كتبت قبل الثورة كثيرا عما أطلقت عليه “الإسلام المشارك”، وأسمح لنفسي أن أقول إنني من صك هذا المصطلح بعد قراءتي خبرات إسلامية أخرى، آسيوية خاصة، غير خبرة الإسلاميين العرب. فقد لاحظت أن الإسلاميين في تركيا علي سبيل المثال لم يطرحوا أنفسهم كقوة مواجهة للدولة التركية العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك(1881-1938)، بعد أن ألغى الخلافة الإسلامية التي كانت صفحاتها قد أوشكت على النهاية وشمسها قاربت المغيب منذ عام 1908م.
فقط في خبرة الإسلاميين العرب نجد من يطرح نفسه كقوة مواجهة للدولة، باعتبارها بنظرهم مؤسسة للجاهلية تنازع الله سبحانه وتعالي أخص خصائص ألوهيته وهو التشريع والحكم. من هنا ظهر ما أطلقت عليه “الإسلام المواجه”، أي الإسلاميين الذين يجدون أنفسهم بالضروة في مواجهة الدولة وضرورة إزالتها والقضاء علي وجودها لتأسيس دولة متوهمة عندهم إما مستدعاة من التاريخ باسم الخلافة أو دولة إسلامية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الدولة التي يُراد زوالها فقط وضع شارة الإسلامية عليها .
سوف ندهش حين نعرف أن الأتراك الذين يرون أن الدولة تسبق الدين بخطوة وأن الدين لا يمكن أن ينهض إلا في سياق دولة، اعتبروا أن سلطات الخلافة ومؤسساتها انتقلت إلى الجمهورية التركية الحديثة، فقط تغيرت أشكالها ووظائفها. صحيح أن كثيرين من المثقفين الأتراك لم يتحملوا قسوة ذلك التحول وجاء بعضهم إلى مصر، ومنهم محمد عاكف أرصوي (1873-1936) مؤلف النشيد الوطني التركي، الذي تأثر بالفكر الإصلاحي للشيخ محمد عبده والأستاذ محمد فريد وجدي، بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإسلاميين في تركيا ظلوا يعتبرون الجمهورية دولتهم ويجب الحفاظ عليها وحمايتها.
محمد عبده
في المقابل نجد التيار الإسلامي العربي ذا الملمح الهوياتي، الذي ظهر مع مطلع القرن العشرين، المجاوز لمنطق التيار الإصلاحي الساعي للتوفيق والعقلنة وتجنب المواجهة المطلقة دون تريث لمآلاتها، يغلب منطق المواجهة مع الدولة واعتبار المؤسسات الحديثة للدولة محل شك وعدم ثقة واطمئنان، مثل الدستور والمجالس النيابية والأحزاب السياسية والأفكار المؤسسة للحداثة السياسية مثل التداول السلمي علي السلطة وحق الشعب في أن يكون مصدرا للسلطات. هذه أفكار لم تعرفها الخبرة الإسلامية، فنحن نريد بضاعتنا الإسلامية التي تؤسس لدولتنا، فلا حكم إلا لله ولا حل إلا بالإسلام.
أريكان
فكرة “الإسلام المشارك” في تركيا وماليزيا هو أن الدولة للمواطنين جميعا بما في ذلك التيارات الإسلامية، ظل الإسلاميون في العالم العربي يرفضونها حتى وهم في سدة الحكم، فالرئيس القادم من خلفية إخوانية يري نفسه إخوانيا حتى بعد أن أصبح رئيسا لكل المصريين ملتزما بما تفرضه قواعد الإدارة والسياسة لدولة وطنية مختلفة عن سياق التنظيمات والجماعات خارجها، ولم يرضح لإرادة الشعب حين طالبه بالتراجع من أجل استمرار التجربة الديموقراطية الوليدة في مصر. في المقابل نلاحظ أن “أربكان” أبو الإحياء الإسلامي في تركيا رضخ لإبعاده عن السلطة من قبل الجيش فيما عُرف بانقلاب ما بعد الحداثة عام 1997 ورفض أن يعطي أوامره لأنصاره بالنزول إلى الشارع وتهديد وجود الدولة وفتح الباب للاقتتال الداخلي.
مهاتير محمد
الدولة لا يمكن تعريضها للخطر في التصور التركي، بينماتصور الإسلاميين العرب عن دولتهم أنها بدعة جاهلية ومنتج غير إسلامي، ومن ثم لا بد من البحث عن سبيل لمواجهتها أوالتخلص منها وبناء دولة جديدة بأيدينا نحن.
يعود الإسلاميون العرب إلى حيث بدأوا من جديد، يتجادلون حول التنظيمات والأسر وكتابات البنا وسيد قطب و”دعاة لا قضاة” والنقد الذاتي وحدوده وسيرة النبي وكيف نتعامل معها، تشوش فكري كبير أحدثه بلا ريب أثر الصدمات المروعة والصعبة التي وضع الإسلاميون العرب أنفسهم فيها بتبني سبيل الإسلام المواجه مع الدولة. تحتاج تلك الجدالات إلى تحرر حقيقي من أوهام الماضي لمواجهة أسئلة الحاضر الصعبة، ولا سبيل أمامهم سوى العودة للإسلام المشارك الذي لا يرى نفسه يحمل حقيقة فوق الناس أو يبني حقائقه معتزلا الناس أو يستتر بها خلف تنظيماته وأفكاره ونماذجه وأسواره التي بناها عالية ظنا أنها ستحميه فإذا بها سبب حيرته وهلاكه. الحرية هي سبيل النجاة، ولا نجاة بدون تحرر من أوهام الماضي وأسره وجدالاته .