أطفال هذه السنين ليسوا كأطفال الزمن الماضي.. هذه مقولة حقيقية تماما على الرغم من كونها كثيرة الصدور من العوام، قبل أن تكون صادرة من أخصائيي التربية وعلماء النفس والاجتماع.
فمن حين بلوغ الطفل من هؤلاء سن ثلاث سنوات يكون قد تعّود على التعامل مع التكنولوجيا في صورة الهاتف المحمول الذي للأب أو الأم، فأدمن ألعابه ومنها الصعب والبشع الذي لا يناسب عمره، ويكون واظب على اليوتيوب ناجحا في الهروب من رقابة أبويه بأشكال تحايلية عجيبة، ومشاهدا ما لا يصح أن يشاهده في سنه الصغيرة وهو بعد قليل الإدراك، ويكون دخل الحضانة الخاصة واكتسب عادات كثيرة من زملائه لعل القبيح فيها أكثر من الجميل (صار الآباء والأمهات الآن يلحقون أطفالهم بالحضانات في أثناء الرضاعة لفرط الانشغال بالأعمال الوظيفية والشؤون المعيشية) وإذا كان الدفع بالأطفال للحضانات في مرحلة مبكرة للغاية هكذا صار أمرا مستساغا بحكم تعقيدات الواقع وقسوة ظروفه فإننا لا يجب أن نغفل عن الأخطار الكبرى المحيقة بالوضع الاضطراري المؤسف.
على كل حال نحن في الأوقات الحالية، ومنذ أجيال مضت في الحقيقة، بإزاء طفل جديد مختلف عن طبيعتنا القديمة تماما نحن الكبار ومغاير لنا، ومن ضمن ما يحتاج إليه وجوده الذكي الصاخب كتابة تخصه وتعرف كيف تجذبه من العوالم البراقة المدهشة التي خلبت لبَّه واستولت عليه استيلاء يستعصي على المقاومة!
كامل كيلاني الذي علم الأطفال الخيال
رواد الكتابة للطفل في مصر
في ريادة أدب الطفل لدينا أساتذة كبار يعرفهم العالم العربي حق المعرفة والعالم بأسره من خلال الترجمات، من أمثال الأستاذ الكبير يعقوب الشاروني والراحل الكبير كامل كيلاني والمبدعة القديرة الدكتورة عفاف طبالة، وقد قدموا جهودا خالدة في هذا المضمار هي أطول وأشهر من أن تُذكر، ونالوا ألقابا رفيعة وجوائز كبرى، وأبرز ما فيهم كان إرادة التطور مع مرور الزمن لفهمهم اختلاف إيقاع كل مرحلة عن سابقتها.
وخير دليل على ما أصفهم به الآن فوز الروائية الدكتورة عفاف طبالة (مواليد 1941) بجائزة الشيخ خليفة التربوية في العام السابق 2018، في مجال التأليف التربوي عن روايتها «فك شفرة». أعني صمود عطاء الرواد إلى اللحظة الراهنة بكل تجلياتها الحداثية.
ومع الجيل الرائد لا ينسى مؤرخ -أيا كان – عبير أمير الشعراء أحمد بك شوقي في أثره النفيس «شوقيات الأطفال»، وهي قصائد قصصية أو قصص شعرية ماتعة جرت على ألسنة الحيوانات، فقد كانت وما زالت نهرا سلسالا يغترف منه الأطفال والكبار على السواء.
ولست أظننا نطلب ممن بقوا من جيل الرواد العظيم (أمد الله في أعمارهم) جهودا أخرى، فحسبهم ما صنعوه، والبركة في شباب الكتاب والمبدعين. وإن كان لدينا عدد قليل من المبرزين على ساحة الكتابة للطفل حاليا، يمكن رصدهم ودعمهم وحثهم على الاستمرار، بالرغم من العوائق، ودفعهم إلى ابتكار شاطئ عبقري يليق بالإبحار الخطر في عالم الصغار.
يعقوب الشاروني.. صاحب الأقنعة الجميلة
لماذا تراجع أدب الأطفال؟
دائما هناك مطبوعات ملونة تخص الأطفال، مجلات متخصصة عربية ومصرية، وملاحق ببعض الصحف والمجلات غير المتخصصة، ودائما هناك انخفاض مؤسف في نسبة الإقبال عليها نظرا لارتفاع الأثمان وإصرار المحتوى بالجملة على التقليدية وانصراف الأطفال بالأساس إلى الفيديوهات؛ فالسماع والمشاهدة يخطفان الطفل خطفا من القراءة، وحيوية الصورة المرئية تأخذه من أحضان الحكاء القديم الذي كان يحكي له الحكايات بينما يمسح بكف يده شعره لينام. بالنسبة للكتب نفس الشأن مع غلائها عن المجلات والصحف وعجز الأسر عن اقتنائها وافتقار معظم المتصدين للكتابة الأطفال للخيال الجامح المحبب القادر على أسر الطفل مع جمود الرسامين أيضا فأكثرهم لا يمنح الصور المرسومة أبعادا تُشعر الطفل بالانسيابية.. لا يعني هذا أن نطالب بحجب الإصدارات توفيرا للنفقات المهدرة هكذا، لكنه يعني بالبداهة أن نلفت نظر الكتاب والرسامين لدينا لما ينقصهم ليقترب الطفل من المادة المطبوعة بعد أن نجعلها في عينيه وأذنيه كالمشهد الأثير المتحرك والصوت الحميم الذي يحكي حكايات ما قبل النوم وهو يداعبه برفق، وهو ما يتوفر، بصور زاهية، في المطبوعات الأجنبية التي يحبذ اقتناءها كثيرون من الصغار.
الجوائز العربية وأدب الطفل
كثرت الجوائز العربية في مجال أدب الطفل، ورصدت المؤسسات المقيمة لها مكافآت ضخمة للفائزين مع طبع قصصهم الفائزة وأشعارهم في طبعات فاخرة على حساب المنظمين، ليس لدينا في مصر مثل هذه الجوائز بأحجامها التي في الخارج العربي، لا سيما قطر والإمارات، لضعف الإمكانيات عندنا، لكن يمكن معالجة الأمر مع الإحساس العالي بأهمية قضية الكتابة للطفل واقتراح طريقة فعالة لتوفير ما ينقص تمامه، وما لدى العالم العربي يتممنا على كل حال؛ فما لديه لدينا بمعنى ما والسوق فسيحة ومفتوحة لا مغلقة.
وقد نشطت حركة أدب الأطفال مع هذه الجوائز إلى حد كبير وصنعت منتجا راقيا وزاخرا بالدرر على محدوديته، لكنها للأمانة خلقت مشكلتين حقيقيتين، أولاهما: استنساخ أعمال فائزة في دورات فائتة للمسابقات من باب الاستسهال وضمان الحصول على جوائز في دورات تالية. والثانية: أظهرت صراعا ضاريا من أجل حصد المكانة والمال لا تحديث الأعمال وتطويرها.
كيف نواجه الاضمحلال
كما نريد لمدرسي المرحلة الأساسية من التعليم (الابتدائية، الإعدادية) أن يكونوا في منزلة اجتماعية مميزة ماديا ومعنويا، وكما تسعى حكومتنا لإمدادهم بالدورات التدريبية التي تحسن أداءهم وتصلهم بتجليات العصر العلمية، فإن علينا أن نفرد لأدب الطفل مساحته المستقلة بين الآداب، أقول المستقلة وأنا أعني الكلمة تماما، وأن نقيم له ورشا وساحات تدريب وتمرين وأكاديميات، وأن ندعم أنشطته في قصور الثقافة دعما لائقا فائقا، ونستقطب إليه عناصر جديدة على الدوام (من الكتَّاب والأطفال)، بل أن نعلِّم الأطفال أنفسهم كيف يعبِّرون عن مشاعرهم بحرية، لغة وألوانا، وينقلون لنا وللدنيا رؤاهم وتصوراتهم حول الوطن والعالم والكائنات وواقعهم المعاش.. وأخيرا أن نجِدَّ كلُّنا في تسليط الضوء على الموضوع كرقم متقدم في اهتماماتنا، فلا يصح أن يكون متأخرا البتة، لأنه يعني المستقبل الزاهي الباهر فوق ما يمكن أن يعني ذلك شيء آخر.