كان لي شرف الاقتراب من كثيرين من رموز ثورة يوليو 1952، حاورتهم جميعاً حوارات معمقة حول ثورة يوليو وما جرى فيها ولها، من أبرزهم: علي صبري، حسين الشافعي، شعراوي جمعه، محمد فائق، سامي شرف، وغيرهم. وحين فكرت أن أكتب هذا المقال في “أصوات” في ذكرى مرور 66 عاما على ثورة يوليو، لم تدم حيرتي طويلاً حتى وقع اختياري على أن أخصص هذا المقال لبعض ذكريات شعراوي جمعه، الرجل الذي سعى هو إلى التعرف عليَّ، وبادر متكرماً إلى مهاتفتي ودعوتي إلى اللقاء معه.
وأعترف أني رغم بعض الخلافات التي كنت أثيرها مع بعض أفكاره وقناعاته السياسية وقتها، ورغم أني كنت أثير في وجهه الكثير من التساؤلات القلقة حول حقيقة ما جرى بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر خلال الأشهر السبعة التي انتهت بسجنه هو وعدد كبير من قيادات دولة عبد الناصر في الوقائع الشهيرة التي سميت زوراً وبهتاناً “انقلاب 15 مايو”، إلا أنني كنت أستشعر صدقه ومصداقيته في كل ما يطرح من أفكار أو يقترح من سياسات للتيار الناصري وقتها.
كان رحمه الله مستمعاَ جيداً، ويستمتع جداً بالخلاف معه أكثر من الاتفاق على ما يقوله، وأذكر مرة ونحن وقوف أمام باب شقته حين كان يتكرم عليَّ بتوديعي أمام باب الأسانسير سألته: لو أني أعرفك قبل عشرين سنة ماذا تتوقع أن يكون مصيري؟، قال مداعباً وصادقاً في نفس الوقت: “كنت ها تبقى في السجن يا بطل”.
وحين رحل الرجل كان لي شرف وحظ أن أكتب وأحقق شهادته للتاريخ التي أودعها بصوته وصورته في شرائط فيديو كاسيت، وهي الشهادة التي صدرت في كتاب عن مؤسسة الأهرام العريقة[1].
هو من دون شك من أشهر وزراء الداخلية في التاريخ المعاصر، وأحد الأسماء الكبيرة في عصر الزعيم جمال عبد الناصر. تولى مناصب وزير الداخلية، وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي، وأمين طليعة الاشتراكيين (التنظيم السري لعبد الناصر)، وكان واحداً من الوزراء الأقوياء في مشهد ما بعد نكسة 1967. كما شارك في إدارة اللحظة الانتقالية التالية على وفاة عبد الناصر، قبل أن يدخل في صدام مع الرئيس الجديد آنذاك أنور السادات، ما أدى إلى خروجه من المشهد السياسي في الحركة التي وصفها السادات بـ «ثورة التصحيح» مايو سنة 1971.
وانطلقت بعدها حملة ضارية ضد الرجل استمرت طوال سنوات وجوده في السجن قبل أن يرد إليه الاعتبار جزئياً بعد خروجه حتى وفاته سنة 1988.
أعرف أنه لا يمكن لمقال مهما كثرت فقراته وتكاثرت كلماته أن يحيط بالكثير من الحوارات مع شخصية بحجم ودور شعراوي جمعه، ولكني أثرت هنا أن أتنقل بين بعض ذكرياته التي حكاها لي رأيت أن لها دلالات واضحة، وقد كان قريباً من «الريس» في لحظات فاصلة كثيرة في تاريخ الأمة.
وحين كنت أبحث في ذاكرته عن مواقف إنسانية مع الزعيم الراحل، التي تكشف جوانب عدة أخرى في شخصية عبد الناصر وكيفية إدارته رجاله في أيام حملت مستجدات ضخمة كان لسانه ينطلق بحكايات كثيرة يحكيها بلغة مفعمة بالمحبة والفخر والتقدير والاحترام.
الجيش والسياسة
يتذكر شعراوي جمعه موقفا لا ينساه حصل في أغسطس 1970 قبل وفاة الرئيس عبد الناصر بنحو شهر أو أقل. يقول: هاتفني «الريس» قائلاً أنا رايح الإسكندرية وأنت ها تعمل إيه؟ أجبته: أنا باقي في مصر. فقال لي: قسم الأسبوع بينك وبين سامي شرف، بحيث أنت تأخذ يومين، أو ثلاثة وتعالَ، وهو يأخذ يومين أو ثلاثة بالتبادل بينكم.
قلت له: والله يا ريس أنا مبسوط هنا، وأولادي موجودين في الإسكندرية، أنا عندي شغل كتير.
فقال: لا، لازم تيجي. فقلت له: حاضر.
حين وصلت إلى الإسكندرية وجدت الأخ سامي شرف عند «الريس»، كذلك الأخ كمال الدين رفعت، وفتحي الديب ومحمد حسنين هيكل وكان وزيراً للإرشاد، وانضممت إلى الاجتماع «المؤتمر»، وكان الموضوع المطروح للمناقشة أحد أكثر الموضوعات حساسية لدى عبد الناصر.
في تلك الفترة كان الموقف بيننا وبين حزب البعث الحاكم في العراق سيئاً للغاية، وكانت ثمة محاولات من بعض العراقيين في مصر لتجنيد عدد من المصريين، واستطاعت أجهزة وزارة الداخلية أن تمسك بهم، وحصلنا منهم على معلومات تفيد بأن حزب «البعث» يسعى إلى تجنيد بعض العناصر داخل القوات المسلحة.
وهذه نقطة حساسة جداً لدى عبد الناصر، فأحد أهم نجاحاته الكبيرة، أنه تمكن بعد ثورة يوليو 1952 أن يبعد الجيش عن السياسة، وأن يمنع تكرار صور الانقلابات التي كانت تحصل في دول عربية عدة، فإذا كان هو لا يسمح بوجود حزبي مصري داخل القوات المسلحة، فالمؤكد أنه سيرفض بشدة أن يسمح لأي حزب عربي آخر أن «يلعب» داخل القوات المسلحة. لذا بدا الرئيس في هذا المؤتمر غاضباً بشدة، واجتمع بي بعد الاجتماع الرسمي وفي وجود الوزير سامي شرف وتكلم بشدة قائلاً لي: أنت مسؤول عن الأمن كله في مصر.
طبعاً مسؤوليتي كوزير داخلية ليس ضمن اختصاصاتها تأمين القوات المسلحة، وثمة أمور حساسة في هذا الشأن من أيام المشير عبد الحكيم عامر، فقلت له: أنا لا دخل لي بالقوات المسلحة. فقال لي: «لا أنت مسؤول عن كل أنواع الأمن». وراح يعطينا دروساً عن العلاقة مع القوات المسلحة، والعلاقة مع الشعب، وتحدث عن مؤامرات الدول الاستعمارية، وعرَّج على الحديث عن العلاقة مع الدول العربية والاتحاد السوفياتي وحملنا مسؤوليات كبيرة.
أتذكر هذا اللقاء وتفاصيل كلام عبد الناصر فيه، وأرى أنها كانت وصية مودع، كأنما أراد أن يبصرنا، دون أن ندري، بالمسؤوليات الجسام التي يضعها على عاتقنا. ورغم إسهاب الرئيس في الحديث معنا في الأمور كافة تقريباً فإنه لم يكن في الحالة النفسية المريحة المعتادة، وحين انتهت المقابلة استأذنته في السفر في صباح اليوم التالي، فقال: لا، اقعد. فقلت له: لا أنا مسافر، وسامي سيبقى هنا.
شعر الرئيس بأنني غير مستريح، ربما من الشدة التي تبدت في كلامه، خصوصاً تحميلي مسؤولية كل ما يحدث على الصعيد الأمني في مصر، فقال لسامي: «أنا شاعر إن شعراوي زعل، على العموم أنا ها أكلمه بالتلفون لما أنزل مصر».
بعد مرور يومين علمت أن الريس في طريقه إلى القاهرة، وكنت أتابع موكبه بواسطة الشرطة إلى حين وصوله إلى منزله وإذا به على التلفون، قلت له: الحمد لله على السلامة. فقال لي: أزيك أنت لسه زعلان؟ فقلت له: أزعل من إيه؟ مش ممكن يكون فيه زعل، سيادتك تضع المسؤوليات، ونحن ننفذ.
وراح عبد الناصر يتحدث مجدداً بالطريقة المحببة والمعتادة وبحسه الإنساني الراقي، حديث الأخ والأب والمعلم.
مؤامرة وعزومة
كان عبد الناصر يثق في الرجال الذين يعملون معه، ويحاسبهم بشدة إذا اقتضى الأمر، ولكنه لم يكن ليستمع إلى أية وشاية ضدهم في الوقت نفسه. وحدث معي ما يثبت ذلك ويقدم البرهان الساطع على كلامي.
تلقى الرئيس تقريراً غاية في الغرابة، بأن شعراوي جمعة، يعد لانقلاب ضده، وكان التقرير موقعاً باسم شخص يعرفه هو شخصياً، ويقول إنه حينما أجرى الرئيس تعديلاً وزارياً، أدرج فيه سامي شرف، ومحمد حسنين هيكل، وسعد زايد، وتم ترقية مجموعة أخرى لدرجة وزير في عام 1970، عقد شعراوي جمعة اجتماعاً مع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وقال: «إن الرئيس اتخذ إجراءات بتعيين وزراء من دون أن يأخذ برأينا في هذا الأمر، ومن دون الرجوع إلينا»، وأنني قلت إنه لا بد من أن نحتج على هذا الأسلوب من الرئيس. ولكن علي صبري طلب مني التروي، وقال إنه لا داعي لأن نهاجم عبد الناصر ونحتج عليه جميعاً، وإن عليّ أن أقابله بمفردي وأبلغه هذا الأمر.
هذا التقرير ليس له معنى غير أن هناك مؤامرة ضد عبد الناصر، مؤامرة لو قيلت على هذه الصورة لأنور السادات لأعدمنا جميعاً، لكن الرئيس قرأ التقرير وأرسله إلى سامي شرف من دون أية تأشيرة عليه، ولم يهتم بما جاء فيه. إلا أنه فقد الثقة فيمن أرسله، وتعامل وكأن شيئاً لم يحدث. وفيما لم يفاتحني الرئيس في تقرير يتضمن مثل هذه الوشايات الخاطئة والمثيرة، كان له موقف آخر في حادثة أخرى تدل على حساسيته تجاه أي خطأ قد يحصل من أحد معاونيه.
حين عُيِّنت محافظاً للسويس، كنت أسكن في شقة صغيرة مكونة من أربع غرف، وكان أبنائي صغاراً، وغادرت إلى السويس، وأمضيت فيها أربع سنوات. كبر أبنائي، وكنا آنذاك نشتري أثاث المنزل بأنفسنا، ولا تتكفل المحافظة به، بل أمنح المنزل من دون أثاث.
قررت أن أسافر إلى دمياط لشراء الأثاث، ولم يكن معي مال يكفي لابتياع حاجاتنا، فاستلفت من بنك مصر 1200 جنيه، واشتريت صالوناً وسفرة وغرفة نوم ومكتباً، ونقلت بعض الأثاث القديم إلى السويس.
بعد أربع سنوات عُيِّنت وزيراً في مجلس الرئاسة المشترك بين مصر والعراق، وكنت أحضر اجتماعات مجلس الوزراء، ولم أكن من الوزراء اللامعين في ذلك الوقت، وكان لدي أثاث يكفي شقتين، وكان أبنائي كبروا، وأريد أن أسكن في منزل كبير. سألت عن القيمة الإيجارية للوحدات السكنية، وعلمت أن ثمة شقة بالمواصفات المطلوبة، ولكن إيجارها مئة جنيه، ما يعني أن أدفع مرتبي كله تقريباً فيها شهرياً.
واستمرت الحال على ذلك إلى أن قابلت الأخ صلاح دسوقي وهو أحد ضباط البوليس المصري القلائل الذين اقتربوا من الضباط الأحرار في البداية، إذ كانت تتجاور الكلية الحربية وكلية البوليس، ما منح الفرصة للاختلاط والتعارف، وهو بنى صداقة مع عدد من الضباط الأحرار، وكان محافظاً للقاهرة آنذاك، وقلت له: يا صلاح أنا عايز أسكن ولا أجد شقة تناسبني.
ذكر لي صلاح أن ثمة «فيلا» قديمة في مصر الجديدة، كان يقطنها الأخ فتحي الشرقاوي الذي كان وزيراً للعدل، وأنه خرج من الوزارة الماضية، وأبلغني المحافظ أنه سيطلب منه أن يؤجر لي هذه الفيلا. وافق واستأجرتها من دون أن أراها، وكانت أربعة طوابق، وتصادف أنه أثناء الفترة التي عملت فيها وزيراً في مجلس الرئاسة المشترك، أي نحو سنة، أن زوجات الوزراء الآخرين كن يدعون زوجتي إلى بيوتهن للتعرف إليها، ولم يكن لدينا منزل في القاهرة وعندما استلمنا منزلنا الجديد قررت زوجتي أن ترد دعوة كل الذين دعوها سابقاً، وفعلاً أقامت دعوة كبيرة وانتهت الحفلة، ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد.
دخلت على الرئيس لتقديم بعض الأوراق، بعد نحو 10 أيام من تلك «العزومة»، وإذا به يسألني: هل أقمت حفلة وعزومة في منزلك الأسبوع الفائت؟
أجبت بالنفي، فقال: كيف؟ سيارات كثيرة كانت أمام منزلك.
فأجبته بنعم، وقلت له إنها زوجتي، وشرحت له القصة من البداية إلى النهاية. فقال إنه تلقى معلومات بعد الحفلة تقول إن شعراوي جمعة استغل مركزه وحصل على قصر من الحراسات، وتابع: قلت لنفسي أنا عينت شعراوي وزيراً لأنه رجل شريف ونزيه وكفء فكيف ينحرف عندما يحصل على المنصب، فكلفت علي صبري وسامي شرف كلٌ بمفرده ليجمعا لي المعلومات والتحريات التي أكدن صحة هذا الكلام الذي ذكرته لي الآن، ولكن علينا أن نأخذ درساً مما حدث، والدرس هو: «لا تدعُ كل من هب ودب إلى بيتك، لأن البعض سيخرج ويقلب الحقائق».
هذا هو عبد الناصر، كان حساساً جداً تجاه أي مظهر يدل على انحراف معاونيه، ويتابع كل من حوله ويتحرى ما إذا كانوا انحرفوا. كان يقظاً وفي الوقت نفسه إنساناً يقدر الآخرين ويخاف على سمعتهم وأخاً ووالداً ومعلماً وقائداً كبيراً.
عندما غضب عبد الناصر
في 9 مارس 1969، تٌوفي عبد المنعم رياض، وكان رئيس أركان حرب القوات المسلحة بعد النكسة، وأحد أكفأ الضباط في العمليات وإدارة المعارك. تلقينا الخبر ونحن جالسون في اجتماع مجلس الوزراء، حيث استلم الرئيس ورقة، نظر فيها ثم أعطاها لفوزي، ثم غادر الأخير بعدها فوراً، فسألنا ماذا حدث؟
واتضح أن عبد المنعم رياض، كان يعاين موقعاً من مواقع العمليات في الضفة، وبعد ذلك سقطت قنبلة وانفجرت إلى جواره، واستشهد. أقيمت جنازة عسكرية شعبية له في اليوم التالي من ميدان التحرير، وحفاظاً على الأمن أمرت بنزول نحو 10 آلاف عسكري من جنود الأمن، لأن الجنازة ستسير من ميدان التحرير إلى جامع شركس، وسيشارك فيها الرئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء.
سارت الجنازة في طريقها المرسوم، وتوجهنا من ميدان التحرير إلى أول شارع قصر النيل، وهناك هجمت الجماهير، وذاب الـ 10 آلاف عسكري وسط الجموع الغفيرة التي ملأت الميدان وما حوله من شوارع، وأصبح عبد الناصر وسط الجماهير، وأثناء سيره، جاء إليه من يقول، بعدما غادر أعضاء مجلس قيادة الثورة الجنازة: «تفضل يا سيادة الرئيس من الجنازة، لأننا لن نستطيع السيطرة عليها»، فإذا به يغضب جدا، وأشاح بوجهه عنه، وواصل السير في الجنازة.
كنا عام 1969، بعد النكسة، وبعد التظاهرات عام 1968، وكانت الأجواء متوترة بما يكفي، وكانت حرب الاستنزاف في أوجها، ثم استشهد الفريق رياض، فنزل جمال عبد الناصر وسط شعبه ليس بينه وبينهم حُجَّاب، من دون شرطة أو جيش أو أية حماية، وكانت من أسعد لحظات حياة جمال عبد الناصر.
أزمة الزمالك
ثمة ثلاث قضايا لم أتمكّن من مناقشتها مع الرئيس عبد الناصر، تعمد هو ألا يناقشني في قضيتين منها، ولم يمهله القدر كي يناقشني في الأخيرة، وكانت قبل وفاته بساعات.
الواقعة الأولى، التي لم يشأ الرئيس أن يناقشني فيها، كانت تخص اعتصاماً قام به عساكر الشرطة في الجيزة، وحدث أنني فوجئت ذات يوم بعساكر الأمن، أو الدرجة الثانية في الجيزة، قرروا الاضراب، وخرجوا في تظاهرة على طول شارع «نوال» في منطقة «الدقي»، وكان فيه مركز قوات الأمن، وتوجهوا بتظاهرتهم إلى مديرية أمن الجيزة، على بعد نحو ثلاثة كيلومترات، وكانوا يرددون هتافات ضد مدير الأمن والضباط عموماً، ثم عادوا فاعتصموا في المبنى.
هذه كارثة بكل المقاييس، فلم نكد ننتهي من احتجاجات المدنيين، حتى ندخل في احتجاجات العسكريين، توجهت فوراً من الوزارة إلى مركز قوات الأمن، وكان بعض الضباط متخوفاً من أن يشاهد وزير الداخلية اعتصام العساكر. حاولوا منعي فرفضت، وحين وصلت إليهم وجدتهم يجلسون على الأرض، فطلبت مقعداً، وجلست بينهم، وسألتهم: إيه الحكاية يا أولاد؟
قالوا إنهم خرجوا إلى مباراة كرة قدم في نادي «الزمالك» منذ الصباح من دون إفطار، وإن أحد الضباط تحدث إليهم بطريقة غير لائقة، فيما كان المواطنون يشاهدونهم من النوافذ حول المعسكر، ثم ذهبوا إلى المباراة من دون غداء أيضاً، ووزِّع على كل منهم رغيف خبز وبصلة، وهم اعتبروا تعامل هذا الضابط معهم ماساً بكرامتهم. من ناحيتي، رأيت أن العساكر على حق، واتخذت فوراً إجراءات ضد الضابط وأحلته إلى التحقيق، وأصدرت أمراً بنقله، ونقل المعسكر إلى نقطة أخرى، وانتهى اعتصام العساكر على خير.
حينما عدت إلى الوزارة في المساء، كتبت خطابين للرئيس عبد الناصر، الأول شرحت فيه ما حدث، والثاني تقدمت فيه باستقالتي من موقعي كوزير للداخلية، وسلمتهما إلى سامي شرف، وطلبت منه تسليمهما للرئيس. حينما فتح الرئيس الخطاب الشخصي، وفوجئ بالاستقالة، سأل لماذا يتقدم شعراوي بالاستقالة؟ وحينما علم بالأمر فتح الخطاب الآخر، واطلع على التقرير الذي كتبته، فأعطى الخطابين لسامي شرف، ولم يفتح الموضوع معي بعدها، وكأن شيئاً لم يكن، واكتفى بأنني شرحت له الموقف، ولم يناقشني في الموضوع نهائياً.
اختراق واغتيال
موضوع آخر على قدر كبير من الخطورة لم يناقشني فيه الرئيس، وتفاصيله هي أن أحد الإسرائيليين يدعى «إيتان»، أنشأ محطة إذاعية تبث برامجها من شرق البحر المتوسط، وكان يؤكد فيها باستمرار أنه رجل سلام، وأنه سيزور القاهرة، ويعقد مؤتمراً صحافياً يدعو فيه إلى السلام، فطلب مني الرئيس أن أتوخى الحذر كي لا يدخل هذا الرجل إلى البلد، ما يسبب حرجا لنا. لكنني طمأنت الرئيس، وأخطرت الجوازات ورجال المباحث العامة، وأعطيتهم تعليمات حول الأمر، واتخذت الإجراءات اللازمة في هذا الشأن.
فجأة وصلتني معلومات بأن الرجل موجود في القاهرة، وفي فندق «شبرد»، ويعقد مؤتمراً صحافياً هناك. لم يكن أمامنا غير أن نلقي القبض عليه وترحيله خارج البلاد. لكن كيف دخل إلى القاهرة؟ وبالبحث والتحري، اتضح أنه يحمل الجنسية الأميركية، ودخل إلى القاهرة بجواز سفر أميركي، وجاء عن طريق الهند باسم مختلف، وعلمت أن الريس غاضب جداً، وقال لمحمد فايق وزير الإعلام وقتها: أنا زعلان جداً من شعراوي، لكن لن أتحدث إليه.
التقرير الذي لم يمهل القدر عبد الناصر ليناقشني فيه كان يخص محاولة اغتيال الملك حسين في القاهرة، أثناء مشاركته في مؤتمر القمة العربية سنة 1970، وكان الملك وصل إلى القاهرة في 27 سبتمبر، وفي صباح 28 سبتمبر علمت أن إحدى الفتيات كان لها أخ يعمل معي في وزارة الداخلية، وهما من عائلة متوسطة الحال إنما ثورية وناصرية جداً، ارتابت من سيارة توقفت أمام المنزل، وبعد لحظات نزل منها أشخاص يبدون غير مصريين، فاتصلت بأخيها تخبره بشكوكها، فهاتفني بدوره.
وحين استطلعت الأمر أرسلت الخبراء في الدفاع المدني ورجال المباحث العامة، وفعلاً صدقت شكوك الفتاة، واتضح أن السيارة مجهزة بقنبلة معدة للانفجار على طريق موكب الملك حسين، وكانت تقف خلف هذه العملية مجموعة مضادة للملك حسين.
سأل «الريس» عن الأمر، فيما كنتُ أعد تقريراً له، لكن حالت التطورات الطارئة التي جرت بعد ذلك دون فتح الملف برمته، لأن القدر سبقنا جميعاً، إذ رحل جمال عبد الناصر عصر يوم 28 ديسمبر 1970.
[1] كتاب ” وزير داخلية عبد الناصر ـ شعراوي جمعه ـ شهادة للتاريخ” الصادر عن مركز الأهرام للنشر.