كيف تكون الكتابة عن جرح ينزف العطر، ويأبى إلا أن يظل مزهرا محلقا في بهاء الروح مرنما لحنه القديم؟.. حيث الطريق لايزال كما هو منذ سبعين عاما، يمر عبر فوهة البندقية؟
فلسطين قضية العرب المحورية من المحيط إلى الخليج.. لكنها بالنسبة لمصر ظلت وستظل أبعد في هذا المعنى وأشد عمقا وإيلاما في آن.. فلسطين على نحو ما قطعة من قلب مصر، ومصر لا تعرف لحظة اكتمال دونها.. وبطبيعة الحال فإن فلسطين لا تنتظر من أحد شيئا إلا أنها تنتظر من مصر كل شيء؛ لأنهما الوطن الواحد الذي يتحمل مرارة النأي بأشواق الالتئام، ويتداعى بالسهر ليلثم الفجر طازجا في جفون المقاومين.. وليس ثمة مبالغة إذا قلنا إن فلسطين التي تحمل الشمس لمصر كل صباح؛ تسكن فؤاد عموم المصريين بعشق مكتنف بالأسرار لا يهدأ؛ لكنه يأبى البوح.
السينما المصرية ومحنة الحرب العالمية
بالرغم من أن انطلاقة السينما المصرية قد سبقت نكبة فلسطين بنحو عشرين سنة إلا أنها ظلت بعيدة عن بؤرة اهتمام صناع السينما في مصر، وكانت مأساة فلسطين قد بدأت مبكرا مع اتفاق «سايكس-بيكو» ووعد «بلفور» المشئوم عام1917، وربما يُعزى ذلك إلى أن مصر نفسها كانت ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني البغيض.
في السنوات التي سبقت نكبة فلسطين بقليل كانت صناعة السينما المصرية قد ازدهرت بعد إنشاء «ستوديو مصر» حتى أن الانتاج السنوي بلغ عشرين فيلما عام 1940، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية كان بمثابة ضربة قاصمة لصناعة السينما في مصر التي ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى صارت مقصدا لكل من كون ثروة باستغلال ظروف الحرب؛ فظلت لأعوام تقدم أفلاما عديمة القيمة تعبر عن تلك الطبقة الطفيلية التي صارت فجأة في دائرة الضوء. فرغم أن عدد الأفلام وصل إلى اثنين وخمسين فيلما عام1946، إلا أن معظمها كان من هذا النوع قليل القيمة الفنية والدرامية، ولم يستطع مبدعو السينما الجادة في «استوديو مصر» إلا إنتاج عدد قليل جدا من الأفلام لم تستطع الوقوف أمام طوفان القبح.
فتاة من فلسطين
في عام 1948، تقدم عزيزة أمير من إنتاجها أول فيلم عربي عن حرب فلسطين، هو «فتاة من فلسطين» من بطولة وإخراج محمود ذو الفقار، وقامت بدور الفتاة الفنانة السورية سعاد محمد، وكان الفيلم بمثابة مغامرة غير محسوبة لمنتجته وسط أفلام أثرياء الحرب الرديئة. ورغم ذلك فقد نال الفيلم حظا من النجاح إلا أنه اتهم بضحالة الطرح، والتبسيط المخل، وعدم التعامل مع القضية الفلسطينية كما يليق.
والحقيقة أن الفيلم أكد من خلال قصته البسيطة على عدة معان غاية في الأهمية، منها وحدة المصير بين مصر وفلسطين، وحقارة العدو الصهيوني وغدره الذي لا حدود له، وقد امتلأ الفيلم بالأناشيد الحماسية والأغاني الوطنية، وهو أمر شديد الإيجابية في وقت سادت فيه أدوار الخلاعة والمجون.
تعاود المنتجة الكبيرة الكرّة في العام التالي بإنتاج فيلم «نادية» من بطولتها وإخراج فطين عبد الوهاب، ويحكي الفيلم عن تضحيات الأخت الكبرى التي تبذل حياتها من أجل تربية إخوتها، ويتوج هذا الكفاح بنجاحها في إلحاق أخيها بالكلية الحربية، وفور تخرجه يلتحق بالقوات المصرية في فلسطين، وينال الشهادة على أرضها الطاهرة.
أرض الأبطال
وعقب ثورة يوليو المجيدة وتحديدا في ديسمبر من نفس العام يبدأ المخرج نيازي مصطفى تصوير فيلمه «أرض الابطال» في مدينة العريش بإذن خاص من السيد جمال عبد الناصر وزير الداخلية آنذاك، وقد تناول الفيلم قضية الأسلحة الفاسدة، وتضمن بعض المشاهد الحربية التي وصفت بالضعف، لكن عيوب الفيلم في القصة والسيناريو والإخراج جعلته يمثل ردة عن سابقيه، بدلا من أن يكون خطوة للأمام.
وفي أواخر عام 1955، يقدم المخرج أحمد بدر خان فيلمه «الله معنا» وهو الفيلم الذي بلغ درجة عالية من الإتقان وتكاملت فيه عناصر النجاح ،بدءا من القصة التي كتبها إحسان عبد القدوس، وكان أول من فتح ملف الأسلحة الفاسدة في الصحافة مرورا بالأداء الهادئ والمتزن لأبطال العمل، وليس انتهاء بالتوفيق الذي صادفه المخرج في كل ما قام به؛ ليخرج «الله معنا» وثيق الصلة بحرب فلسطين وما جرى فيها من أحداث مثلت سببا رئيسا من أسباب اندلاع الثورة على الحكم الملكي.
أرض السلام
ثم يدلي العملاق كمال الشيخ بدلوه في بئر القضية بتقديم عمل من أفضل ما قدمته السينما المصرية في هذا الشأن، وهو فيلم «أرض السلام» إنتاج 1957، والفيلم يتناول ما قام به الفدائيون المصريون ضد العدو الصهيوني في فلسطين، واضطرار أحدهم إلى اللجوء إلى قرية فلسطينية للتخفي لبعض الوقت بعد إصابته، وهناك يتعرف على فتاة فلسطينية تساعده، ويشتركان في عدة عمليات ضد قوات العدو، وتنتهي الأحداث بزواج البطلين، وقد قدم «الشيخ» الفتاة الفلسطينية في هذا الفيلم كما ينبغي أن تقدم.. شجاعة وواعية ومدركة إلى أبعد الحدود آفاق الصراع وحتميته.
فلسطين وجماعة السينما الجديدة
فيما بعد توارت القضية الفلسطينية في الأعمال السينمائية المصرية إلا قليلا لأسباب عديدة، إلى أن ظهرت جماعة السينما الجديدة عقب هزيمة يونيو 1967، التي قدمت فيلمين: أولهما «أغنية على الممر» من إخراج علي عبد الخالق 1972، ويتناول قصة صمود مجموعة من الجنود في أحد الممرات عقب وقوع هزيمة يونيو، ورفضهم لفكرة الاستسلام، أما الفيلم الثاني فكان «الظلال في الجانب الآخر» للمخرج الفلسطيني غالب شعث والقصة للكاتب محمود دياب، والفيلم يعتبر من أفضل ما قدم عن القضية الفلسطينية في السينما المصرية، واستطاع المخرج من خلاله تشريح أسباب الهزيمة في يونيو1967، ومدى مسئولية الشعوب العربية قبل جيوشها عنها، كما طرح فكرة المقاومة كحل للصراع العربي الصهيوني، وبالرغم من أن الفيلم أنتج عام 1973، إلا أنه لم يُعرض إلا عام 1975، وكان نظام الرئيس السادات قد أسفر عن نواياه بعد التوقيع على اتفاقية فك الارتباط الثاني مما جعل الفيلم غير مرغوبا فيه؛ نظرا لانحيازه لفكرة المقاومة.. لذلك كان الهجوم عليه كاسحا من الأبواق الحكومية، واتخذ القرار باغتيال الفيلم بدم بارد، وقد بارك هذا الاغتيال يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك.. ولم يكتف النظام بذلك بل بدأ من خلال كتّابه بالتحريض على جماعة السينما الجديدة مما دفع بغالب شعث إلى مغادرة مصر، أما الباقون فقد ذهب كل واحد منهم يبحث عن مستقبله في جو مسموم يعج بالإملاءات والتنازلات.
ومع توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» صمت الصوت الفلسطيني تماما في سينما مصر، ثم عاد من جديد مع موجة الأفلام التجارية مع اقتراب بداية الألفية مثل «صعيدي في الجامعة الأمريكية»1998، و«همام في أمستردام» 1999، وكلاهما للمخرج السوداني سعيد حامد، و«أصحاب ولاّ بيزنس» في 2001 من إخراج علي إدريس.
مشهد من فيلم «همام في أمستردام»
عودة إلى فلسطين عبر «باب الشمس»
ثم يأتي العام 2005، حاملا لنا عملا ولا أروع هو «باب الشمس» بجزأيه الأول «الرحيل» والثاني «العودة» من إخراج يسري نصر الله، وهو عمل «ملحمي يرصد تاريخ القضية الفلسطينية وجدلية الرحيل والعودة التي يعيشها الفلسطيني من خلال قصة حب لبطل مقاوم يغادر القرية، في حين تظل زوجته متمسكة بالبقاء.. ويظل هو يحاول في كل مرة وعلى امتداد ما يربو على عقدين من الزمن التسلل من لبنان الى القرية ليلتقي بزوجته في مغارة باب الشمس وتنجب منه طفلا.. والفيلم يحمل رؤية عقلانية للقضية الفلسطينية، ومحاولة لـ«أنسنة» المناضل الفلسطيني، فهو ليس مجرد صورة نمطية تتجلى في القتل والتفجير أو حرق الأعلام». وقد حقق الفيلم نجاحا كيرا في دور السينما في أوروبا ،وحصد الجوائز كما حاز على إعجاب النقاد، واعتبر رصيدا حقيقيا للقضية الفلسطينية.
وفي النهاية يمكننا القول إن السينما المصرية لم تقدم ما كان مرجوا منها انتصارا للحق الفلسطيني؛ لكن ذلك يمكن قبوله في ظل وجود كثير من العوائق والعقبات التي حالت دون إنتاج أفلام تعبر بصدق عن قضية فلسطين، وعمق الصراع العربي الصهيوني. لكن الأمل ما زال يحدونا في مزيد من الأعمال التي تنتصر لقضيتنا المركزية.. وإنا لمنتظرون.