شجرة الزيتون غدت رمزا مركزيا للقومية الفلسطينية وعلامة راسخة على روح الصمود والمقاومة من أجل القضية؛ لا ينازعها منازع في أهميتها الثقافية وقيمتها الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني المعاصر.
شجرة الزيتون، وما يرتبط بها من معان وتضمينات، ومن سلع وبضائع، استمدت هذه الأهمية من توجهات طويلة الأمد تضرب بجذورها إلى ما قبل القرن العشرين، وقبل ذلك من التحديث الفلسطيني لتاريخ زراعة الزيتون الضارب في أعماق الزمان، وإضفاء النزعة السياسية القومية على هذا النشاط في وجه موجات التقويض الإقليمي لفلسطين التاريخية.
بالاعتماد على السجلات الخاصة بالزراعة والغابات والتنمية والاقتصاد وغيرها، المحفوظة في أرشيفات ومكتبات إسرائيل والأردن والضفة الغربية، وأرشيفات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية والفرنسية، تعيد أطروحة الباحث الأمريكي، جيفري درو ريجر، للحصول على درجة الدكتوراه، بناء الاقتصاد السياسي للزيتون في منطقتي الجليل والضفة الغربية في أعقاب الاضطرابات والانتفاضات التي شهدها القرن العشرين.
وثائق نادرة
وفضلا عن استفادة الباحث من تقارير ومراسلات وإحصائيات حكومية مكتوبة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والعبرية، لم يتم الاطلاع عليها من قبل، وعرائض وخطابات وبرقيات مرسلة من مواطنين فلسطينيين، تحفظها هذه الأرشيفات، تعول الأطروحة أيضا على مصادر أساسية نادرة، منشورة باللغة العربية، أعدها خبراء فنيون (مهندسون وخبراء وأختصاصيون زراعيون وغيرهم) لتقييم قطاع الزيتون والآفاق التي يمكن أن يصل إليها.
تحمل أطروحة ريجر عنوانPlanting Palestine: The Political Economy of Olive Culture in the 20th Century Galilee and West Bank. وقد تقدم بها الباحث إلى كلية الدراسات العليا للآداب والعلوم، التابعة لجامعة جورجتاون في واشنطن العاصمة، في نهاية أبريل 2018، لنيل درجة الدكتوراة في فلسفة التاريخ.
“أصوات” ينفرد بنشر الأطروحة بالغة الأهمية التي أشرفت عليها جوديث توكر، أستاذ التاريخ بجامعة جورجتاون، رئيس التحرير السابق لدورية International Journal of Middle East Studies – والتي لم يسبق نشرها أو ترجمتها من اللغة الإنجليزية إلى لغة أخرى، رغم ما تمثله من أهمية تستدعي البناء عليها وتطويرها.
يقع البحث في أكثر من خمسمائة صفحة، وتمتد حدوده الزمنية من نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين، مرورا بالحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية العثمانية، ثم تستمر عبر فترة الانتداب البريطاني ونكبة عام 1948.
في هذا الإطار الزمني يشتبك الباحث مع مصير الفلسطينيين الذين بقوا في منطقة الجليل الإسرائيلية، ويقدم تحليلات عميقة لثقافة الزيتون في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني أولا، ثم الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967.
مظاهرة في يافا عام ١٩٠٨ لمطالبة السلطان عبد الحميد والسلطات العثمانية بالحرية
المجتمع والدولة
تسمح هذه المنهجية للباحث بعقد رؤية مقارنة للمجتمع الفلسطيني على مدى هذه الفترة في ظل حكومات متعاقبة ومتباينة، وإعادة التأطير للعلاقة بين المجتمع والدولة في العهود العثمانية والبريطانية والأردنية والإسرائيلية؛ حيث يؤكد الباحث على فعالية المجتمع، وتنحي الدولة وصانع القرار عن المركز في السردية التاريخية الفلسطينية.
تساعد هذه المنهجية أيضا الباحث على أن يزعزع بقوة مفاهيم الهيمنة الحتمية للنظم الحاكمة، وذلك من خلال التركيز على الطريقة التي تجاوب بها الفلسطينيون، أو قاوموا، أو شكًلوا، أو دعموا، أو عرقلوا طموحات الدولة وسياساتها، التي يجب أن تعتمد بالأساس – على سبيل المفارقة – على المعرفة العميقة بالمجموعات التابعة أو المحكومة.
يقع البحث في ستة فصول مرتبة ترتيبا تاريخيا من نهاية الحقبة العثمانية، بخلاف المقدمة والخاتمة والببليوغرافيا، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية والرسوم والجداول التوضيحية التي تضيف إلى القيمة العلمية للدراسة.
يحمل الفصل الأول عنوان “الاقتصاد السياسي للزيتون والخطاب البيئي لتدهور الأراضي عن طريق إزالة الغابات في ريف الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”. يرتكز هذا الفصل – الذي يجسر المسافة الزمنية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثم يوثق العقد الذي دارت فيه رحى الحرب العالمية الأولى – على الأوراق التي عثر عليها الباحث في مكتبة الكونجرس، والسجلات البلدية المحلية في العصر العثماني، المكتوبة باللغة العربية، وحوليات الفلسطينيين والدبلوماسيين الأجانب، والسجلات الدبلوماسية البريطانية والفرنسية. ويركز على التحول من الحكم العثماني إلى الحكم البريطاني، ومن الإمبريالية غير الرسمية إلى الحكم الأوربي الرسمي المباشر، ويقَيم حقيقة وجذور الخطابات الاستعمارية المتعلقة بإزالة الغابات، التي بدأت في هذه الحقبة، وتقنعت بإلقاء اللوم على سوء الإدارة العثمانية أثناء فترة الحرب العالمية الأولى على وجه التحديد.
يتناول الفصلان الثاني والثالث الفترات الأولى والأخيرة من الحكم البريطاني بموجب نظام الانتداب الذي فرضته عصبة الأمم. يستند منطق تقسيم هذه الفترة إلى فصلين متتابعين إلى انتهاء التدخل الكولونيالي البريطاني في المناطق الريفية، وفي الاقتصاد، بصورة شبه كاملة مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936. رغم ذلك، فقد أطر قمع الثورة لاهتمام غير مسبوق بالمناطق الريفية. بعد ذلك بلغ الحكم الكولونيالي البريطاني ذروته إبان الحرب العالمية الثانية بفضل إجراءات الرقابة الصارمة التي فرضها البريطانيون في زمن الحرب.
يحمل الفصل الثاني عنوان “الطموحات الكبرى والكساد العظيم: النصف الأول من الانتداب (1923 – 1936)”، ويغطي عشرينيات القرن الماضي وبداية ثلاثينياته، بينما يأتي الفصل الثالث تحت عنوان “انحسار الرقابة عن السلع المرتبطة بالزيتون: الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) وفلسطين في فترة نهاية الانتداب وفي أعقاب ثورة 1936 – 1939″، ويتناول الثورة الفلسطينية الكبرى والحرب العالمية الثانية.
قوات الانتداب البريطاني نتسف بيتاً في مدينة نابلس الفلسطينية في أواخر الثلاثينيات
من النكبة إلى النكسة
مع نهاية الانتداب البريطاني يتشعب الفصلان الرابع والخامس على المستوى الجغرافي ليتناولا الفترة التي تمتد من عام 1948 “النكبة” إلى عام 1967 “النكسة”، ويعكسا تقسيم مزارع الزيتون في فلسطين التاريخية بين الضفة الغربية الخاضعة للحكم الأردني والجليل الخاضعة للحكم الإسرائيلي. فبينما أجبرت (أو هددت بالإجبار) مجموعة من الضغوط في إسرائيل الفلسطينيين على التوقف عن الزراعة، واصلت الحكومة الأردنية بشكل كبير سياسات عدم التدخل (laissez-faire policies) في زراعة الزيتون في الضفة الغربية.
يرتكز الفصل الرابع، الذي يحمل عنوان “الفلسطينيون ودولة إسرائيل الجديدة: الهيمنة والمقاومة والتعاون وزراعة الزيتون في منطقة الجليل، الفترة من 1948 – 1967″، بالأساس إلى المصادر العربية والعبرية التي حصل عليها الباحث من أرشيف دولة إسرائيل، وتوثق للعلاقة المتغيرة بين مجتمعات زراعة الزيتون الفلسطينية من جانب والعديد من هيئات ومؤسسات الدولة العبرية من جانب آخر.
بينما يستند الفصل الخامس “قطاع الزيتون الفلسطيني في الضفة الغربية الأردنية، الفترة من 1948 – 1967” على وثائق أردنية باللغة العربية استولى عليها الإسرائيليون في أعقاب حرب يونيو 1967، وقاموا بحفظها في أرشيف دولة إسرائيل، ومنشورات رسمية باللغة العربية صادرة عن وزارات أردنية تم العثور عليها في أرشيفات مختلفة في عمان ومدن أخرى، إضافة إلى محفوظات دبلوماسية أجنبية.
وفي حين ينظر كثير من المحللين إلى هذه المرحلة باعتبارها فترة استنزاف للموارد الفلسطينية في الضفة الغربية من أجل دعم الضفة الشرقية، وتعزيز أوضاع العاهل الأردني والنظام الملكي في عمان، يثبت البحث بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر أكثر تعقيدا.
فلسطين 1967
الزيتون تحت الاحتلال
يسبر الفصل السادس “الزيتون تحت الاحتلال: الضفة الغربية ومستقبل فلسطين؛ الفترة من 1967 – 1993” أغوار الضفة الغربية في الفترة من 1967 إلى 1993 (اتفاق أوسلو) لتقييم الإرث الأردني وتأثير الحكم الإسرائيلي على المنطقة. يعول هذا الفصل بالأساس على مصادر نادرة كتبها فلسطينيو الضفة الغربية باللغة العربية، وتوجد حاليا في دور المحفوظات بإسرائيل والأردن وفلسطين، ومجموعة وثائق خاصة في المكتبات الوطنية والبلدية، إضافة إلى بعض المصادر الثانوية المكتوبة بالعربية والعبرية، وسجلات خدمات المشورة الزراعية الأمريكية (FAS)، والدوائر الدبلوماسية البريطانية والفرنسية.
يهدف الباحث من تناول التاريخ الاجتماعي لثقافة الزيتون الفلسطينية من وجهة نظر الاقتصاد السياسي إلى إعادة المجتمع الفلسطيني إلى مركزيته في تاريخ بلاده، وتحليل، ليس فقط افتئات الآخرين عليه، وإنما أيضا مقاومة الفلسطينيين لهذا الافتئات والتغول، ومحافظتهم على شخصيتهم المستقلة على مدى ما يزيد من قرن من الزمان برغم تعاقب قوى حاكمة مختلفة عليه.
فبينما يحاول الباحث تحليل سياسات الدولة وتأثيراتها على فئة المحكومين، فإنه يقوم بذلك – في حقيقة الأمر – من أجل تسليط الضوء على عشرات الفضاءات التي لم تسلم زمامها لهيمنة الدولة، حيث أثبت الفلسطينيون قدرة فائقة على الفعل والفعالية، ولإثبات أن هيمنة الدولة تعتمد، بصورة شبه كاملة، على التعاون مع الفئات الخاضعة لها، ومعرفتها العميقة بها، وذلك من خلال توظيف عدد من الوسطاء المحليين.
اتفاقية أوسلو 1993
رمز للمقاومة
ويؤكد الباحث خلال هذه المحاولات أن الزيتون برز كرمز مركزي للقومية الفلسطينية كنتيجة لفاعلية وتأثير مجتمع الريف الفلسطيني، الذي نجح في الاستفادة من بدايات التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاقبت عليه على مدى القرن العشرين. فخلال هذه الفترة ارتفعت معدلات التعليم في الريف الفلسطيني بصورة لافتة، وهو ما أدى إلى التحول من العمل بالزراعة إلى العمل المأجور، الذي ينطوي عادة على موجات هجرة مؤقتة إلى المناطق الحضرية، أو إلى الخارج. جراء ذلك، غدت الزراعة الفلسطينية أقل تنوعا، بينما أصبحت قطاعات أخرى إما مستهلكة للوقت بدرجة مفرطة، أو غير قادرة على المنافسة بدون الاعتماد على الزراعة المكثفة أو الاستثمارات الكبرى.
وعلى سبيل المفارقة، أدت محدودية الإمكانات التي واجهها المزارعون الفلسطينيون إلى تنامي الأهمية الاقتصادية لقطاع الزيتون. وبينما غدت مركزية زراعة الزيتون رمزا للمقاومة وعلامة على الارتباط بالأرض، إلا أن هذه المركزية بالنسبة إلى الضفة الغربية تمثل خطوة عالية المخاطر ووفيرة الأرباح صوب الزراعة الأحادية، التي نجحت فلسطين (على عكس القطن المصري والحرير اللباني) في تجنبها في الماضي.
ويشير البحث إلى أن هذه الحالة من الأحادية الزراعية (الاعتماد على نوع واحد) عادة ما يتمخض عنها تقلبات اقتصادية عاتية؛ حيث يظل الأمل في تحقيق أرباح طائلة في أوقات الرواج، والخوف من وقوع خسائر فادحة في الأوقات العصيبة وجهين لعملة واحدة. وبينما تتضاعف فرص التسويق الخارجي كشكل من أشكال التعاضد السياسي، تتزايد أيضا التحديات التي يواجهها قطاع الزيتون الفلسطيني، خاصة بعد ارتفاع تكاليف الإنتاج إلى درجة كبيرة مع انطلاق الاستثمار في التقنيات المتطورة وارتفاع تكاليف المعيشة بوجه عام. يأتي ذلك في الوقت الذي يبقى فيه المستقبل السياسي والاقتصادي والديموغرافي والجغرافي للأرراضي المحتلة ضبابيا وغير مستقر.
ويخلص الباحث إلى أن تعزيز ثقافة الزيتون الفلسطينية يتطلب ضرورة تطبيق سياسات التعاون الفني متعدد الجنسيات، خاصة بمساعدة أكبر دول البحر المتوسط في زراعة الزيتون، مثل تونس والجزائر، وذلك من أجل تحفيز عمليات التعاون والتسويق.
لكن في إطار مبحث ثقافة الزيتون الفلسطينية في القرن العشرين تبقى مناطق مهمة ميدانا خصيبا للبحث المستقبلي. فبمجرد إماطة لثام السرية عن الأرشيفات والوثائق الخاصة بهذا القطاع، يصبح من المأمول أن يعكف المؤرخون في المستقبل على قراءة هذه الوثائق في حقبة ما بعد أوسلو، التي تبدأ من منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، ويعتبرها التحليل المعاصر مرحلة تحول المجتمع المدني إلى منظمة غير حكومية تعتمد على المعونات الأجنبية والداعمون الغربيون.
يبقى السؤال الأكثر أهمية الذي لم يجب عنه البحث هو: متى – على وجه التحديد – تم تسييس ثقافة الزيتون في الضفة الغربية؟ فبرغم أن الباحث يعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي وحركة الاستيطان وإنشاء جامعات الضفة الغربية وحشد الطلاب على أساس فصائلي قد قدموا جميعا الزخم والوقود اللازم لهذا التسييس في وقت ما من سبعينيات القرن الماضي، لكن تبقى الحاجة ملحة إلى إجراء مزيد من البحوث – خاصة من قبل المؤرخين الشفهيين أو علماء الأنثروبولوجيا الذين ينزعون إلى العمل الميداني الإثنوجرافي – من أجل توثيق أصوات وآراء الناشطين ومنظمي جهود الزراعة لتحديد التسلسل الدقيق للأحداث التي مثلت بداية التحول في دوافع الزراعة.