أدى انتشار شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) في مطلع الألفية الجديدة إلى حدوث العديد من التغييرات في شتى مناحي الحياة،وقد كان للسياسة نصيب كبير منها، بداية من تولي «باراك أوباما» رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فى يناير عام ٢٠٠٩ ليكون أول رئيس أمريكي أسود البشرة ومن أصول إفريقية، مرورًا بثورات الربيع العربي، وحتى فوز «دونالد ترامب» في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وليس انتهاء باستفتاء «البريكست» في بريطانيا الذي لم يتم الاتفاق على شروطه حتى الآن.
في كل تلك الأحداث لعبت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً بارزاً، وهو ما ناقشه الكاتب الأمريكي «ستيفن كولمان» في كتابه «هل يمكن للإنترنت أن يعزز من قوة الديمقراطية؟».
اختلال ميزان الديمقراطية
بدأت فكرة الديمقراطية ووجود برلمان في الأساس بسبب بُعد المسافات، حيث لا يعيش جميع المواطنين في العاصمة، ومن الصعب عليهم السفر إليها بشكل دوري، لذا كانوا يختارون ممثلين لهم ليعبروا عن أفكارهم ومصالحهم، كما أصبح أولئك الممثلون ينوبون عنهم في فهم القوانين والسياسات المُعقَّدة أيضاً.
إقرأ أيضا:
الشعوب في مواجهة النخب: الشعبوية.. أيديولوجيا أم أسلوب لإدارة السياسة؟
ومع مرور الوقت اتسعت الفجوة بين ممثلى الشعب وعامة الناس، حيث تحولت النخب ،التي من المفترض أن تعبر عن من اختاروهم، إلى التعبير عن مصالحهم الشخصية بدلاً من ذلك، ناظرين إلى العوام على أنهم قطيع ساذج يجب أن يساق بواسطتهم، الأمر الذي أدركه الناس مما أصابهم بإحباط، لأنه عادة ما تكون أراؤهم لا قيمة لها، إلاحين تُجرى الانتخابات فقط.
وبطبيعة الحال اختل ميزان الديمقراطية، حيث أصبحت – إلى حد كبير- حكراً على الأغنياء لامتلاكهم القوة والنفوذ والأموال اللازمة للدفاع عن مصالحهم وتنظيمها، في حين وجد المواطنون العاديون أنفسهم عاجزين عن ذلك، حيث لا يملكون الوقت ولا القوة و لا المال أو حتى المعرفة الكافية لممارسة حقوقهم السياسية بالفعالية نفسها.
كسر الحواجز
لكن ظهور الإنترنت غير قوانين اللعبة، فأصبح لدى الناس الفرصة للتواصل مع بعضهم البعض، وتنظيم أنفسهم دون الحاجة لمنظمات، كما تمكّن الناس من كسر التابوهات بالحديث عن موضوعات حساسة لأول مرة لها علاقة بالسياسة والدين والجنس دون قيود، وهو ما أربك مؤسسات الدول التي وقفت في منتصف الطريق غير قادرة على التعايش مع الإنترنت وغير قادرة أيضًا على التعايش بدونه.
يطرح «كولمان» في كتابه الفكرة التي لطالما دافع عنها وهي عدم جدوى وجود وسيط بين الناس والحكومات في العصر الحديث، حيث كسر الإنترنت حواجز المسافات والوقت وحتى المعرفة، فبات بإمكان الناس أن يعبروا بشكل مباشر عن آرائهم، كما أصبح بإمكانهم الإطلاع على المعلومات التي يحتاجونها لفهم ما يريدونه بأنفسهم، حتى أن المعلومات السرية التي كانت الحكومات قديماً تنجح في إخفائها عن العامة، أصبحت متاحة من خلال تسريبات على مواقع ومنصات من أشهرها «ويكيليكس»، وهو ما جعل الناس تخوض بقوة فى المشهد السياسي سواء في نقاشات سياسية افتراضية على مختلف وسائل التواصل الإجنماعى أو حتى فى الشارع، وإجبار الحكومات على تنفيذ مطالبهم.
لكن «كولمان» يشكك فى أن هذه هي نوعية الديمقراطية التي تريدها الدول لمواطنيها، فرغم قدرة الجماهير غير المسبوقة الآن على الحشد، إلا أن السياسات والقوانين الجوهرية لاتزال في يد مؤسسات الدولة التي غالباً لا تغير أياً منها إلا عند الأزمات والكوارث التي تجعل التغيير أمراً لا مفر منه، حيث غالباً ما يأتي الحشد الافتراضي بنتائج على المدى القصير دون إحداث تغييرات جذرية حقيقية، إضافة إلى ذلك فمازالت نظرة النخب إلى العوام نظرة فوقية، فبالنسبة لهم حتى وإن اطلع المواطنون العاديون على المعلومات التي لا حصر لها على الإنترنت ،فغالباً لن يكون لديهم ما يكفي من الوقت والفهم لتحليلها وفرزها لمعرفة أيها دقيق أو غير دقيق، لذا فهم يحتاجون لقائد يقودهم نحو “الأصلح” لهم، ومن هنا انطلقت الشعبوية خاصة في الأعوام القليلة الماضية كبديل للديمقراطية.
ديمقراطية زائفة
وفقًا لـ «كولمان» يبدو أن الكثيرين قد ضاقوا ذرعًا بديمقراطيات زائفة يتم احترامهم فيها فقط في الانتخابات والاستفتاءات لاستغلال أصواتهم، ليتخذ العديد من المواطنين بدلًا من ذلك اتجاهًا أكثر شعبوية، وهو ما يفسر فوز «ترامب» عام ٢٠١٦ حيث أعلن: «أنا صوتكم»،
وعلى الرغم من ربط الإنترنت لقضايا العالم معًا، إلا أن العديد من المواطنين في المجتمعات الغربية قد ضجوا من العولمة، ومسؤولياتهم تجاه- ليس فقط دولهم- وإنما دول أخرى، حيث لم تعد قرارات الدول فردية، وإنما يجب أن تتماشى مع السياق العالمي في الملفات الاقتصادية والسياسية، فضلًا عن أزمة المهاجرين التي باتت تشكل صداعاً من الصعب التخلص منه، وهو ما يفسر تصويت البريطانيين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وصعود شعارات قومية مثل »فلنجعل أمريكا عظيمة مجددًا».
ويوضح الكاتب أن تأرجح العالم بين ما هو شعبوي و ما هو ديمقراطي، أو عالمي وقومي، أو حتى مركزي وشبكي، نابع من تذبذب الناس وإحباطهم لعدم ثقتهم في قادة وإعلاميي الديمقراطيات سواء القديمة أو الحديثة، حيث فُّرّغت الديمقراطية من محتواها لتصبح إجراء روتينيا يصبح للفرد فيه قيمة في الانتخابات والاستفتاءات فقط، وهو ما جعل الفرصة سانحة أمام الشعبويين الذين عادة ما يثق الناس فيهم ثقة عمياء لمداعبتهم لأحلامهم ووعودهم الدائمة بالقضاء على ما فشل فيه غيرهم، وهو ما يعتبر صفقة رابحة لغالبية الناس الذين يرغبون في حياة هادئة ولا يهتمون إلا بالقضايا السياسية التي تؤثر عليهم فقط، ويرغبون في اتباع من هم أعلم منهم بتلك الأمور.
الأمل فى التغيير
يرى «كولمان» أن الإنترنت ليس مفتاحًا سحريًا يمكنه فتح أبواب الديمقراطية السليمة، وإنما أداة يمكن الرهان عليها لقلب المشهد السياسي العالمي رأساً على عقب إذا بدأ الاهتمام بإيصال معلومات مركزة إلى الناس بدلاً من تشتتيتهم وسط الآلاف من المعلومات والأخبار السياسية المرهِقة، مع تشجيعهم على تقبل الرأي الآخر ومرونة تغيير مواقفهم السياسية إذا كان هناك ما يكفي من الأدلة المقنعة أن هذا هو الأفضل للمجتمع ككل، فضلًا عن احترام جميع الأفراد- ليس فقط في مواسم التصويت وإنما بشكل دائم- والأهم من ذلك ممارسة الديمقراطية دون إقصاء للآخر أو فرض رؤية لها بُعد واحد فقط على الجميع، حتى يصبح لدى الناس أمل في قدرتهم على التغيير،ومنحهم الثقة للديمقراطية مرة أخرى.