقات المنافسة الجيوسياسية المحمومة، كبّلت الولايات المتحدة نفسها، فعمدت إلى فصل آلاف الموظفين المهمين، وأجبرت من بقى منهم في عمله على التكيف والخضوع، ومن الصعب ألا يرى الأمريكيون نفس الخطأ يتكرر اليوم.
وبرغم أنه من المستحيل تحديد القيمة النسبية لهكذا عمليات، إلا أن تكلفة عمليات التطهير المناهضة للشيوعية التي شهدتها الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي كانت فادحة، ولم تتوقف تداعياتها عند حد الظهور خلال السنوات اللاحقة، وإنما امتدت على مدى عقود.

فعلى سبيل المثال، إذا لم يُستغنى عن الخبراء أو معاقبة المعارضين بقسوة في جميع الوكالات الحكومية في أوائل الخمسينيات، لأمكن للعقول الأكثر حكمة أن تعترض، استنادا إلى أسباب وجيهة، على السياسات الأمريكية قصيرة النظر لمكافحة الشيوعية في شرق آسيا، وقبل ذلك على الاندفاع المحموم للتدخل في فيتنام.
ويبقى السؤال: هل تعاني إدارة ترمب اليوم من نفس حالة قصر النظر بالغة الخطورة؟
وبعيد عن أوجه التشابه التاريخية، فإن هناك حالة قصر نظر أخرى تربط بين الماضي والحاضر. لقد انتهت حالة “الرعب الأحمر” في نهاية المطاف، حيث ساعد الصحافي إدوارد مورو في تحويل المسار، بما في ذلك من خلال تقرير إخباري مطول حول قضية الملازم رادولوفيتش. كما وضعت المحكمة العليا في عام 1956 قيودا على الأمر التنفيذي الذي أصدره أيزنهاور.
وفي منتصف الخمسينيات، توقّف الناخبون الذين أسعدهم الاستقرار المحافظ الذي حققه أيزنهاور، عن مساندة المرشحين الذين خاضوا الانتخابات على أساس برامج متشددة ضد الشيوعيين.
وشهد جوزيف مكارثي، الذي استحوذ على الخيال السياسي للأمريكيين لسنوات، ما آلت إليه شعبيته من انهيار في عام 1954 خلال مواجهته المتلفزة وغير المدروسة مع الجيش الأمريكي بشأن طبيب أسنان عسكري زُعم أنه من المُخربين.
وبرغم، أو ربما بفضل، جهوده السابقة، تمكن أيزنهاور من إبعاد منظري المؤامرة المتشددين المناهضين للشيوعية، الذين تمكنوا لفترة وجيزة من الاستحواذ على الخيال الأمريكي.
ولكن هؤلاء لم يرحلوا بهدوء. فقد نظر أمثال ألفريد كوهلبيرج، قطب صناعة النسيج والداعم الكبير لمكارثي، وروبرت ويلش، مؤسس جمعية جون بيرش، إلى أيزنهاور باعتباره سجينا للعصابة الشيوعية التي يأملون هزيمتها.
وحتى لو ظل هؤلاء على هامش السياسة الأمريكية، فإنهم لا يزالون يشكلون قطاعا مهما. فقد باع كتاب جون ستورمر None Dare Call It Treason (لا أحد يجرؤ أن يسميها خيانة) الصادر في عام 1964، والذي زعم فيه استمرار المؤامرة المؤيدة للشيوعية في أهم الأماكن القيادية في الحكومة الأمريكية، ملايين النسخ.
وبمرور الوقت، بات الاعتقاد بأن الجناح الليبرالي في السياسة الأمريكية البيروقرطية الفيدرالية قد سُيطِر عليه من قبل “عدو داخلي” اختبارا حاسما للديماجوجيين اليمينيين المتشددين، ما يربط حقبة “الرعب الأحمر” عبر تمرد بات بوكانان في تسعينيات القرن الماضي، بالحاضر. ومن ثم، فعندما أعلن الرئيس دونالد ترمب تعليق الإنفاق الفيدرالي لاقتلاع العناصر “الماركسية” الموجودة في الحكومة، فإنه يعول على هوس بدأ منذ 75 عاما.
وقد يكون من المغري القول إنه مثلما انتهى “الرعب الأحمر” فستنتهي الملاحقة الحالية للعناصر “غير المخلصة”. ولكن، برغم كل التشابهات، فإن هناك اختلاف جوهري، وهو أن الولاء في ذلك الوقت كان يعني الولاء للولابات المتحدة، أما اليوم فإن ترامب يطالب بالولاء لنفسه ولأجندته.
وبمجرد أن يعي الشعب الدمار الذي ستخلفه عمليات التطهير التي تجري باسم ترامب، هل سيوقفها.. يظل هذا، وفق رايزن، “سؤالا بلا إجابة قاطعة على نحو يثير القلق”.