رؤى

الأهداف التركية.. في مناطق “الحماية” شمال سوريا

ساهمت مجموعة من العوامل المُرتبطة بالحرب الدائرة على الأرض السورية، والتي تتداخل فيها عدة قوى إقليمية ودولية بشكل لافت، في تقسيم للأراضي الحدودية شمال البلاد، إلى عدة مناطق تحظى بالدعم المُباشر من تركيا، تتمتع بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، خارج سيطرة الحكومة السورية؛ وتمتد من الغرب إلى الشرق في خمس مناطق تقع على الحدود الشمالية.

وكما يبدو، فإن ثمة “عوامل دافعة” لهذه المحاولات التركية، التي تستهدف خلق واقع جيوسياسي مختلف، على طول حدودها الجنوبية؛ هذا إضافة إلى ربط النشاط الاقتصادي لمناطق الشمال السوري مع جنوب تركيا، بما يُساهم في تحويل هذه المناطق إلى منظومة سياسية جديدة، تُلبي الطموحات التركية في إبعاد “الخطر الكردي”، بحسب تسمية الأتراك، بعيدًا عنها.

عدد من الأهداف تسعى إليها أنقرة، لإحداث تغيير في ملامح الحياة العامة، في المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها العسكرية، خاصة في الشمال السوري.

من هذه الأهداف، فرض الإدارة التركية على الشمال السوري؛ بما يعني أن الاستهداف التركي يتمثل في محاولة قطع أواصر العلاقات بين المناطق التي تقع تحت الحماية المُباشرة لها، في شمال سوريا، مع بقية المناطق السورية، عبر مجموعة من القرارات الاقتصادية والإدارية، التي تسعى كل منها إلى ربط تلك المناطق رمزيًا، مع تركيا في ما أصبح يُعرف بسياسية “التتريك”؛ فضلًا عن افتتاح أنقرة فروعا للجامعات التركية في مناطق الشمال السوري، منذ أوائل عام 2021، وتحديدا في محافظة إدلب؛ حيث الدراسة فيها باللغة التركية.

ليس هذا فقط، بل تحاول أنقرة، في خطوة وراء أخرى، إحداث تغيير في ملامح الحياة، الاقتصادية والإدارية، في مناطق الشمال السوري التي تخضع لسيطرتها. ضمن تلك الخطوات، كمثال، جاء إطلاق “سجل مدني” في مدينة إدلب، يعمل بوصفه جهة رسمية من خلال إدارة عدد من الدوائر الرديفة في مختلف تلك المناطق. وتقوم هذه المؤسسة بإصدار معظم الوثائق الخاصة بالملكية سواء العقارية أو الزراعية؛ وكذلك الوثائق المتعلقة بالعلاقات المدنية، من حالات ولادات أو وفيات أو زواج، أو غيرها من العلاقات المدنية.

من هذه الأهداف أيضا، ربط النشاط الاقتصادي لتلك المناطق مع تركيا؛ إذ تسعى أنقرة إلى أن تكون كافة تفاصيل النشاط الاقتصادي، في المناطق الحدودية المناطق التي أنشأتها في الشمال السوري، مرتبطة ومتداخلة مع الاقتصاد التركي ونفوذه داخل سوريا. ومع فقدان النظام إمكانية السيطرة الفاعلة على مساحات واسعة من الأراضي، في شمال غرب البلاد، شهد النشاط الاقتصادي والتجاري، في تلك المناطق تحولا كبيرا في الاتجاه التركي.

فبعد أن هُمشت حلب، التي كانت تُمثل المركز الاقتصادي والإداري الأساسي في الشمال الغربي من سوريا؛ أصبحت المعابر الحدودية مع الجنوب التركي، هي البوابة الرئيسة إلى الخارج، من حيث حركة الأشخاص ووصول المعونات والمساعدات الإنسانية؛ ومن ثم، تحول الجنوب التركي إلى المصدر أو الممر الرئيس للنشاط التجاري، وساهم ذلك في تشكُّل اقتصاد عابر للحدود يُقدر حجمه بمليارات الدولارات.

من هذه الأهداف كذلك، تحويل مناطق الحماية التركية إلى واقع سياسي جديد؛ فإضافة إلى الأنشطة العسكرية، قامت أنقرة بتفعيل أدوارها في مجالات متعددة؛ مثل المساعدات الإنسانية ومحاولة إرساء قدر من الاستقرار في المناطق التابعة لها. وفضلا عن افتتاح فروع للجامعات التركية في محافظة إدلب، حيث افتتحت فيها كلية للطب البشري وستة معاهد تقنية؛ فرضت أنقرة اللغة التركية لغة أساسية على الطلاب، في مقابل إلغاء التدريس باللغة الكردية، حتى في المناطق التي يُشكل فيها الأكراد أغلبية.

بل إن الأهم من ذلك أن تركيا والموالين لها، كانت قد عمدت منذ فترة إلى تغيير أسماء القُرى والبلدات والشوارع، إلى الدرجة التي أطلقت فيها اسم “ساحة أتاتورك” على مركز مدينة عفرين. وهذا مجرد مثال، ضمن أمثلة كثيرة على سياسات تركية متعددة لتحويل مناطق الحماية الخاصة بها، إلى كيانات مُرتبطة مع أنقرة، اقتصاديًا وإداريًا وتعليميًا، في محاولة منها لتشكيل واقع سياسي جديد في تلك المناطق؛ واقع يُشير إلى ترسيخ ظاهرة مناطق الحماية التركية على طول الحدود مع سوريا، ولفترة مستقبلية.

تتبدى المحاولات التركية في تقسيم الشمال السوري، خاصة المناطق الحدودية منه، عبر مجموعة من المؤشرات.. لعل أهمها هي التالية:

من جانب، التدخل العسكري التركي في شمال سوريا؛ فمنذ عام 2016، شهدت مناطق الشمال السوري ثلاث تدخلات عسكرية مباشرة، من جانب تركيا. كان أول هذه التدخلات، ما حمل اسم “درع الفرات”؛ ثم تبع هذا التدخل حملتان عسكريتان، خلال عامي 2018 و2019 على التوالي. ومن خلال هذه الحملات العسكرية الكبرى، استطاعت تركيا إنشاء ثلاثة مناطق تحت حمايتها المُباشرة، هي: درع الفرات وعفرين ونبع السلام، في شمال غرب سوريا.

ورغم أن أنقرة قامت بتوسيع مظلة الحماية التركية إلى منطقة رابعة هي إدلب التي تخضع لسيطرة قوات المعارضة السورية المسلحة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لديها، لضمان الاستمرار في ارتباط هذه المناطق بها؛ لذا حاولت فرض السيطرة التركية عليها، ليس فقط من خلال ربط النشاط التجاري لمناطق الشمال السوري عبر الحدود بالجنوب التركي، ولكن أيضا عبر التحكم في قنوات المساعدات الدولية التي تمر إلى الداخل السوري عبر الحدود التركية.

من جانب آخر، وهو الجانب الأكثر الأهمية، صعوبة السيطرة السورية على تلك المناطق؛ فبالرغم من أن الحكومة السورية وقواتها المسلحة هي الطرف الوحيد، الذي يمكنه توسيع سيطرته على بعض المناطق في الشمال السوري؛ إلا أن مثل هذه العملية لا يمكن أن تحدث، دون تفاهم مُسبق مع كافة القوى الدولية، فضلا عن الإقليمية خاصة تركيا، التي تُقدم الدعم لهذه المناطق.

إذ من شأن أي محاولة من جانب النظام السوري، للسيطرة على واحدة، أو أكثر من تلك المناطق من شأنها أن تتسبب في اندلاع نزاع، بل صراع، عسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية أو تركيا؛ الولايات المتحدة التي تدعم قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي من سوريا؛ وتركيا في حالات درع الفرات وعفرين ونبع السلام، أو حتى في حالة إدلب التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام.

في هذا السياق، يُمكن القول بأن مناطق الحماية التركية في الشمال السوري، على الحدود السورية التركية، سوف تستمر على الأقل في المستقبل القريب؛ حيث يبدو إن إدلب ستبقى خاضعة للنفوذ التركي، مع المناطق الثلاث الأخرى، إضافة إلى منطقة رابعة في الشمال الشرقي الذي يُديره الأكراد؛ وهو سيناريو تبدو ملامحه بوضوح على الأرض، عبر محاولات التتريك التي تجريها أنقرة في هذه المناطق.

بل إنه من الملاحظ أن تركيا تعتبر أن أكثر من أربعة ملايين سوري، من أولئك المُقيمين في مناطق الشمال السوري، بمثابة مهاجرين على أراضيها؛ إضافة إلى أربعة ملايين آخرين في الداخل التركي. وهؤلاء وأولئك يشكلون معا قرابة 8 ملايين سوري، أي “ثُلث” سكان سوريا؛ الذين تحاول تركيا ربطهم بسياساتها وخياراتها المستقبلية، مع كافة ما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات على “الدولة السورية”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock