كان الأبرز في الولايات المتحدة بين المدافعين عن القضية الفلسطينية، أجبرته هزيمة العرب عام 1967 على الخروج من قوقعته الأكاديمية، إلى شاطئ القضية العربية الأولى؛ قضية فلسطين.
استرداد سعيد وعيه بالقضية كان فتحا لها في الولايات المتحدة، استطاع الأكاديمي المرموق حينها أن يكسب الرأي العام اليساري إلى قضيته في وقت كانت قضية فلسطين “غير مجزية”.
لقبته الجماعات اليهودية في أمريكا بـ”بروفيسور الإرهاب”، أحرقوا مكتبه بمدينة كولومبيا، ولم تقتصر مهاجمته ومحاصرة أفكاره على الجماعات اليهودية فقط بل طوقها أيضا القوميون العرب، إذ كان سعيد من المؤمنين بعدم إمكانية حلّ الصراع العربي- الإسرائيلي عموما، والصراع الفلسطيني- الصهيوني خصوصا، حلاً عسكريا محضا، لذا فقد وجه في تلك الفترة نقدا صارما لاستخدام شعارات وكليشيهات مثل “الكفاح المسلح”، ورأى أنها لم تحرز أي تقدم للقضية الفلسطينية على الصعيد السياسي.
الغريب بل لعله ليس غريبا على مفكر إنساني كان يعتقد حقا فيما يدعو إليه، لا عن ضعف وانهزامية، بل عن إيمان نابع من توجه فكري اعتنقه وبشر به؛ أنه عندما ألقى ياسر عرفات البندقية وطرق مسارا آخر، مسار “السلام” آملا أن يعوضه عما لم يحصله بالكفاح المسلح، وتسارعت خطواته عليه كأنما أراد أن يبتز الزمن ليهبه شيئا من نجاح يختم به حياته؛ اعترضه إدوارد سعيد ليستقيل من المجلس الوطني الفلسطيني، ويهاجم بعدها بضراوة اتفاقية أوسلو 1993.
كان يرى أن “التصالح الأصيل لا يتم قسرا، كما أنه لن يتحقق أبدا بين مجتمعات وثقافات تتفاوت قوتها بشدة، ويسيطر بعضها على البعض الآخر بالقوة.. فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مصالحة بين نديّن، وبين شريكين يستطيع كل منهما ـ باستقلاليته وقوة أهدافه وتماسكه – فهم الآخر ومشاركته بشكل متكافئ.. لكن ما لاح للناظر المدقق حينها أن الكيان الصهيوني نجح في إقناع العرب بوجه عام، والقيادة الفلسطينية المنهكة بشكل خاص، بأن المساواة مع إسرائيل أمر غير وارد على الإطلاق، وأنه لا سلام إلا بالشروط التي تمليها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وساعدت حالة التردي العربية الشاملة على ترويج هذه الأكذوبة، حينما امتصت سنوات الحروب الفاشلة والشعارات الفارغة والجماهير غير المعبأة وانعدام الكفاءة وانتشار الفساد حيوية مجتمعاتنا، وهي المجتمعات المعوقة أصلاً بسبب غياب الديموقراطية والمشاركة، لتتنازل القيادة الفلسطينية ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، لا عن حق تقرير المصير فقط، بل وعن القدس وقضية اللاجئين، وترجئ هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات “المرحلة النهائية” غير المحددة الشروط.
كذلك تم قبول تقسيم الشعب الفلسطيني، الذي ناضلت قواه منذ عام 1948 من أجل الحفاظ على وحدته، إلى سكان الأراضي المحتلة يتم التعامل معهم داخل إطار عملية السلام، وآخرين، وهم يمثلون حوالي 55 في المائة من الفلسطينيين، تتجاهلهم “عملية السلام” هذه.
رغم هذه المدافعة للمسار الذي اختاره عرفات، إلا أن إدوارد سعيد كان من أوائل المبشرين بحل الدولتين، ثم طور دعوته في أواخر التسعينات إلى دولة ثنائية القومية، وفي إطار دعوته للتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين أسس سعيد المهتم بالموسيقى مع صديقه الموسيقار الإسرائيلي دانيل بارنبويم أوركسترا “الديوان الشرقي ـ الغربي”، لتجمع عازفين شباب من إسرائيل وفلسطين والعالم العربي.
ما قد يدهش البعض هنا، أن المفكر الثوري مؤسس مدرسة ما بعد الكولونيالية، الذي فضح الخطاب الاستعماري الغربي وقام بتعريته وتقويض مسلماته وتفكيك مقولاته المركزية؛ لم ينهج ذات النهج الثوري مع دولة هي نتاج هذه الكولونيالية، وربما كان في فكره الإنساني ودعوته إلى إحلال الوعي الاجتماعي بديلا عن الوعي القومي؛ التفسير، فهوية كل إنسان ـ بحسب ما ارتأى سعيد ـ هي هوية هجينة، لا سيما في العصور الحديثة، ليمتدح الهجنة، ويذم الأصالة، فهي “شيء مزيف يوقع في القتل والدماء”.
هذه الرؤية الطوباوية لما ينبغي أن يكون جعلت صاحبها يغض الطرف عما كان، لكنها حملت منطقا أنيقا، كحال مقاومة إدوارد سعيد للمشروع الصهيوني، وإن لم تمنع هذه الأناقة في المقاومة البروفيسور سعيد من أن يلتقط حجرا على الحدود اللبنانية الإسرائيلية سنة 2000 ليلقي به تجاه الجانب الإسرائيلي ابتهاجا بانسحاب قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني.