تقديم: ثمانون عاما تقريبا مرت على نشر رواية محفوظ الأولى «عبث الأقدار» عام 1939، قدم خلالها العدد الأوفر والأعمق من الروايات الأكثر تعبيرا عن الحياة المصرية والعربية في القرن العشرين، مقارنة بأى أديب عربي آخر في العصر الحديث. لم يكن الكم والعمق فقط هما ما ميزا روايات محفوظ بل سر آخر أكثر أهمية كان يكمن في «نصه» الأدبي الذي بدا وكأنه قادر دوماً على توليد الجديد من المعاني والتأويلات النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يفسر لنا بروز ما أطلق عليه تيار النقد «المحفوظي» الاستثنائي متمثلاً في مئات المقالات والدراسات النقدية والأطروحات الجامعية التي كانت كلها تلهث – ولاتزال – للإحاطة بمجرى المعاني المتجدد الذي يبدو وكأنه بلانهاية، وهو ما يجعله حاضرا محتفظاً بوقعه وتأثيره على القراء والنقاد حتى اليوم.
ومساهمة منه في تسليط الضوء على مكانة نجيب محفوظ ومشروعه الإبداعي التنويري العظيم، وما حمله من قيم فكرية وثقافية واجتماعية، ينشر موقع «أصوات أونلاين» في هذا الملف سلسة من المقالات لنخبة من الكتاب والباحثين، عن صاحب نوبل ومسيرته الحافلة. كما يتضمن الملف حديثا متلفزا سّجل خصيصا لموقع «أصوات أونلاين» مع الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد، يتناول فيه سيرة وأدب نجيب محفوظ، وذكرياته معه خصوصا فوزه بأول جائزة من جوائز نجيب محفوظ في الرواية، وكيف تأثر عبد المجيد بأدب محفوظ خصوصا في كتابة ثلاثيته عن الإسكندرية.
«أم نجيب»
تحت عنوان «نجيب محفوظ … سنوات التكوين من الجمالية إلى العباسية»، يستعرض الكاتب محمد حماد فى مقالتين النشأة الأولى لمحفوظ، وكيف كان لـ«أم نجيب» التأثير الأكبر في تشكيل وعيه المبكر، فعلى الرغم من كونها أُمية – كمعظم جيلها – إلا أنها كانت «أكثر ثقافة من سيدات في العائلة تعلَّمن في مدارس أجنبية… لم أجد فيهن عشقاً وعراقة وأصالة وجدتها في أمي» كما وصفها محفوظ. كانت أمه فاطمة ابنة أحد مشايخ الأزهر مغرمة بالغناء والموسيقى، وكان الشيخ سيد درويش مطربها المفضل، وكانت هذه الأمَّية تعشق الآثار، إسلامية كانت أو قبطية أو فرعونية. «سأل نجيب أمه عن سر هذا الجمع بين حبها الكبير للحسين، وتعلقها بزيارة «مار جرجس» في نفس الوقت، فكانت تقول له في تلقائية وعمق: «هُم يا بني نفس السلسال، كلهم بركة». كانت أمه إذن واحدة من تلك الأمهات اللواتي حلمن الثقافة الشعبية العظيمة المتوارثة، ضمن أجيال كانت تعيش التعدد الثقافي والديني بل وتأنس له في بساطة وتلقائية. ومن هنا تبدو استعادة «أم نجيب» في ظل انقطاع هذا السلسال الصافي من الأمهات، هدفا رمزيا ، في حد ذاتها، لأى مشروع مصري أو عربي لاستئناف النهضة تماما كما لم ينسها محفوظ أبداً.
محفوظ وقطب
وفى مقاله «محفوظ وقطب … صحبة الأدب وغربة الأيديولوجيا» يتتبع محمد حّماد تطور تلك العلاقة الغريبة التي بدأت باكتشاف الناقد سيد قطب للروائي الشاب نجيب محفوظ وانبهاره به وتقديمه للنقاد حتى يصل بنا للقاء الأخير الذي جمعهما في بيت قطب بحلوان عام 1964. يقول محفوظ: «كانت المرة الأولى التي ألمس فيها بعمق مدى التغير الكبير الذي طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره، رأيت أمامي إنسانا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأي، يرى أن المجتمع عاد إلى «الجاهلية الأولى»، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله… لم يكن قطب يشبه صديقي القديم الذي عرفته فيه». فيما بعد دخل قطب في سجل شخصيات محفوظ الروائية حين جسده في شخصية عبدالوهاب اسماعيل في روايته «ميرامار».
سيد قطب نجيب محفوظ
محاولة الاغتيال
بعد ثلاثين عاماً من محاولة سيد قطب قلب نظام الحكم وإعدامه، أقدم عدد من الشباب المتأثرين بأفكاره على محاولة لاغتيال محفوظ عام 1995 بسبب روايته «أولاد حارتنا» التي اعترفوا بأنهم لم يقرأوها وأنهم فعلوا ذلك بناء على نص فتوى «رسمية» للدكتور محمد مزروعة وخطب العديد من خطباء المساجد أشهرهم الشيخ كشك.
يثير مقال محمد حمّاد «اغتيال نجيب محفوظ … السياسة تتخفى فى مسوح الدين» سؤالا مشروعاً حول مسؤولية مؤسساتنا الدينية، حين يرصد ردود قتلة محفوظ على منتقديهم: «عندما يخرج عالم من الأزهر صاحب كلمة مسموعة، ويعلن تلك الفتوى أمام جهة رسمية وتُنقل عنه للناس ولا يحاسبه أحد فهذا يعني أن كلامه صحيح».
دراما المثقف والسلطة
مرات عديدة تلك التي عاين معها بعض مثقفينا مشاعر التوحد مع محفوظ، فالرجل جسد محنة المثقف في مجتمع لا يقّدر مبدع الثقافة والمعرفة – إلا حين يفوز بنوبل – ما اضطره للإمساك بتلابيب الوظيفة «الميري» طوال حياته، وحتى بعد أن لمع نجمه وأصبحت «الوظيفة الثقافية» متاحة له، ظل يعمل كمستشار للدولة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية، بل إنه آثر الاستمرار في وظيفته الحكومية حتى عندما عرض عليه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل التفرغ ككاتب في الأهرام. وكان رده رد كل موظف مصري بسيط: «سيبني لما أطلع على المعاش، أنا ها أخد معاش كامل لأن مدة خدمتي كبيرة، ومعاش الحكومة مضمون».
الخوف من غدر الزمان وغدر المجتمع والتمرغ في «تراب الميري» ظاهرة عامة تشمل الكثرة الغالبة من المثقفين المصرين والعرب يحاول أن يفسرها محمد حمّاد في مقارنة ذات دلالة في مقاله «هيكل ومحفوظ … صعود المجد على سن القلم».
وفى مستوى أعلى – ضمن «الميري» أيضاً – يوضح حمّاد كيف حكمت «سيكولوجية الموظف الحكومي» علاقة أديبنا بالسلطة السياسية، حيث «كان لصاحب السلطة لدي محفوظ شأن عظيم سواء كان ملكا أو رئيسا للجمهورية أو حتى من هم أقدم منه وأعلى في الدرجة الوظيفية».
محمد حسنين هيكل نجيب محفوظ
كيف نفسر إذن حالة التشريح العميق والنقد اللاذع لبنية السلطة السياسية والاجتماعية في العديد من روايات محفوظ، وهل يتناقض هذا النقد «الجذري» في النص الأدبي مع سلوكه السياسي الشخصي في مسيرة حياته؟ سؤال حاول حمّاد الإجابة عليها في مقاله «نجيب محفوظ.. دراما المثقف والسلطة»، وهو نفس السؤال الذي صاغه الكاتب حمدي عبدالرحيم بطريقة أخرى في مقاله «لماذا كتب محفوظ روايته ليالي ألف ليلة وليلة؟» حيث قدم لنا محفوظ عالم سلطنة شهريار الملطخ بالدم والقهر، وينهي عبدالرحيم مقاله بخلاصة استقاها من رواية محفوظ: «كل الممالك تدمرها السلطة المطلقة، وكل الرعية تذبحها غيبة الحرية … لا شيء عند محفوظ أثمن من الحرية، إنها النواة الصلبة لروايته، يحكي الغرائب ويسرد المعجزات ويقص الخرافات، ثم يعود للحرية».
أما التفسير المجتمعي للاستبداد السياسي فنجده في مقال الباحثة نفيسة دسوقي «الاستبداد في ثلاثية نجيب محفوظ.. سلطة أبوية قاهرة»، والذي تستعرض فيه مضمون دراسة للباحثة وفاء السعيد التي نالت عنها درجة الماجستير مطلع العام الحالي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهى الرسالة التي كشفت أن الاستبداد السياسي في روايات محفوظ ليس سوى قمة جبل الجليد الظاهر من تقاليد راسخة الاستبداد في حياتنا اليومية، في العائلة والمدرسة وكل مؤسساتنا الاجتماعية قبل السياسية.
وأخيراً يسّلط الدكتور محمد السيد إسماعيل في مقاله «نجيب محفوظ في مرآة النقد الواقعي» الضوء على أهم محطات الدراسة والتحليل النقدي لأدب محفوظ وتطوره الفكري الكبير، راصداً حيرة النقاد في تأويل رواياته ومعاناتهم في ملاحقة تطوره الفكري، وهو ما عبر عنه لويس عوض بقوله: «لم أجد أديبا شغل الدنيا والنقاد بقدر ما شغلهم نجيب محفوظ».
الروائي إبراهيم عبد المجيد يتحدث عن نجيب محفوظ
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة