ثقافة

مشاعل إسلامية (7): الباقلاني.. و”الإنصاف”

يعد الباقلاني* أول متكلم أفرد في مؤلفاته مقدمات أسهب فيها في الحديث عن المعرفة ووسائلها وشروطها. وإذا كان الباقلاني يعد من مؤصلي الفكر الأشعري، فإنه لم يكن مجرد مواصل لحمل تراث المتقدمين عليه، بل تم على يديه توضيح بعض النقاط وتحديد بعض المفهومات، ما أدى إلى تعديل مذهب الأشاعرة من بعض الوجوه، بل وإلى تقريبه من رأي المعتزلة.

فقد ذهب الأشعري إلى أن الفعل مكتسب للعبد بالقدرة الحادثة، التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل، ولم يجعل لهذه القدرة الحادثة أي فعالية في الفعل نفسه.. إلا أن الباقلاني على العكس من ذلك، ذهب ـمتأثرًا في ذلك بالمعتزلةـ إلى إثبات تأثير القدرة الحادثة في حال الفعل. وبحسب تعبير الباقلاني، فإن تحويل الحركة المخلوقة لله والمكتسبة من العبد، إلى طاعة أو معصية، فهي: “تلك الجهة المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب. فالوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب، وإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل الجزاء. والحسن والقبح هما صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح”.

الباقلاني

الإنسان ومسئولية الفعل

وفي ما يبدو.. هكذا ينتهي الباقلاني إلى تحميل الإنسان مسئولية قبح الفعل وحسنه، ونفي ذلك عن الله نفيًا تامًا. وبذلك نجح في سد الثغرة التي كانت قائمة بين “العدل” و”التوحيد” وأخضع كل ما يحدث في العالم لإرادة الله الشاملة.

وتبعًا لهذه الرؤية، فهو يذهب من جانب إلى أن مسألة الرؤية –رؤية الله سبحانه وتعالى– قائمة وتحصل بالإدراك؛ وبحسب قوله، فإن الله سبحانه “لا يُرى بالعين، وإنما بالإدراك الذي يُحدثه الله تعالى في العين وهو البصر”. وبصرف النظر عن كون تحليل الباقلاني هذا، هو تحليل “بدائي” ليس به تحديد لعملية البصر التي تحصل بواسطة جهاز العين؛ إلا أن ما يمكن استنتاجه هنا، هو اعتماد الباقلاني الواضح لمقولات المذهب الأشعري من حيث “إن الله قادر على أن يخلق هذا الإدراك في كل وقت، وحين ومتى يشاء” وبالتالي “فهو قادر على أن يخلق في عين الأجهر العمياء الإدراك لرؤيته تعالى” بحسب رؤية الأشعري.

وهو من جانب آخر، وإضافة إلى رؤيته في أن معجزات الأنبياء عليهم السلام جميعًا ليست من ذاتهم، وأفعالهم ليست بإرادتهم دون إرادة الخالق؛ فهو يرى ـبناءً على مسألة القدرة الإلهيةـ أن هناك فرق بين مسألتين: مسألة التكليف، ومسألة ما لا يُطاق. إذ يقول “إن التكليف المجرد موجود من الله تعالى، كقوله “أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [البقرة: 31].. وأما ما لا يُطاق فوجوده غير وارد، لأن المُكلف إما أن يكون عاجزًا لا يستطيع تحمله، وإما أن يكون كافرًا، فيعجز عن الإيمان لاشتغاله بالكفر… وإن الله تعالى أثنى على من سأله ألا يُكلفه ما لا يُطيق بقوله: “رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ” [البقرة: 286]…”.

رغم ذلك، أو بالرغم مما يبدو في هذين الجانبين وغيرهما، من تأكيد الباقلاني على مذهبه الأشعري؛ إلا أن مقدمات الباقلاني في ما كتبه عن المعرفة، التي تُعد أول مقدمات وافية تصلنا بهذا الشأن، فقد تأثر فيها بخطى المعتزلة وآرائهم “تلك الآراء التي لم تصلنا كاملة”.

الباقلاني

الضرورة وعلم المحسوسات

والواقع أن الباقلاني عبر أهم كتبه “الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به” كان قد قدم أفضل جواب عرفناه عن التساؤل “ما العلم؟”. إذ عرف العلم بأنه “معرفة المعلوم على ما هو به”.

وهو يُقسم العلم إلى نوعين: أولهما علم قديم وهو علم الله عز وجل، وليس ضرورة أو استدلالًا.. وثانيهما علم مُحدث وهو كل ما يعلم به المخلوقون من الملائكة والجن والإنسان وغيرهم من الحيوان. وينقسم علم المخلوقين إلى قسمين: “فقسم منهما علم ضرورة، والثاني منهما علم نظر واستدلال”.

أما العلم الضروري فهو: “علم يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه، ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به” وهذه العلوم الضرورية “تقع للخلق من ستة طرق: منها إدراك الحواس الخمس، وكل مُدْرَك بحاسة من هذه الحواس فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس، لا عن إدراك ببعض الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة والألم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق وكل معلوم بأوائل العقول”.

ومن الواضح، أن هذا العلم الضروري، هو علم “المحسوسات” أو الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمس. ومن الواضح، أيضًا، أن المعرفة الحسية عند الباقلاني، معرفة ضرورية لا يمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلقاتها. ويضاف إلى هذه الحواس الخمس، ما يطلق عليه الباقلاني “أوائل العقول”؛ وهي تلك التي: “تخترع في النفس ابتداءً من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس”.

ويبدو أن الباقلاني بذلك يساوي بين المعرفة الحسية والمعرفة البدهية (أوائل العقول) ولا يعلق الثانية بالأولى؛ بل إنه يؤكد هذا الانفصال الكامل بينهما بقوله “فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس، وجدت هذه الحواس وما يوجد بها من إدراكات، أو لم توجد”. وليس من المستبعد، كما يرى الباقلاني، أن تكون “هذه العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبدهي من خلق الله، ولا قدرة للإنسان عليها أصلا، فهي مما يجده الإنسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليه”.

الباقلاني

التفكر وعلم الاستدلال

وعلى العكس من ذلك، فإن العلم النظري كما يرى الباقلاني هو “علم يقع عقب استدلال وتفكر في حال المنظور إليه، أو تذكر لما نظر فيه، فكل ما احتاج من علوم إلى تقدم الفكر والرؤية وتأمل حال المعلوم فهو الموصوف بقولنا علم نظري، وقد يجعل مكان هذه الألفاظ أن نقول: “العلم النظري هو ما بني على علم الحس والضرورة، أو على ما بني العلم بصحته عليهما. ومعنى قولنا في هذا العلم إنه كسبي، إنه مما وجد بالعالم، وله عليه قدرة محدثة”.

وهكذا، فالعلم النظري بذلك مُباين للعلم الضروري من جميع الوجوه..

فهو أولًا علم استدلال يقع بعد نظر وتفكر في حال المنظور إليه، وهو ـمن هذه الزاويةـ مباين للعلم الضروري؛ لأن “من حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه” وهو ثانيًا مباين للعلم الضروري في أنه ما يقدر عليه العالم بالقدرة الحادثة. فهو علم من فعل العبد ويقع تحت قدرته، ولذلك يسمى “علمًا كسبيًا”. وهو ثالثًا ليس علمًا مبتدأ كالعلم الضروري بجانبيه الحسي والبدهي الذين يعدان مقدمات ضرورية له.

والجدير بالانتباه هنا، أن ثمة مرحلة وسطى عند الباقلاني، بين العلم الضروري والعلم النظري لابد من اجتيازها، ألا وهي مرحلة النظر والاستدلال. ويعرف الباقلاني الاستدلال بأنه: “هو نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس”.

وأيًا يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع تقسيمات الباقلاني للعلم، وطرقه في كيفية التوصل إلى المعرفة؛ إلا أن التعريف الذي قدمه للعلم، سوف يظل أفضل جواب عرفناه عن التساؤل: ما العلم؟.

إذ العلم –كما يؤكد الباقلاني– هو “معرفة المعلوم على مما هو به”.

هامش

* القاضي أبو بكر الباقلاني (338 هـ – 403 هـ / 950م – 1013م) هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضي أبو بكر الباقلاني البصري، الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب أهل السنة والجماعة، وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري، أحد كبار علماء عصره انتهت إليه رئاسة المذهب الأشعري، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، ويعد من مجددي المائة الرابعة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock