يقول أحمد زيني دحلان في كتابه الدرر السنية في الرد علي الوهابية إن سليمان أخو محمد بن الوهاب كان يقول له كم أركان الإسلام يا محمد فيقول خمسة، فيرد عليه ويقول أنت جعلتها ستة، فقد زدت عليها أن من لا يؤمن بدعوتك لا يكون مسلما. كان ذلك في بدايات الدعوة، فلما توسعت أصبحت عشرة أركان. وقد سأله رجل كم يعتق الله في كل ليلة في رمضان؟ فقال يعتق في كل ليلة مائة ألف وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال أتباعك لم يبلغوا عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمين الذين يعتقهم الله وقد حصرتهم فيمن اتبعك؟.
الوهابية المفاصلة
الذين تحمسوا للوهابية باعتبارها حركة تجديد لم يتعمقوا في كل جوانبها ولم يدركوا خطر البعد المفاصل فيها للمجتمعات المسلمة واعتبارها مجتمعات ردة وجاهلية وكفر، ما فتح بابا واسعا لأفكار مشابهة تأثرت بها، مثل سيد قطب في الجزء الغاضب المفاصل في تفكيره، الذي تسرب إليه من الوهابية، وكذلك أبو الأعلى المودودي، فحركة علماء الحديث في الهند تأثرت جدا بالوهابية وحضورها هناك، وحركات التكفير والهجرة كان التأثير الوهابي عليها عميقا جدا، والسلفية التي لا تعذر بالجهل كان مشربها الأساسي من الوهابية. وبقدر ما مثلت الوهابية أيديولوجية للدولة السعودية ولعبت دورا في منحها الشرعية والوجود والتوحد، فإنها اليوم باتت عبئا عليها بفعل ما تمثله أفكاره المفاصلة من فزع في نفوس الأجيال الجديدة من الشباب السعودي الذي تمسه الحداثة بعنف.
تشير الوهابية كحركة اجتماعية وسياسية إلي اسم مؤسسها محمد بن عبد الوهاب (1115هـ -1703م – 1206هـ- 1792 م)، وهي تنتمي في تقديري لما أطلق عليه “الحركات المفاصلة”، أي الحركات التي تحاول أن تفاصل مجتمعاتها علي أسس عقدية جديدة لا تكترث فيها بما كان قبلها من مسارات اجتهادية وفقهية، كما لا تكترث لممارسات السابقين داخل عالم الإسلام، وتعتبر أنها تكتشف إسلاما جديدا مختلفا عما عليه ا لناس، حيث تعتبر أن هناك عادات للناس تتعارض مع الإسلام ويجب أن يكفوا عن الاستمرار في الإتيان بها. من هنا تبدأ محاولة اكتشاف الإسلام من جديد وإعادة تعريفه واعتبار أن الإسلام يبدأ من هنا، من الشخص حامل الفكرة ومن الأفكار التي يطرحها، باعتبار أن ما كان قبل تلك اللحظة ليس هو الإسلام الصحيح وأن ممارسات المسلمين قبلهم هي بمعاييرهم المفاصلة “جاهلية ولا تمت للإسلام الصحيح بصلة”.
هكذا كان محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر ومطالع القرن الثالث عشرالهجري الموافق للقرن الثامن عشر الميلادي يؤسس لاكتشافه الإسلام الصحيح ووصف الناس في عصره بالجاهلية والشرك. الحركة الوهابية هنا لا تجتهد للأمة وإنما تجتهد في مواجهتها، وبدلا من السعي لاستصحاب أصل الإسلام للناس ودعوتهم إلي ترك ما تراه خطأ في سلوكهم فإنها تعتبر أن الناس قد أطبق الشرك علي سلوكهم وأصبحوا خارجين عن الإسلام ينقضون أصل التوحيد الذي هو حق الله علي العبيد، كما ألف محمد بن عبد الوهاب نفسه.
مذهبية جديدة
رغم انتماء الحركة الوهابية للمذهب الحنبلي فإنها جاوزت مناهج الحنابلة، وعلي رأسهم الإمام أحمد بن حنبل (164هـ – 780م – 241هـ – 855م) مؤسس المذهب نفسه، الذي لم نعرف عنه أنه قاطع المجتمع أو الدولة إبان فتنة خلق القرآن الشهيرة التي عذب بسببها في عهد المأمون وأخيه المعتصم، بل ظل يجتهد للأمة ولا يجتهد في مواجهتها وظل يعترف للمأمون وأخيه بأنهم ولاة شرعيون متأولون لا يخرجهم عن دين الإسلام، ومذهبه رغم تمسكه في العبادات بالآثار بيد إنه كان فيما يتصل بمعاملات الأمة يوسع فيها تييسرا علي الناس فجعل من أصول مذهبه الاستصحاب والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف والعادة، بمعنى أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا وأن العادة محكمة.
هنا نحن أمام مذهب يؤسس للحفاظ علي وحدة الأمة واستمرار مسارها التاريخي بلا تجزئة أو تفرقة أو اتهام لمنتسبيها من عموم المسلمين، بيد إن الوهابية التي تنتسب للمذهب الحنبلي تؤسس لمذهبية جديدة مغامرة ومقتحمة ولا علاقة لها بالمذهب الحنبلي وطرق ومناهج مؤسسه الأول، فقد نزعت يدها من طاعة الدولة الإسلامية التي كانت موجودة في ذلك الوقت وهي الدولة العثمانية وحاربت ولاتها ووصمت مواطنيها بالردة والشرك.
ظل محمد بن عبد الوهاب لا يعلن عن أفكاره، كما أسلفنا، إلا بعد وفاة أبيه الذي كان قاضيا وعالما حنبليا وهو أستاذه، ويبدو أنه ناقش والده فيما يعتريه من أفكار ووجد أن أباه يلحظ في منزعه المذهبي والفكري منازع للنفس والعقل أكثر منها التزاما بالقواعد المنهجية التي وضعها علماء المذهب الحنبلي في الفقه والقضاء وفي التعامل مع واقع الناس.
كانت هناك طبقة واسعة من العلماء أغلبهم من المذهب الحنبلي منتشرين في نجد والحجاز، كما كانت هناك طبقة أخري من العلماء الأحناف والشافعية ولكنهم أقل بالطبع باعتبار أن المذهب الحنبلي هو المذهب السائد في المناطق التي تمددت فيها الدعوة الوهابية بعد ذلك، وكان هناك جماعات من العربان والبدو في الجزيرة العربية أيضا فشا فيهم الغلو في الصالحين والأولياء وبناء القباب علي القبور والنذر والحلف وغيرها مما يصرفها الناس العوام إلي الأولياء بسبب الجهل بيد إنهم يصلون ويصومون ويعتقدون أن من يتقربون إليهم هم بشر وأن الله هو الواحد الأحد لكنهم يتخذونهم وسائط إلي الله تدينا وقربى إلي ، كما فشا بين القبائل الانقسامات والاستحواذ علي موارد كل طرف من قبل الآخر، ذلك أن منطقة نجد والحجاز كانت علي هوامش سلطان الدولة العثمانية لكنها ضمن حدودها وسلطانها عبر الأشراف الذين يحكمون مكة والمدينة ويشرفون علي تأمين مسار الحجيج.
مفارقة السلف
أعتقد أنها المرة الأولي في تاريخ الحركات الاجتماعية التي تنتسب للسلفية والتزام منهج الأولين من القرون الثلاثة الأولي التي تذهب إلي التوسع في عمليات استبعاد المسلمين من الإسلام وتعتبرهم مشركين ولا تقبل الجهل منهم فلا تعذر به باعتبار أنه مانع من موانع التكفير، بينما الأصل في الإسلام أن يقبل من الناس ما يبدون وأن وصمهم بالشرك والكفر بلا اكتراث هو منهج منافي لمناهج السلف “الذين لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب مالم يستحله”، فمصطلح “أهل القبلة” الذين يصلون إلي القبلة ويشهدون بشهادة الحق، لم تقم الوهابية له أي اعتبار، ولم تقر بأنهم لا يخرجون مما دخلوا فيه وما أثبت لهم بمجرد الشك، وناقضت بذلك ما استقر عليه العلماء بأن بقاء المسلم داخل الإسلام خير من أن تلفظه منه والعفو في إثبات الإسلام للمسلم خير من أخراجه منه بوهم أو ظن بلا إقامة للحجة.
أدخلت الوهابية في تعريفها للإسلام ما ليس منه، فاعتبرت أن للإسلام عشرة أركان، وهي الأركان الخمسة التي علمها جبريل للنبي صلي الله عليه وسلم، وأضافوا إليها الجماعة والسمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد. هنا فإن الوهابية هي الجماعة السلفية الأولي التي تؤسس تعريفا جديدا للإسلام تضيف إليه ما لم يشرعه النبي صلي الله عليه وسلم، وفكرة الجماعة هنا هي بالضبط تأسيس لمذهبية جديدة ذات طابع انقسامي بالضرورة ومفاصل لتاريخ أهل السنة والجماعة الذي يحترم ما عليه عوام المسلمين من تمسك بالدين حتي لو شابته بعض الشوائب دون استعلاء عليهم أو وصمهم بالكفر والشرك.
وهنا فأي حركة لاحقة للوهابية، ذات طابع مفاصل ومقاطع لمواريث وطرق العلماء في الفهم والفقه والتخريج، تأثرت بها. والقطبيون من أتباع سيد قطب ذهبوا للوهابية علي وجه الخصوص، ووضع أهم تلامذة سيد قطب “عبد المجيد الشاذلي” كتابا ضخما بعنوان “حد الإسلام وحقيقة الإيمان” طبعته جامعة أم القرى. هل الإسلام يحتاج إلى أولئك المغامرين لإعادة اكتشاف الإسلام من جديد ووضع مقاسات لإسلام وفق تعريف الجماعة يضعونها هم ومن يتبعون مناهجهم وقواعدهم وأصولهم التي تحجر علي الناس واسعا وتغلق أبواب الرحمة التي فتحها الله علي عباده، ويتألون على الله باعتبار أنفسهم قضاة على خلق الله يحكمون ويتحكمون فيهم وفي مصائرهم بالحكم عليهم بالكفر والشرك.
أسس الوهابية
السمع والطاعة هي المرادف المعاصر لمعنى البيعة التي استخدمتها الجماعات الإسلامية الحديثة والمعاصرة، والجماعة هي المرادف لمعنى التنظيم المغلق السري الذي يعتبرونه السبيل لتحقيق التمامية الإسلامية بإقامة دولة على منهاج النبوة يطلقون عليها خلافة، حسبما اعتبرت الوهابية الدولة السعودية وأئمتها من أبناء محمد بن سعود أئمة خلافة علي منهاج النبوة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أحد الأسس التي أرستها الوهابية، ويتم التعبير عنه بإكراه الناس على قواعد الدعوة وممارسة السلطة عليهم حتى لو أدي ذلك لاستخدام القوة. ويعد الجهاد هو التعبير الأعلى والممارسة العملية لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أرست الوهابية مبدأ آخر وهو أن يكون إلي جوار مؤسسات الدولة من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وهو ما يُعرف بحق آحاد الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجال العام، واعتبرت أن الجهاد والدعوة إليه لا يشترط له إذن الإمام، فالوهابية مارست أعمالها القتالية دون إذن من الإمام أو الدولة التي كانت تمثل المسلمين في ذلك الوقت.
كل حروب الوهابيين في الجزيرة العربية كانت ضد مسلمين اعتبرهم الوهابيون مشركين لأنهم ليسوا داخلين في جماعتهم التي تعتبرها الوهابية الجماعة الحقة المعبرة عن السلف الصالح، ومن ثم فإنهم خارجين من الملة يستحقون القصد بالقتال والقتل والاستباحة التي كانت تعني تطبيق أحكام الغزو والقتال تجاه الكفار والمشركين، من المسلمين الذين اعتبرتهم الوهابية مشركين. فكانوا يهاجمون هؤلاء المسلمين، المشركين بتعبيرهم ومقياسهم، وهم غارون أي وهم غافلون مرتاحون غير مستعدين للقتال أومتأهبين له دون دعوة أو إنذار أو تنبيه، لأنهم يعتقدون أن دعوتهم الوهابية قد بلغت الأمصار التي يهاجمونها ويكرون عليها لتطبيق مفهوم الجهاد.
وكان الوهابيون يقولون إن دعوتنا وصلت لتهامة والعراق واليمن والحرمين والشام، ومن ثم فإن المسلمين في تلك البلدان عليهم إن قدروا أن يتركوا بلدانهم ويهاجروا منها إلي دار الإسلام التي وضعت الوهابية يدها وسلطانها عليها، وهنا مفهوم الديار وأي دار نحكم عليها بالكفر والإسلام ؟ فالدور التي يقطنها مشركون/ مسلمون قد أطبقت عليهم الجاهلية وعبادة الأوثان والأصنام كما كان قبل بعثة النبي صلي الله عليه وسلم هي دور كفر وشرك، أما دار الإسلام فهي تلك التي انصاعت للتوحيد وسلطة الدعوة الوهابية، فهي دار هجرة علي الناس أن يهاجروا إليها حتي يكتمل دينهم وإسلامهم فإنه لا يجوز لمسلم أن يبقي مختارا بين ظهراني المشركين والكفار / المسلمين.
إلهام القطبية
حديث سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” الذي يتحدث فيه عن إطباق الجاهلية علي العالم المعاصر بما في ذلك العالم الإسلامي، ويدعو إلى تخليص العالم الإسلامي من جاهليته المطبقة بطليعة مؤمنة يتم تربيتها في محاضن الإيمان ثم تقوم هي بعملية تحرير العالم الإسلامي من الجاهلية، ستجده يشابه أقوال مفكري الوهابية ومنظريها، الذين تحدثوا عن إطباق الشرك علي كل الأقاليم الإسلامية من مصر إلي المغرب لا يستثنون من ذلك أحدا، فالإسلام في حكمهم يتم إعادته فقط عبر الوهابية التي يقودها محمد بن عبد الوهاب ويقوم في الناس مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
ارتبطت الوهابية بظهور شروح واسعة للمسائل العقدية وقضايا التوحيد والأسماء والصفات والتأسيس لمصطلحات مثل توحيد العبادة والألوهية بحيث تجد غالب المؤلفات والشروح والمتون التي وضعها محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه وأحفاده وامتدادتهم العائلية والأسرية تتعلق بقضايا أصول الدين، فحدث نوع من التعمق والتضخيم المبالغ فيه لتلك القضايا التي استحوذت بشكل كامل وكلي تقريبا علي مؤلفاتهم العلمية. في المقابل نجد أن أهل السنة والجماعة السابقين علي الوهابية كانوا يضعون متونا صغيرة تتحدث عن قضايا أصول الدين والعقيدة دون استنفاد كل جهدهم العلمي في شروحها وحدها دون غيرها، فمثلا أحمد بن حنبل وضع رسالة صغيرة في القدر لا تزيد علي عدة ورقات.
وضع محمد بن عبد الوهاب كتبا عديدة مثل كتاب “التوحيد الذي هو حق الله علي العبيد”، وقد نال ذلك الكتاب شروحا متنوعة ومتعددة من أبناء الشيخ وأحفاده ما بين نزعة تشدد تضاف للكتاب أو نزعة ضبط وتحقيق وإحكام للجم منازع التشدد فيه، وهناك كتاب “كشف الشبهات” وهو استكمال للكتاب السابق، وكتاب “مسائل الجاهلية”، و”الأصول الثلاثة”، و”أصول الإيمان”، و”فضل الإسلام”، و”مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد”، وجميعها تشي بأن مؤسس الدعوة الوهابية يضع الأصول ويؤسس لكشف الشبهات لتأسيس دعوة جديدة يراها دعوة الحق و أنها الموصولة بدعوة النبيين والمرسلين.
الإنسان الوهابي
تضخم قضايا العقيدة في العقل الوهابي واعتبار أن الوهابية هي المعيار التمامي الصواب لكي تكون مسلما حقيقيا ويصح دينك وتدخل الجنة، أفضى إلى أن يكون الآخر في التصور الوهابي هو الأشعري السني، والصوفية، والشيعة، وأهل وحدة الوجود والفلاسفة، وكل من خالف الفكر الوهابي، أي أن عمل الوهابيين الانقسامي في الحقيقة كان نشاطه الرئيسي نحو عناصر الأمة المسلمة الداخلة في معنى أهل السنة والجماعة بتعبير أبي الحسن الأشعري “مذاهب الإسلاميين واختلاف المصلين”، فالأشعري يرى أن الإسلاميين لهم مذاهب متعددة بالضرورة وأنه يمكن أن يكون هناك اختلاف بين أهل القبلة المصلين، الاختلاف هنا بمعنى اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد، بينما الوهابية لا ترى سوى مذهبها الوهابي وحده مذهبا ضروريا وواجبا لكل المسلمين، من يخرج عنه قدر أنملة فقد هلك، وأن المصلين جميعا عليهم أن يأتوا للوهابية لكي ينهلوا منها وحدها دون غيرها.
الوهابية إذن تريد في التحليل النهائي صياغة إنسان جديد هو “الإنسان الوهابي”، ذلك الذي يتبع الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدين وباعثه، في تعبير جديد يجسد مذهبية جديدة وليست تجديدية، تعبر عن غربة الإسلام، فطوبى للغرباء الذين سيعود معهم الإسلام قويا نابضا.
فكرة الولاء والبراء هي أحد الأفكار الضرورية والأساسية ضمن الوهابية، فالمذهبية الوهابية الجديدة تركز علي البراءة من الكفر كما تركز على الولاء “للمسلمين” وهم هنا الوهابيون. وساقت مؤلفاتهم تضمينات لمؤلفيها من أبناء محمد بن الوهاب بأنهم كانوا قبل أن يدخلوا في الدعوة الوهابية مشركين وكفار وأنهم دخلوا الإسلام بعد هدايتهم على طريق الإسلام الصحيح عن طريق الشيخ محمد بن الوهاب، كما تضمنت كتبهم شهادات لبدو شهدوا على أنفسهم بالكفر، كما شهدت على المطوعين الذين يقومون فيهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأتهم هم أيضا كانوا كفارا قبل أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بتوضيح الدين الصحيح لهم وإخراجهم مما كانوا عليه من الكفر والشرك. وهنا معيار الولاء للجماعة الجديدة، ومن قبلها إعلان التبرؤ مما كنت عليه من قبل، هو أحد المعايير الحركية والعملية المهمة التي تعني ممارسة ذاتية داخلية لتحقيق معنى التطهروالتوحيد الخالص بلا مواربة أو وجل أو خوف أو تمسك بما كان عليه السابقون من الآباء والأجداد.
كما تضمنت مؤلفات الوهابيين شهادات لشخصيات كبيرة من علماء مكة والمدينة، ومنهم الشريف غالب حاكم مكة والمدينة، ممن كانوا يعارضون الدعوة الوهابية في البداية وهم الآن بعد دخولهم يشهدون أنها دعوة الحق وأن الناس وماهم عليه في مصر والشام والعراق والمغرب وغيرها من بلدان العالم الإسلامي شرك وكفر تستحل به الدماء والأموال، وأن من هو مستمر علي معتقداته القديمة من بلدان تلك الدول المسلمة كافر ويجب علي إمام المسلمين قتالهم حتي يعيدهم إلي العقيدة الصحيحة، وهي العقيدة الوهابية.
استنساخ الوهابية
ويقول أبو الأعلى المودودي في كتابه “المصطلحات الأربعة” إن الناس في الجاهلية كانوا يفهمون معنى مصطلحات الله والرب والعبادة والدين، ومن ثم فإنهم لم يدخلوا الإسلام حتى تحققوا من دلالتها ومعانيها، أما مسلمي اليوم فإنهم لا يفهمون معانيها ومن ثم فهم بحاجة إلى إعادة توضيحها لهم حتى يحققوا معنى الإسلام الصحيح، وهو ما نجد جذوره عند الوهابية التي تقول إن الناس اليوم ليسوا كالمشركين القدامى، فالقدامى كانوا يشركون فقط حين يتعرضون للخطر في البحر، كما أنهم كانوا يشركون في الأنبياء، أما المشركون المحدثون فهم مشركون في كل الأوقات وتجاه شخصيات لا ترقى لمستوى الأنبياء ولا حتى الصالحين المخلصين.
أبو الأعلى المودودي
وفي الواقع فإن شكري مصطفى وجماعة التكفير في مصر ورغم أن مرجعيتها كانت الخوارج الأزارقة، بيد إنه اعتبر نفسه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق أحكام الإسلام، وأنه الإمام وجماعته هي الجماعة الحقة وهي جماعة المسلمين، وأن الناس منذ عصر الصحابة فقدوا صلتهم بالإسلام ولم يبق على وجه الأرض مسلمون، وأنه باعث الإسلام من جديد، كما استهان بالفقه ومواريث الفقهاء واعتبر نفسه رجلا مثلهم مؤسسا ومجددا، ودعا للهجرة واعتزال المجتمعات القائمة باعتبارها جميعا مجتمعات كافرة، واعتبر أن الناس جميعهم كفارا، وأن عليهم أن يهاجروا إلى حيث جماعته لتحقيق معنى الإسلام الذي لا يتحقق إلا بالجماعة والبيعة والطاعة، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، والجاهلية هنا معناها الكفر والشرك والردة.
جماعة التكفير والهجرة، أو جماعة المسلمين كما كانت تطلق علي نفسها، هي الوجه الآخر أو العملة الأخري للوهابية، فهذه تدعو للسلف وتلك تعبر عن الفكر الخوارجي، بيد إنهما يعكسان وجهين لعملة واحدة، تقول إن الإسلام له تعريف ومعنى مختلف عن الإسلام الذي يعرفه عوام المسلمين وغالبية المسلمين منذ ما بعد عصر الصحابة، وأن المسلمين لكي يكونوا مسلمين عليهم التزام المعايير التي يضعها الوهابيون أو التي يضعها التكفيريون، المهم أن هناك معيار ومقاس وضعه أولئك وهؤلاء، من يخرج عنه قدر أنملة فقد خرج من الإسلام وعليه لكي يعود للدين الحنيف مرة أخرى أن يلجه من باب الوهابيين السلفيين أو الخوارج التكفيريين.