لا شك أننا نشهد مرحلة من أخطر المراحل التي مرت بها الإنسانية حتى الآن، حيث تحيط بنا الحروب على المستوى العسكري والاقتصادي وحتى النووي، فضلًا عن تفشي الإرهاب وتفاقم المشاكل البيئية التي تهدد حياة الكوكب بأكمله.
وفي محاولة لتفكيك هذا المشهد الملتبس، يطل علينا «نعوم تشومسكي» المفكر السياسي البارز والفيلسوف وعالم اللسانيات الاستثنائي من خلال مجموعة ثرية من اللقاءات مع محاوره الدائم الإعلامي الأمريكي البارز «دايفيد بارساميان»، الذي أصدر بدوره عدة كتب مهمة مشاركاً في تأليفها مع شخصيات بارزة أخرى مثل: إدوارد سعيد وطارق علي. وفي هذا الكتاب الذي صدر مؤخرا بعنوان «Global Discontents: Conversations on the Rising Threats to Democracy» «سخط عالمي. حوارات حول التهديدات المتزايدة للديمقراطية»، يطرح تشومسكي وعبر 12 جلسة حوارية مع بارساميان، العديد من الآراء الجريئة والصادمة في كثير من الأحيان، والتي تتمحور بشكل أساسي حول محاولة رصد ومناقشة ما آلت إليه أحوال عالمنا الراهن- «هذا العالم الذي سنتركه لأحفادنا» على حد تعبير تشومسكي، الذي يقدم خلال حوارات هذا الكتاب نظرة استشرافية لأوضاع العالم والمنطقة العربية، وما يمكن أن تؤول اليه في المستقبل.
تشومسكي
وتحمل هذه الآراء الكثير من الانتقادات اللاذعة لإسرائيل وللولايات المتحدة والغرب عموما ولإدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، وسياساته تجاه الفلسطينيين. فعلى الرغم من انحداره من عائلة يهودية وكونه أمريكي الجنسية، إلا أن تشومسكي عُرف بأنه دائم الانتقاد اللاذع للسياسات الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء. فقد إرتبط اسم تشومسكي، الأستاذ في معهد ماساشوستس في الولايات المتحدة، بمواقفه كمفكر ومعلّم ينتهج الموضوعية في نظرته إلى قضايا العالم، وفي مقدمتها قضية فلسطين و الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الذي ينظر اليه لا باعتباره صراعاً بين طرفين متكافئين، ولكن بوصفه نزاعاً بين طرف ظالم (إسرائيل) وطرف مجني عليه (الفلسطينيون).
الماكينة الأمريكية للإرهاب
في الجزء الأول من عرضنا لهذا الكتاب المهم نتناول مواقف نعوم تشومسكي المتعلقة بقضايا مستقبل الجماعات المتطرفة وتصاعد خطرها سواء في المنطقة العربية أو العالم عموما، والدور الأمريكي في دعم وتشجيع هذه الجماعات الإرهابية، وتأثير ذلك على مستقبل الديقراطية في البلدان العربية.
وعلى عكس المتوقع بأن يتحدث «تشومسكي» عن الجماعات المتطرفة كممثل رئيسي للإرهاب، فإنه يطرح في كتابه رؤية مغايرة تمامًا، حيث يؤكد أن السياسات الأمريكية هي المولد الرئيسي للإرهاب، فيما أسماه ب «الحملة الإرهابية الدولية» التي ساهم الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» في استمرارها بتمديده للبرامج الإجرامية التي بدأها سلفه «جورج بوش الابن»، مثل برامج الطائرات بدون طيار التي تستهدف في معظم الأحيان مدنيين.
و على الرغم من أن الفضل نُسب لـ «أوباما» في سحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، إلا أنه في الواقع ما فعل ذلك إلا لأن تلك الانسحابات كانت ستتم على أي حال، حيث يرى «تشومسكي» أن الولايات المتحدة هُزمت بشكل واضح في العراق، بعدما فشلت في تحقيق جميع أهدافها. لذا فالانسحاب في هذه الحالة لا يعتبر إنجازاً، كما يؤكد تشومسكي.
أوباما بوش
على الجانب الآخر يتساءل «تشومسكي»: «إذا كنت تعيش في إحدى قرى اليمن على سبيل المثال ولا تعلم إذا كان سيكون هناك انفجار مفاجىء في الشارع في غضون خمس دقائق يودي بحياة مجموعة من البشر وقد تكون أنت من ضمنهم، ألا يعتبر ذلك إرهابا؟.. أن تعيش في خوف دائم وتشهد انفجارات مستمرة فهذا هو ما يعنيه الإرهاب تحديدًا».
لا تسبب الهجمات الأمريكية دمارًا وقتلى بالآلاف فقط وإنما تعتبر ماكينة لإنتاج الإرهابيين بحسب وصف تشومسكي، حيث يتم استهداف الأشخاص عشوائيًا لمجرد أن أعمارهم أو جنسياتهم أو حتى مواقعهم تناسب الوصف الأمريكي للـ «النشاط الإرهابي» وهو ما يُخلِّف ضحايا على مستوى لا يمكن لتنظيم القاعدة ذاته أن يحلم به، وبالتالي يكون شحن الناس للانضمام للجماعات المتطرفة أمرًا سهلًا بل وطبيعيًا.
جذور داعش
يرى «تشومسكي» أن تنظيم الدولة أو داعش استقى أيديولوجيته من المملكة السعودية، التي تتبنى المنهج السلفي أو الوهابي المتطرف، إضافة إلى دعمها للمجموعات الجهادية ماديًا،. وبالطبع فإن المقصود هنا ليس الحكومة السعودية، وإنما الأثرياء من مواطني السعودية والكويت وغيرها من الدول التي يقدم بعض أفرادها الدعم المادي والأيدولوجي على حدٍ سواء.
أما على المستوى السياسي فإن الولايات المتحدة تقوم باستكمال المهمة، من خلال تغذية تلك المجموعات بدوافع انتقامية بسبب تدميرها لأوطانهم. فكلما زادت حدة الصراعات كلما توحشت الجماعات المتطرفة. وبحسب «تشومسكي» فإنه حتى إن تمكنت أمريكا من تدمير تنظيم داعش، فعلى الأرجح ستنشأ جماعات أخرى أكثر عنفًا وتطرفًا، لأنها رد فعل لدمار مستمر على مدى عقود شهدته العراق وليبيا فضلًا عما يحدث الآن في سوريا واليمن وفلسطين وغيرها من البلاد العربية، التي تفككت واتسعت في بعضها الفجوة بين السنة والشيعة، كما هُجّر العديد من بلادهم وصاروا لاجئين،إضافة إلى مئات الآلاف من القتلى والمصابين، وكل هذه الأحداث الدامية من المستحيل أن تمر دون رد فعل.
تحالفات متناقضة
لكن السؤال الذي طرح خلال الحوارات مع تشومسكي كان تفسيره للتحالف القائم حاليا بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية، التي يُنظر اليها باعتبارها أكبر ممول للجماعات الإسلامية المتطرفة، فضلًا عن الكارثة الإنسانية التي خلّفتها في اليمن؟..
للإجابة عن هذا السؤال يستخدم «تشومسكي» كلمة من ثلاثة أحرف فقط: «نفط»، حيث تعتبر السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، إضافة إلى كونها تابعا «مطيعا» على حد وصف تشومسكي، وهو ما جعل بريطانيا وأميركا يتنازعان أثناء الحرب العالمية الثانية حول من سيكون له السيطرة على السعودية.
فعلى الرغم من سيطرة بريطانيا على المنطقة قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن أمريكا نجحت في إزاحتها لتصبح واشنطن القوة المهيمنة في السعودية، مرسلة إليها أسلحة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. ولذلك فإنه ورغم ما يبدو ظاهريًا من أن أمريكا ومن قبلها بريطانيا تقاومان صعود التطرف في الشرق الأوسط وتدعمان الاتجاه القومي العلماني، إلا أن العكس هو الصحيح، وذلك لإبقاء حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وضمان أن الموارد لن يتم توجيهها نحو الشعوب العربية وإنما نحو اقتتالهم.
ترامب
ووفقًا لـ «تشومسكي» فقد نجحت سياسات الولايات المتحدة في نشر إرهاب الجهاديين من أفغانستان إلى العالم أجمع، من خلال رفع مستوى العنف في التعامل معهم وهو ما يحول الوضع بشكل دائم من سىء لأسوأ، حيث يشير المحلل العسكري «أندرو كوكبيرن» إلى أن كل مرة تقتل فيها أمريكا قائدًا من تلك الجماعات، تعلن عن ذلك باعتباره نصرًا، لكن الواقع أن ذلك يصب في مصلحة الجهاديين حيث يستبدلون ذاك القائد بآخر أصغر سنًا وأشد عنفًا، وهو ما يجعل جماعات مثل داعش والقاعدة يدْعون أمريكا لمواجهتهم بشكل صريح، حتى يستخدمون هذا الصراع كأداة لاستقطاب المزيد من الأفراد وربما – تدريجيًا – تحويلها إلى حرب مع العالم الإسلامي كله.
أندرو كوكبيرن
يبدو الإرهاب كدائرة مفرغة في الشرق الأوسط لا يمكن كسرها إلا بإيقاف الحروب والصراعات العربية، وهو ما يستبعد تشومسكي حدوثه في وقت قريب، نظرًا لتشابك مصالح دول العالم وتعارضها مع بعضها البعض. فما بين إيران وروسيا وتركيا وأمريكا وإسرائيل وغيرهم يتمزق العالم العربي ويفرز في المقابل جماعات متطرفة ترغب في الانتقام، وهو ما يترك الديمقراطية في المنطقة – على ما يبدو – دون أي مستقبل أو حتى أمل، لتتحمل الشعوب – ليس فقط العربية- وإنما أيضًا الغربية، العواقب التي تشمل على سبيل المثال لا الحصر؛ تفاقم مشكلة اللاجئين وتزايد مخاطر العمليات الإرهابية واختلال التوازن العالمي بأكمله، دون وجود حل جذري لإيقاف تلك الآلة المدمرة.
(يتبع)
مقالٌ متميِّزٌ ورؤيةٌ سديدةٌ