كانت الميزة الأساسية التى ينفرد بها المستشار محمد سعيد العشماوى بين مفكرى الاستنارة ودعاة العلمانية والدولة المدنية، هى جمعه – باقتدار – بين المعرفة العلمية العميقة بكل من القانون الوضعى والشريعة الإسلامية على السواء. من هنا تكتسب أطروحاته أهميتها البالغة، لأنه يمتلك هذه المعرفة العلمية المتخصصة، فهو لا يطلق أقوالا مرسلة، بل يفرق بدقة بين المصطلحات التى يتم الخلط بينها، مثل الشريعة والتشريع والفقه، والفائدة البنكية والربا، والإسلام بوصفه دينا هاديا والإسلام حين يتم توظيفه سياسيا، وربما لايعلم الكثيرون أن العشماوى هو أول من صك مصطلح «الإسلام السياسى» مفضلا إياه – لأنه الأكثر دقة ومصداقية – على مصطلح «الحركة الإسلامية المعاصرة» ولا شك أن مؤلفاته التى زادت على الثلاثين كتابا حول الإسلام السياسى وغيره، قد عكست طبيعة العالم العاكف على أبحاثه، والذى لا يعنيه الظهور الإعلامى ببريقه الكاذب.
ليبرالية القاضى وعدالته
من المؤكد أن سعيد العشماوى كان يضع نصب عينيه دائما مقولة «آفة الرأى الهوى» فى نظره للقضايا السياسية، ودليل ذلك أنه قد نحى أفكاره جانبا فى نظره فى الاتهامات الموجهة لخصومه السياسيين، ومن ذلك ماذكره أسامة عرابى فى موقع «الحوار المتمدن»، حين أكد أن العشماوى قد «قام بتفريغ بعض القوانين سيئة السمعة الخاصة بتجريم الرأى والفكر من مضمونها، وجعلها حبرا على ورق، بحيث لا يحارَب أحد على رأيه إطلاقا»، وقد استفاد من هذا الشموخ والترفع المتهمون فى القضية المعروفة باسم الحزب الشيوعى لعام 1980 وتكرر الموقف فى قضيتين أخريين سميت الأولى بالتنظيم الناصرى سنة 1986والثانية حاكم فيها أفرادا من الجماعة الإسلامية ومن جماعة الجهاد عام 1984وبرأهم على الرغم من اختلافه الجذرى مع أفكارهم.
محمد سعيد العشماوي
حصار دائم
كان سعيد العشماوى يحارب على أكثر من جبهة: دعاة الإسلام السياسى – المؤسسات الدينية الرسمية التى تم اختراقها من قبل الجماعات الإسلامية – أصحاب شركات توظيف الأموال بسبب نشر سلسة مقالات عن «الفائدة والربا فى الإسلام» فى الأهرام، التى توقفت عن النشر بسبب تهديد هذه الشركات بسحب إعلاناتها.
ومع ذلك ظل العشماوى على إيمانه بأن «القضاء هو صمام الأمن فى أى بلد، وأن القاضى العادل المستقل أفضل من مئات القوانين، وقد امتلك العشماوى شجاعة الرد على أحد شيوخ الأزهر حين نشر فتوى تصم الأقباط واليهود بالشرك بناء على طلب من «الرابطة الإسلامية»، وبعد تفنيده لهذه الفتوى قامت مجلة «المسلمون» السعودية وجريدتا الأخبار والشعب المصريتان بمهاجمته بمانشيتات مقذعة، وعندما حاول الرد – كما يذكر أسامة عرابى – رفضت الصحف كلها بما فيها الأهالى نشر أى شىء له وأكثر من ذلك «رفض وزير الإعلام ورئيس مجلس الشورى آنذاك صفوت الشريف ظهوره الدائم فى التلفزيون» ثم باغتوه برفع الحراسة الأمنية التى كانت مخصصة له عام 2004 لإرهابه، لكنها عادت مرة أخرى واستمرت حتى وافته المنية عام في الثامن من نوفمبر عام 2013، حيث كان على قوائم الاغتيال بسبب كتاباته التى كشفت زيف شعارات الإسلام السياسى والتى منها: الإسلام السياسى – أصول الشريعة – الخلافة الإسلامية – العقل فى الإسلام – معالم الإسلام – الإسلام والسياسة – حصاد العقل – جوهر الإسلام – الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى وهى – كما يبدو من العناوين – تعالج قضايا ذات حساسية كبيرة عند المتأسلمين الذين يرفعون سيف التكفير وإباحة الدم فى وجه كل من يخالفهم.
ولاشك أن مصادرة كتاب لاتقل قسوة عن التهديد بالاغتيال عند الكاتب المؤمن برسالته، وهذا ما حدث مع المستشار العشماوى حين اتجهت لجنة من مجمع البحوث الإسلامية إلى دار سينا للنشر بمعرض الكتاب عام 1992 وتحفظت على بعض كتبه وهى: أصول الشريعة – الإسلام السياسى – الربا والفائدة فى الإسلام – معالم الإسلام.
الإسلام والسياسة
إذا كان العشماوى هو أول من صك مصطلح «الإسلام السياسى» كما ذكرت، فإن الفقيه الدستورى عبد الرزاق السنهورى هو أول من ذكر شعار «الإسلام دين ودولة» فى كتابه «الخلافة الإسلامية» الذى صدر بالفرنسية وترجمه د.توفيق الشاوى القيادى الإخوانى بعد حذف صفحات وفقرات كاملة منه. وقد توقف العشماوى أمام هذا الشعار مفندا له وكاشفا عن تناقضاته الداخلية «فالدين عام إنسانى شامل، أما السياسة فهى قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة، وقصر الدين على السياسة قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته» (راجع كتابه: «الإسلام السياسى»، ص27، دار الانتشار العربى الطبعة الخامسة، 2004).
بإيجاز يرى العشماوى أن الدين ثابت أزلى متعال بينما السياسة متغيرة وقتية مرتبطة بمعطيات الزمان والمكان، وأن حكومة «الله» لم ولن تتحقق إلا فى العهد النبوى من خلال الوحى الذى كان يتلقاه النبى صلى الله عليه وسلم، مفرقا بينه وبين الرأى والمشورة، وقد استطاع أبو بكر وعمر أن يقتربا من فترة النبى، غير أن ما حدث بعدهما أن السياسة قد غلبت على الدين «وبدا التاريخ الإسلامى منذ هذا الوقت وقد اصطبغ فيه الدين بالسياسة وتلونت فيه الشريعة بالتحزب» وأصبح هناك احتراب بظواهر الآيات دون فهم مراميها أو مراعاة لروح الإسلام، وهو ما كنا نجده فى تجديدات الفاروق عمر، مثل إلغائه لزواج المتعة وحقوق المؤلفة قلوبهم، ىمع قيام هذه الحقوق وذلك الزواج على آيات من القرآن لم تنسخ. لكن هذا الفهم لروح الإسلام لم يستمر بعد عمر بن الخطاب باستثناء فترة عمر بن عبد العزيز الذى ألغى الجزية قائلا «إن محمدا أرسل هاديا ولم يرسل جابيا».
إن هذا التمييز بين الدين والسياسة يعد ضرورة ملحة حتى «تقوم الأعمال السياسية باعتبارها أعمال بشر ليسوا مقدسين، ولا معصومين، وأن الحكام مختارون من الشعب وليسوا معينين من الله» (ص41)، وحتى ننتقل من ثنائية الحل والحرمة الإلهية فى السياسة إلى ثنائية الخطأ والصواب البشري.
الحاكمية
من وصايا النبى صلى الله عليه وسلم قوله «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا»، ومن البديهى أن نقول إن هذه الوصية تصدق على كل شئون الحياة ومعنى هذا أن دعوى «الحاكمية لله»، التى هى الشعار الأساسي الذي يقوم عليه الإسلام السياسى دعوى واهمة، فالله – سبحانه – لا يحكم بنفسه بل وضع قيما هادية وترك تفاصيل شئون الحكم للبشر، بوصفها شأنا دنيويا، وبهذا المعنى يصبح الإسلام – وقيمه الهادية – صالحا لكل زمان ومكان، وعليه فإن الإسلام – كما يرى سعيد العشماوي – يخلو من أى نظرية سياسية، فهو كتاب هداية لاسياسة، بل إن الفقه الذى كان منوطا به أن يقدم مثل هذه النظرية قد «ابتعد فى بعضه عن كل ما يمس الحكام أو اقترب فى بعضه من كل مايرضيهم ويسعدهم.. لكنه لا يعنى أبدا ولا يهتم ولا يلتفت مطلقا إلى ضرورة قيام نظام سياسى محكم.. لا يكون الحاكم فيه إلا جزءا من النظام» (ص35).
أما الخلافة التى اعتبرها البعض نظاما سياسيا إسلاميا ،فهى – عند العشماوي – مجرد صيغة ظهرت موازية للدين وليست جزءا منه، لأن من الخطورة أن تنسحب أعمال هؤلاء الخلفاء الذين ضرب بعضهم الكعبة بالمنجنيق ومثّلوا بجثث أعدائهم، من الخطورة أن تنسحب هذه الجرائم على الإسلام أو على نظام يوصف بأنه «إسلامى».
إن كتابات سعيد العشماوى تعد مرجعا أساسيا فى تفنيد الكثير من شعارات الإسلام السياسى التى تدور حول أن «الحاكمية لله ولا حاكمية للبشر وأنه لابد من حكومة دينية لإقامة النظام الإسلامى، وأن الإسلام دين ودولة، وأنه لا ينبغى أن تكون للمسلم أية جنسية إلا الإسلام، وغير ذلك من شعارات براقة لكنها من الخطورة بحيث تبيح حرب الجميع ضد الجميع فى الداخل والخارج وتفتت وحدة المجتمع وتكفر نظامه الحاكم وتعلن الإرهاب على الجميع ناهيك عن أنها لاتصمد أمام أى نظر عقلى أو علمى وهذا ماكشف عنه سعيد العشماوى في كل كتبه، التي لم تحظ بما تستحقه من دراسة وتحليل وفهم حتى يومنا هذا.