يعتقد بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان الصهيونى أن إعلان وفرض إسرائيل «دولة يهودية» عبر إصدار ما يسمونه بـ «قانون القومية» فى مقدوره إنهاء الصراع التاريخى حول فلسطين لمصلحة المشروع الصهيوني.
نيتانياهو يروج لهذا الإدعاء لأن هذا القانون يتضمن العديد من المبادئ الخطيرة من أبرزها أن «أرض إسرائيل هى الوطن التاريخى للشعب اليهودي» وأن «دولة إسرائيل هى الدولة القومية للشعب اليهودى وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعى والثقافى والدينى والتاريخى لتقرير المصير» وأن «القدس الكاملة والموحدة هى عاصمة إسرائيل».
من هنا جاء وصف نيتانياهو لهذا القانون بأنه «قانون أساس» أى قانون بمثابة دستور لدولة الكيان التى لم تصدر دستورها حتى الآن ولم تعلن حدودها حتى الآن لأسباب يحرصون على إخفائها كي يبقى الكذب هو الحقيقة الأقوى للتعريف بالكيان، ومن هنا جاء قوله «حددنا بالقانون مبدأ أساس وجودنا.. إسرائيل هى دولة قومية للشعب اليهودي».
واضح من قراءة فهم نيتانياهو لما يعتبره «مركزية قانون القومية فى تحقيق النصر النهائى لإسرائيل» أنه أسير لمقولة مهمة شكلت وعيَّه السياسى وإدراكاته لكيف يجب أن يدار الصراع ضد الشعب الفلسطينى وهى مقولة صدرت عن الكونت «ستنسلاس دى كالرمون» أمام الجمعية الوطنية الفرنسية (23 ديسمبر 1789) فى معرض دفاع الرجل عن ضرورة تأمين حقوق مدنية متساوية لجميع الفرنسيين بغض النظر عن دينهم فى معرض رفضه التمييز ضد اليهود فى فرنسا. تقول هذه المقولة «لليهود كأفراد كل شىء… لليهود كأمة لا شىء»، وهى مقولة تفصل بين الحقوق الإنسانية التى يجب تأمينها لليهود فى فرنسا وبين حقوقهم فى الهوية والثقافة الوطنية، أو ما يُعرف بـ «الهوية القومية».
نيتانياهو يتحرك بدافع من هذا الإدراك ضد الشعب الفلسطيني، ويريد أن يفرض على الشعب الفلسطينى داخل وطنه ما سبق أن فرض على اليهود ولذلك فإنه يمعن فى تجريد الفلسطينيين داخل إسرائيل من هويتهم الوطنية والقومية، أى تصفية حقوق المواطنة للشعب الفلسطينى وأن يجعل هذه المواطنة حقاً محتكراً لليهود دون غيرهم.
نيتانياهو يعتقد عن خطأ فادح أنه وصل بذلك إلى «نهاية المطاف» بالنسبة لما يعتبره «صراعاً إسرائيلياً- فلسطينياً» وهو أيضا يعتقد عن خطأ فادح أن إعلان إسرائيل «دولة يهودية هو «مآل ختامى للصراع»، وأنه بذلك سيكون فى مقدوره التخلص نهائياً من العبء الفلسطيني، إما بإجبار الفلسطينيين داخل إسرائيل على المغادرة الجبرية لوطنهم، إما القبول بالإقامة فى «معازل عنصرية» خاصة بهم والعيش منعدمى الهوية والحقوق الوطنية داخل الكيان.
لم يفكر نتنياهو، لحظة، بأن للصراع مآلات أخرى كثيرة تعمل فى الاتجاه العكسى تماماً لكل ما يحلم به ويعتقد أنه نهاية حتمية للصراع على فلسطين لمصلحة اليهود دون غيرهم. لم يفكر نيتانياهو أنه بإعلان إسرائيل دولة يهودية قد أنهى ما كان يعتبره «لحظة تاريخية فارقة» لإنهاء الارتباط العربى بالقضية الفلسطينية على قاعدة تخليق مصالح مشتركة مع دول عربية فى لحظة مأساوية من انهيار الوعى العربى بأن إسرائيل يمكن أن تكون حليفاً لإسرائيل على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولم يفكر لحظة فى أن إصدار قانون القومية وفرض إسرائيل دولة يهودية سيحولها إلى «كيان عنصري» يمكن مطاردته فى الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وتجبيه العالم كله ضد هذا الكيان لإسقاطه على نحو ما حدث مع النظام العنصرى لجنوب إفريقيا (السابق).
غاب عن نيتانياهو أن فرض إسرائيل دولة يهودية من شأنه أن يعرِّى تماماً حقيقة الكيان أمام كل العالم، ليس فقط ككيان عنصرى بل وأيضاً كمشروع استيطانى استعماري، عندما يدرك العالم أن فرض إسرائيل كدولة يهودية معناه إنهاء كل فرصة كانت ممكنة لإقامة دولة فلسطينية. كما أن فرض إسرائيل دولة يهودية بمقدوره أن يوحد العالم الإسلامى كله ضد هذا الكيان، وأن يفرض على دول إسلامية صديقة لإسرائيل أن تكون فى جبهة إسلامية واحدة ضد الكيان اليهودى الذى يخوض الصراع على قاعدة الصراع الديني، خصوصاً أن هناك من المنظمات والتنظيمات الإسلامية من لديه استعداد لتلقف هذا التحول فى مجرى الصراع وتفعيله انطلاقاً من قناعة مفادها أن المآل الحقيقى للصراع فى فلسطين لن يكون إلا صراعاً إسلامياً ضد اليهود.
هل حسب نيتانياهو حساباً لمثل هذا المآل الذى يمكن أن يكون كارثياً على المشروع الصهيونى كله؟ حتماً لم يحسب نيتانياهو اعتباراً لأى من هذه الاحتمالات، تماماً على نحو ما خسر رهانه على صمت الشعب الفلسطينى داخل إسرائيل وعلى عمق ما يعتبره صراعاً فلسطينياً- فلسطينياً مازال يراهن عليه لتصفية ما بقى من قدرات صمود فلسطينية، لكن حتماً كانت صدمته هائلة عقب أول معالم التحرك الفلسطينى داخل إسرائيل لرفض خيار «إسرائيل دولة يهودية» على نحو ما أكدتها مظاهرة تل أبيب (11/8/2018) التى انطلقت رفضاً لقانون القومية وإعلاءً للهوية الوطنية الفلسطينية، وإنهاءً لكل الجهود الإسرائيلية لإماتة الوعى الوطنى والهوية الوطنية عند الشعب الفلسطينى عبر ما كانوا يسمونه «عمليات كى الوعي» وفرض الرواية اليهودية المزيفة للتاريخ على حساب الرواية الفلسطينية التى تؤكد أن فلسطين هى لشعبها الفلسطينى وأن إسرائيل ليست أكثر من كونها «دولة احتلال استيطاني».
فقد أدى إصدار قانون فرض إسرائيل دولة يهودية إلى تعزيز إدراك الفلسطينيين لأنفسهم باعتبارهم شعباً واحداً بقضية واحدة ومصير واحد على نحو ما أكدته هذه التظاهرة المبهرة التى جمعت مئات الآلاف من الفلسطينيين من جميع مدن وقرى الفلسطينيين داخل الكيان، وأعادوا بذلك الاعتبار إلى التطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين. وجاءت مشاركة تيارات إسرائيلية مختلفة (ليبرالية ويسارية) رافضة قانون القومية فى هذه المظاهرة وما تحمله هذه المشاركة من معانٍ، كما جاء تفاقم أزمة الرئيس ترامب وإدارته فى ظل التحقيقات التى يجريها المحقق روبرت موللر، وهى أزمة تنذر بنهاية «عصر ترامب» وصفقته للقرن، لتضيف الكثير من الحقائق التى تؤكد أن هناك مآلات أخرى للصراع أبعد كثيراً عن كل ما كان يأمله نيتانياهو وحكومته، فى مقدورها أن تفرض السلام العادل وأن تستعيد الحقوق المغتصبة، وبمقدورها أن تؤكد أيضاً أن فرض خيار إسرائيل دولة يهودية لن يكون نهاية الصراع، بل ربما يكون بدايته الحقيقية.
عن “الأهرام”