رؤى

الحرب على الديمقراطية الليبرالية (3– 3): صفحات من تاريخ الإصلاح السياسي في أوربا

جوزيف لوكونتي- أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج-نيويورك

ترجمة وعرض: أحمد بركات

في الجزء الأخير من مقالته التي حملت عنوان The War Over Liberal Democracy (الحرب على الديمقراطية الليبرالية)، يشير البروفيسور جوزيف لوكونتي، أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج، في نيويورك، إلى أن عددا قليلا من المفكرين أدركوا وجود مرض روحي يلقي بظلاله على الكنيسة في أوربا. فقد استطاع الكرسي البابوي إسكات أصوات مفكرين مثل «يان هوس» وجون ويكليف، لكن حركة الإصلاح بدأت من كتابات «ديزيديريوس إيرازموس» (1466- 1536)، الأديب الكلاسيكي والعالم اللاهوتي الكاثوليكي، الذي دشن على مدى أجيال حركة إصلاحية أطلق عليها «الحركة الإنسانية المسيحية»

Related image

الأديب «ديزيديريوس إيرازموس»

فلسفة المسيح

رأى «إيرازموس» أن الجهل الديني قد انعكس أكثر ما انعكس على السياسة، وألف في ذلك كتاب The Education of a Christian Prince (تعليم أمير مسيحي)، الذي أكد فيه أن الأمير مجرد «رجل يحكم رجالا، رجل حر يحكم رجالا أحرارا، وأن الأمير قد يفوق أفراد شعبه سياسيا، لكنه لا يفوقهم أخلاقيا». وفي مقالته التي حملت عنوان In Praise of Folly (في مدح الحماقة)، انتقد إيرازموس  بشدة الفساد الأخلاقي للقيادة  الدينية. وبرغم أنه لم يطرح نظرية في الحرية الدينية، إلا أنه انتقد بشدة سياسات الاضطهاد والقهر التي سادت روما في ذاك الوقت: «لا شيء سيرضي يسوع ما لم يكن طوعيا».

أطلق إيرازموس على رؤيته الإصلاحية اسم «فلسفة المسيح»، التي تعني العودة الكاملة إلى حياة المسيح وتعاليمه من خلال الإنجيل، الذي يجب أن يعرفه الأفراد العاديون كما يعرفه القساوسة والأساقفة. وفي عام 1516 قدم إيرازموس ترجمة ثورية للعهد الجديد قائمة على دراسة عميقة للمخطوطات الأصلية اليونانية. كانت هذه  الترجمة نذيرا بـ «تقويض سلطة اللاهوتيين وانهيار الكنيسة الكاثوليكية من أساسها»، إذ أوردت الترجمة اللاتينية التي قدمها جيروم في عام 382، ووافقت عليها الكنيسة موارد الشك والريبة. ووفقا للمؤرخ وكاتب السير الهولندي، يوهان هويزنجا، أضحى إيرازموس «رائد حرية العقل» في أوربا.

Image result for ‫يوهان هويزنجا‬‎

يوهان هويزنجا

تركت آراء إيرازموس أصداء عميقة عند بعض المفكرين الإصلاحيين، وأثرت بقوة في الراهب الأوغسطيني «مارتن لوثر» (1483 – 1546)، الذي اعتمد ترجمة إيرازموس للعهد الجديد إلى اليونانية في ترجمته إلى الألمانية، وهو ما أدى فعليا إلى تحطيم هيمنة الكنيسة الكاثوليكية.

وقبل أن يهاجم الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» الدولة التنين التي بشر بها «توماس هوبز» بنحو 150 عاما، هاجم لوثر بقوة «استبداد روما» و«تنين الفساد» الذي حول الدين إلى عبودية مقيتة، ودافع بقوة عن «حرية المسيحي» التي لا تقوم حياته بغيرها. 

Related image

مارتن لوثر

الكومنولث الديني

وعلى مدى القرنين التاليين، اعتمدت جميع الأعمال المهمة التي دعت إلى المساواة السياسية والتعددية والحرية الدينية في الغرب على أفكار لوثر. لكن أحدا لم يفعل ذلك مثلما فعله الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704). فمن خلال الجمع بين دفاع لوثر عن الضمير الفردي وأفكار إيرازموس عن «فلسفة المسيح»، تصور لوك مجتمعا سياسيا جديدا تماما يضمن تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراده، بغض النظر عن المعتقد الديني.

في كتابه «رسالتان في الحكم» Two Treatises of Government، يقدم جون لوك أساسا عقلانيا وأخلاقيا  للحكم التوافقي، حيث يضع مجموعة من المبادئ لتحقيق المساواة السياسية «أكثر فعالية وإقناعا من أي مبادئ أخرى كتبت في اللغة الإنجليزية»، على حد قول المؤرخ بيتر لاسليت. رغم ذلك، لا يمثل هذا الكتاب سوى جزء يسير من إسهامات لوك. ففي كتابه «رسالة في التسامح» A Letter Concerning Toleration يجمع لوك بين النظرية السياسية في التوافق والتأويل الراديكالي لحياة المسيح وتعاليمه ،ويرفض التصور السائد عن الهوية الدينية باعتبارها متجذرة في الأسرة أو في مساحة جغرافية أو نظام سياسي. فالإيمان عند لوك ليس ملكية تنتقل بالوراثة ،وإنما يعتنقه الفرد بعد حكمه عليه وإجازته له، ومن ثم، يجب فهم الكنيسة على أنها «مجتمع حر وطوعي».

في هذا السياق، تكشف القراءة العميقة لكتابات لوك عن عقلية مسكونة بالإيمان بقانون أخلاقي عام، وبسرمدية الروح، والأمل في حياة أبدية. ويظهر في كتاباته عن التسامح الديني بصورة متكررة مبدأ أن «كل إنسان لديه روح خالدة، قادرة على السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي». ولأن المخاطر بالغة، فإن الواجب المركزي للحكومة عند الفيلسوف الإنجليزي يتمثل في حماية حرية كل فرد لاكتشاف الحقيقة عن الله وتكاليفه الأخلاقية، وأن هذا التكليف هو أهم ما تضطلع به الحكومة، ولذا فإن فشل أي حكومة في دعم هذا الحق الطبيعي في الحرية الدينية يفقدها شرعيتها.

كما يجب أن تضمن الدولة العادلة – من وجهة نظر لوك – حقوقا متساوية لجميع مواطنيها بغض النظر عن هويتهم الدينية. فالروح المدنية التي يدعو إليها لوك في كتابه «رسالة في التسامح» هي أن يعامل الناس إخوانهم المواطنين كما يحبون أن يعاملوا: «لا يجب استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الحقوق المدنية للكومنولث على أساس الدين».

وفي موضع آخر من رسالته، يوضح لوك أن الكومنولث التي يدعو إليها «تضع الكاثوليك الملتزمين بالقانون ضمن هؤلاء الذين يجب منحهم حقهم في المساواة»، وهو ما يمثل طرحا ثوريا في أمة بروتستانتية متحاملة ضد الكاثوليك. 

 

الآباء المؤسسون

وبعد قرن من الزمان، تتحول رؤية لوك لمجتمع عادل وتعددي إلى تعبير سياسي في المؤتمر الدستوري الأمريكي لعام 1787، حيث ينظر جميع مؤسسي أمريكا إلى الحرية الدينية باعتبارها حجر الأساس لحكم ذاتي جمهوري. وقد جاء في نص حكم  صدر عن المحكمة الدستورية العليا عام 1947، وصاغه القاضي «روبرت جاكسون»: «إذا كانت ثمة حقيقة دستورية راسخة لدينا، فهي أنه لا يمكن لأي مسئول، كائنا من كان، صغيرا أو كبيرا، أن يحدد ما هو صحيح  في السياسة، أو القومية، أو الدين، أو أي شأن من شئون الرأي، أو أن يجبر أي مواطن بالقول أو بالعمل على اعتناق عقيدة لا يؤمن بها».

وتتجلى هذه القناعة بشكل رائع، ليس فقط في المواد المتعلقة بالدين في «التعديل الأول» First Amendment، ولكن أيضا في مقدمة جيمس ماديسون لمناقشات المؤتمر حول الدين في وثيقته التأسيسية التي حملت عنوان Memorial and Remonstrance against Religious Assessments (التماس واحتجاج ضد التقييمات الدينية) التي تجاوز دفاعها عن حرية الضمير السياسات المحلية، وجمعت بين أفكار إيرازموس ولوثر ولوك.

وعلى خطا لوثر ولوك، يصف ماديسون الضمير باعتباره «المجال المقدس للإيمان»، ويؤكد أن «دين كل فرد يجب أن يترك لقناعته وضميره، وأن يمارسه كما تمليه عليه تلك القناعة وذاك الضمير».

Image result for ‫جيمس ماديسون‬‎

جيمس ماديسون

افتراءات على الليبرالية

يصر منتقدو الليبرالية من المحافظين واليمنيين على أن انتصار  الليبرالية للحرية، إنما  يهدف بالأساس إلى تحرير الأفراد من التزامهم الأخلاقي نحو الله والمجتمع. ففي كتابه Why Liberalism Failed (لماذا فشلت الليبرالية؟)، يؤكد باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدستورية في جامعة نوتردام، أن الهدف من الليبرالية هو «تحقيق الحرية الكاملة»، وذلك عن طريق تحرير الأفراد من أي التزامات تتعلق بالصالح العام. ويضيف أن الأجندة الخفية للآباء المؤسسين كانت «رعاية اللامبالاة المدنية والفردانية بين المواطنين»؛ وهو ما سيسمح للدولة بترسيخ سلطتها وتهميش الدين من الفضاء العام.

هذه العبارات التآمرية المستمدة من السرديات الماركسية ليس لها أساس في السجل التاريخي الليبرالي؛ إذ لم يكن لوك قانعا بـ «التدابير الضيقة للعدالة المجردة» في المجتمع التعددي الذي رسم ملامحه، بينما  أصر ماديسون صراحة على حرية الضمير، ليس فقط كحق مشروع، وإنما كواجب ديني: «إن ما نعده حقا تجاه الإنسان، هو واجب نحو الخالق، ويسبق هذا الواجب دعاوى المجتمع المدني سواء على مستوى الترتيب الزمني أو مدى الالتزام». لذا، يعتبر الآباء المؤسسون – كقراء نهمين لكتابات لوك – الحرية الدينية حقا طبيعيا لأنها سابقة على الحق السياسي، ومن ثم، فإن «حرية الضمير وحرية الاختيار ليسا أمرا واحدا، فحيثما يملي الضمير تقرر الحرية، وحيثما يتم اغتيال أو تقييد حرية الضمير، يتحول الحق المرتبط به إلى ممارسة الواجب المفروض وليس الاختيار.. تلك هي قضية ماديسون»، كما كتب العالم السياسي مايكل سانديل.

وقد عبرت هذه الرؤية للضمير الديني عن نفسها بجلاء، ليس فقط في دساتير الولايات المتحدة، وإنما أيضا في الخطب المنبرية الخاصة بهذه المرحلة. ورغم ذلك، يتنكر المدافعون عن نظام العصور الوسطى لهذه الحقائق. ففي كتابه The Benedict Option، يقول «رود دريهر»: «لقد فقد الغرب الخيط الذهبي الذي يربطنا بالخالق والخلق جميعا، ويربطنا ببعضنا البعض». لكن لوكونتي يؤكد أن هذا الخيط الذهبي – إذا كان قد وجد من الأساس – فإنه  فُقد قبل وصول الديمقراطية الليبرالية بزمن طويل.

*يمكن قراءة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

        

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock