منوعات

«الذكاء الاصطناعي».. جديد مكافحة الفساد وإنفاذ العدالة

مع اتساع نطاق جرائم الفساد عالميا على نحو غير مسبوق، لم يعد مجال مكافحة الفساد يحتمل رفاهية الاعتماد على العنصر البشري الذي قد تحكم تصرفاته في كثير من الأحيان الأهواء والمشاعر والانتقائية والفساد في بعض الأوقات. أفسح هذا المجال أخير أمام تقنيات جديدة لمحاربة الفساد وإنفاذ العدالة الناجزة، تعتمد على التطور الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence (AL).

لم تعد المسألة مجرد حلم طوباوي بعيد المنال، فقد ابتكر باحثون من إسبانيا هذا العام نموذجًا حوسبيا يعتمد على شبكات عصبية اصطناعية، بإمكانه أن يحدد المقاطعات الإسبانية الأعلى في احتمالية انتشار حالات الفساد بها، علاوة على توضيح الظروف التي ترجح أسباب ظهورها، ومن بنيها، وفقا للحاسوب، أن يظل الحزب نفسه في الحكومة لسنوات أكثر.

طور الباحثون من جامعة “بلد الوليد” هذا النموذج من شبكات عصبية اصطناعية تشبه خلايا المخ البشري للتنبؤ مبكرا بظهور حالات الفساد في المقاطعات الإسبانية باحتمالية أكبر في غضنون عام أو عامين أو ثلاثة أعوام. ولم تشر الدراسة التي نُشرت في دورية “أبحاث المؤشرات الاجتماعية” Social Indicators Research إلى المقاطعات الأكثر عرضة للفساد حتى لا تثير الجدل، طبقا لإيفان باستور أحد مؤلفي الدراسة، الذي نبه إلى “أن وجود نزعة أكبر أو احتمال أكبر لا يعني أن الفساد سيحدث بالفعل”.

الكشف المبكر

يقول باستور: “الباحثون أكدوا أنه يلزم الكشف عن الفساد مبكرا من أجل اتخاذ تدابير تصحيحية ووقائية، ولأن الموارد العامة لمكافحة الفساد محدودة، يتعين التركيز على المناطق التي من المرجح أن تكون ضالعة في قضايا الفساد”.

وأوضح أن الباحثين توصلوا إلى استخدام قاعدة بيانات فريدة تجمع بين الحالات الرئيسية المعروفة والمسجلة للفساد السياسي في إسبانيا، تم الاستعانة بها في تصميم نموذج حسابي يعمل بمثابة  آلية  للإنذار المبكر للتنبؤ بما إذا كان من المحتمل ظهور حالات فساد في مناطق بعينها، اعتمادا على بعض المحددات الاقتصادية الكلية والعوامل السياسية، التي تسهم في تحديد الظروف الاقتصادية للمنطقة وربطها بتوقيت التنبؤ.

و أضاف: استخدم الباحثون تقنية الخرائط ذاتية التنظيم  (self-organizing maps)( SOMs)، وهي نهج يشبه الشبكة العصبية بالمخ الانساني، للتنبؤ بحالات الفساد في آفاق زمنية مختلفة. و تعد تلك الخرائط نوعا من الشبكات العصبية الاصطناعية التي تهدف إلى محاكاة وظائف الدماغ، وتمتلك  القدرة على استخراج الأنماط من مجموعات البيانات الكبيرة دون التصريح بالعلاقات الأساسية بين تلك المعلومات.

وتحول هذه التقنية العلاقات غير الخطية بين البيانات عالية الأبعاد إلى توصيلات هندسية بسيطة، للكشف عن الأنماط والحصول على تمثيلات مرئية لكميات كبيرة من البيانات، ما يمكن معه استخدام أجهزة التحكم عن بعد (SOMs) كوسيلة قوية و فعالة في جهود التنبؤ بالفساد.

عوامل مساعدة

خلصت نتائج الدراسة إلى أن بعض المؤشرات الاقتصادية يمكن أن تكون عوامل تنبئ بالفساد، فقد وجد  الباحثون أن فرض الضرائب على العقارات والنمو الاقتصادي وزيادة أسعار المنازل والعدد المتزايد من مؤسسات الإيداع والشركات غير المالية قد تكون عوامل مساعدة على نمو الفساد. كما رصدت الدراسة أن تربع نفس الحزب الحاكم على السلطة لفترة طويلة يتناسب طرديا مع زيادة الفساد بشكل مطرد.

اعتمد مؤلفو الدراسة على رصد دقيق لحالات الفساد التي ظهرت في إسبانيا بين عامي 2000 و 2012، ومن أشهرها قضية  Mercasevilla (التي تم فيها اتهام مديري هذه الشركة العامة لمجلس مدينة إشبيلية) وقضية “بالتار” (حيث تم إدانة رئيس مقاطعة Diputación de Ourense لمسؤوليته عن تمرير أكثر من مائة عقد “لم يمتثل للمتطلبات القانونية”).

واعتمادا على خصائص كل منطقة، أمكن للباحثين تقدير احتمال ظهور حالات الفساد التي تظهر على مدى فترة تصل إلى ثلاث سنوات، كما تم الكشف عن أنماط مختلفة من سوابق الفساد. وفي بعض الحالات، ثمة فرصة للتنبؤ بحالات الفساد قبل حدوثها بفترات كبيرة، وبالتالي تنفيذ تدابير وقائية لتلافي وقوعها، وفي حالات أخرى تكون فترة التنبؤ أقصر بكثير وتتطلب إجراءات سياسية تصحيحية عاجلة. وتتكون الطريقة من خوارزمية متطورة ذات علاقات غير خطية متعددة، تتغير وفقاً لها محددات الميل إلى الفساد على مدار الوقت.

ويؤكد باستور أن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعى أمربسيط، مع توافر معلومات مبنية على قاعدة بيانات حقيقية، لافتا إلى أنه حتى الآن تم استخدام مؤشرات موضوعية خاصة بالفساد، وتعيين الدرجات المسجلة لكل دولة بواسطة وكالات مثل منظمة الشفافية الدولية، استنادا إلى مسوحات لرجال الأعمال في كل بلد.

ويأمل المؤلفون أن تسهم هذه الدراسة في الجهود المباشرة للقضاء على الفساد، مع تركيز الجهود على تلك المجالات التي لديها أكبر ميل للظهور، وكذلك الاستمرار في المضي قدمًا لتطبيق نموذجهم على المستوى الدولي.

إنفاذ العدالة

قامت شركة ريفين البريطانية RAVIN   المتخصصة في الذكاء الاصطناعي العام الماضي بتدشين برنامج ذكاء اصطناعي يدعى FICO AML  Threatscore يمكن استخدامه بفعالية للكشف عن الأنشطة المالية غير القانونية مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب والغش. كما قامت الشركة بانتاج تقنية آلية تعمل بشكل أوتوماتيكي على عملية فرز وتصنيف المستندات للعديد من المؤسسات، بما في ذلك المنظمات القانونية، ما يساعد في جهود اكتشاف الفساد.

وتعتمد الشركة على تكنولوجيا تقوم بكل ذلك بمعدل أسرع وأرخص وأكثر فعالية من البشر. فهي لا تقوم بعملية الفرز والتصفية فحسب، بل لديها أيضًا الحدس للمساعدة في توجيه الباحثين إلى البيانات التي تعتقد أنها ذات صلة بحالة ما، والتي قد لا تعرف الفرق القانونية أنها مهمة في ذلك الوقت.

وتقول الشركة إن هذه التقنية تسهم في إنهاء العديد من التحقيقات القانونية، التي عادة ما يجد المحامون والعاملون بالمجال القضائي أنفسهم غارقين فيها عبر البحث في أوراق ووثائق يمتد تاريخها لعدة سنوات متعلقة بقضية محددة.

وتضرب الشركة مثلا على ذلك بنجاح تقنية “ريفين” في المعاونة في تحقيقات أجراها مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة في المملكة المتحدة في لندن  (SFO) مع شركة Rolls Royce “رولزرويس” على خلفية تحقيقات فساد، وأثبتت فعالية هذه التقنية في فحص أكثر من 30 مليون وثيقة بمعدل 600000 مستند في اليوم مقارنة مع معدل فرز المحامي البشري الذي يصل إلى  3000 وثيقة في اليوم.

وتؤكد الشركة أن استخدام هذه التقنية لم يكن أسرع في القيام بذلك فحسب، بل إنها كانت أرخص وأقل أخطاء أقل من نظيرها البشري، وأتاحت للمحققين معلومات أدت إلى اعتراف “رولزرويس” بالرشوة واضطرارها لدفع غرامة 671 مليون جنيه إسترليني.

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock