رؤى

من قصيدة بيرم إلى تغريبة أمريكا.. نازلي.. ملكة «العواصف»

كلما هبطت لمنطقة وسط البلد، حيث شارع رمسيس، أجدها تظهر لي وتطل عليَّ من واجهات العمارات والمباني القديمة المميزة لهذا الشارع العريق. يداهمني هذا الاحساس كلما تذكرت أنه في أحد الأيام كان يحمل اسمها، قبل أن يتحول إلى اسمه الحالي شارع رمسيس، وهو شارع يحكي جزءًا هامًا من تاريخ مصر. ففي البداية كان يطلق عليه شارع عباس الأول، حيث تم شقه أيام الخديوي عباس، وكان يصل إلى منطقة «الريدانية» أو «العباسية» حاليًا، وقد ظل اسم الشارع هكذا حتى عهد الملك فاروق الذي غيَّر اسمه إلى شارع «الملكة نازلي» والدته المبجلة – تكريمًا لها ولدورها – في جلوسه على كرسي العرش، رغم أنه لم يكن قد بلغ السن القانوني لتسلم السلطة، فعينت لجنة وصاية علية برئاسة أكبر الطامعين في الحكم حينها الأمير محمد علي توفيق.

الملكة نازلي، والملك فاروق

وأقنعت الشيخ مصطفى المراغي، إمام وشيخ الازهر آنذاك بأن يتم حساب عمر فاروق بالتقويم الهجري وليس الميلادي، كما أصدر فتوي بأنه يجوز له التصرف في امواله عندما يبلغ 15 عاما من عمره، وبالفعل تسلم فاروق حكم البلاد وهو في السابعة عشرة من عمره حسب التقويم الميلادي والثامنة عشرة حسب التقويم الهجري. لكن لم يدم اسم نازلي طويلا على الشارع الهام، وتم رفعه بعد فضائحها المتعددة، وسحب لقب الملكة منها. حيث تحول إلى اسم «نهضة مصر» وبعد قيام ثورة 23 يوليو، تم نقل تمثال «نهضة مصر» من مكانه الأول في ميدان باب الحديد إلى ميدان جامعة القاهرة في عام 1955، ثم وُضِع تمثال رمسيس الثاني، واستقر اسم شارع رمسيس وميدان رمسيس على هذا الإسم حتى الان.

تمثال «نهضة مصر»

قصيدة بيرم

أقرأ أبيات عمنا «بيرم التونسي» وتتردد في أذني، حاملة- سيرة ورائحة – وجزءا من أفعال تلك المرأة، تلك المنشورات التي كانت تقوم بتوزيعها زوجة «أحمد حسنين باشا»، «لطيفة هانم يسري» وقد اشتعلت في قلبها نيران الغيرة على زوجها، عندما علمت بعلاقته بالملكة نازلي، تلك القصيدة التي لا تزال تقطر سخرية من العائلة المالكة، والتي كانت السبب في هروب أو نفي عمنا «بيرم التونسي» ذات يوم، أثناء أيام ثورة 1919.

أحمد حسنين باشا وزوجته لطيفة هانم يسري

والحكاية مكتملة نجدها في ذكريات وصفحات أستاذ الصحافة المصرية  «محمد التابعي»، فهو يصف أحوال بيت «أحمد حسنين باشا» بعد عودته من رحلة برفقه العائلة المالكة، وكان –التابعي- معهم، حيث رصد الغيرة المشتعلة في قلب زوجة أحمد حسنين باشا، واتهامها لنازلي بإنها «امرأة – مشاية مع حسانين»، وحكايات كثيرة عن سيرة الملكة في باريس وجنيف ولندن، مؤكدة في أقاويلها أن الملك فاروق «مغفل» مثل أبيه أحمد فؤاد.

محمد التابعي

لكن الأمر لم يتوقف عند ما كان يحدث حينها، فقد غاصت زوجة أحمد حسنين باشا في الماضي – المشين – للعائلة المالكة، خاصة «سيرة نازلي»، لترتد لأيام زواجها من الملك أحمد فؤاد، حيث كانت هي الزوجة الثانية له بعد طلاقه للأميرة «شويكار».

الملك أحمد فؤاد والأميرة شويكار

كانت لطيفة هانم يسري لا تترك المجال أو الجلسات إلا وأخذت تقطع في فروة «الملكة نازلي» طاعنة فيها وفي سلوكها، راوية عنها الكثير من القصص المشينة، خاصة قصة زواجها بالملك أحمد فؤاد، وكيف هربت نازلي، وكيف ضبطوها، والشائعات الكثيرة التي أحاطت بهذا الزواج، خاصة شائعة ارتبطت بميلاد الملك فاروق ذاته، فحمل والدته «نازلي» لم يكمل التسعة أشهر، ويقول التابعي أنه في إحدي جلسات نميمة لطيفة هانم عن نازلي، اقترب منها محام شاب، وأخبر «لطيفة» بأن شاعرا كبيرا هو بيرم التونسي قد سجل هذه الشائعات في أزجال رددتها شوارع مصر وأفواه الجماهير بعد ثورة 1919، وهي السبب في نفيه خارج البلاد.

بيرم التونسي

يكمل التابعي حكايته «فرحت لطيفة هانم وسارعت بطلب أزجال بيرم، وعندما حصلت عليها بعد مجهود كبير، طبعتها عدة آلاف من النسخ وعملت على توزيعها عندما عادت رحلة العائلة الملكية من أوروبا يوم 25 يوليو 1937».

كانت قصيدة عمنا «بيرم التونسي» تلك تقول:

«البامية في البستان تهز القرون، وجنبها القرع الملوكي اللطيف، والديدبان يرمح يجيب الزبون، وربة الجارية تجيب الرغيف، شوف الميراث حصل ولاد البطون، ودخل الأغراب – فاملية على، يابا ديشاه دنت ابنك ابنك ضهر، ربك يبارك لك في عمر الغلام ، نزل يلعلط تحت برج القمر، يا خسارةبس الشهر كان مش تمام».

وبسبب حملة التشهير والتجريس التي قامت بها «لطيفة يسري» زوجة احمد حسنين باشا، وقع الطلاق بينها وبين  حسنين.

وفي كتابه البديع «البرنسيسة والأفندي» ينقل صلاح عيسى هذه الواقعة ويؤكد هذه الحادثة، ويؤكد أن التونسي أعاد كتابة القصيدة الفضيحة مرة أخرى وكتب يقول :

البنت ماشية من زمان تتمخطر.. والغفلة زارع فى الديوان قرع أخضر

يا راكب الفيتون وقلبك حامى.. اسبق على القبة وطير قدامى

تلقى العروسة شبه محمل شامى.. وجوزها يشبه فى الشوارب عنتر

وحط زهر الفل فوقها وفوقك.. وهات لها الشبشب يكون على ذوقك

ونزل النونو القديم من طوقك.. يطلع فى طوعك لا الولد يتكبر

العطفة من قبل النظام مفتوحة.. والوزة من قبل الفرح مدبوحة.

وعندما سمع أحمد حسنين هذه الأشعار وعرف بقصتها وإذاعة زوجته لها، حاول تهدئة الأمور، بأن تعتذر زوجته للملكة نازلي، خاصة أنها بهذه الأشعار والأقاويل قد ارتكبت جريمة السب في الذات الملكية لثلاثة «فؤاد ونازلي وفاروق»، لكنها رفضت أن تقابل نازلي وتعتذر لها، وهنا طلّق حسنين زوجته لطيفة، ويقال أن نازلي هي التي دفعته والحت أن يطلقها.

نشير هنا إن نازلي عندما تزوجت من أحمد فؤاد كان الفارق بينهما 20 عاما، وقد حدث الزواج مع نهايات ثورة 1919، وبالتحديد في 24 مايو 1919، وانجبت منه فاروق، والأميرات: فوزية، وفايزة، وفائقة، وفتحية، وكانت هي الزوجة الثانية له بعد طلاقه لزوجته الأولي «الأميرة شويكار».

والطريف أن الملك أحمد فؤاد كان يحب حرف الفاء، لذا نجد أن جميع الاسماء هي فاروق، وهو الولد الوحيد، والأميرات: فوزية، فايزة، وفائقة، وفتحية، وبخصوص هذا التفاؤل فأن زوجة الملك فاروق كان اسمها «صافيناز» وقد تم تغيّر اسمها إلى فريدة ليبدأ حرفها باسم الفاء.

الملك فاروق و الملكة فريدة

سيرة عاصفة وحياة في الغربة

منذ ميلادها في 25 يونيو 1894 وحتى رحيلها في 29 مايو 1978، ظلت سيرة نازلي مطاردة من الجميع وحتى المواطنين العاديين تناولوا نازلي وسيرتها، بهتافهم الشهير في مظاهراتهم:«يا فاروق يا ويكا.. هات أمك من أمريكا». كانت نازلي تنتظر رحيل زوجها الملك فؤاد، لتنطلق كفرسة جامحة لا تحدها حدود ولا توقفها موانع أو سدود.

فبعد تطليق أحمد حسنين باشا زوجته «لطيفة يسري»، كانت نازلي تتجول معه وتظهر في الأماكن العامة، مما أكد تلك الشائعات التي أزعجت فاروق وأغضبته كثيرا، إلى أن وقع الزواج بين الاثنين عرفيا. لكن هذا الزواج لم يدم، وحتى الآن لم تعرف الأسباب التي أدت إلى مقتل أحمد حسنين في حادث سيارة شهير على كوبري قصر النيل، حيث داهمت سيارته سيارة نقل انجليزية على يد سائق مخمور في عام 1946، ويقال أن الانجليز كانوا يريدون التخلص منه، والبعض الآخر ينسب الحادث إلى الملك فاروق.

وعندما نحلل ما حدث بعد مقتل حسنين، لن نستطيع استبعاد يد فاروق من حادث مصرع حسنين، الذي قررت نازلي بعده السفر خارج مصر، وكأنها تبدأ مرحلتها الثانية من حياتها العاصفة. في نفس عام اغتيال احمد حسنين باشا 1946، قررت  نازلي أن ترحل عن مصر، وهنا يبدأ الجزء الثاني من سيرتها الموصومة بكل ما هو مشين وجالب للعار.

تركت نازلي مصر مصطحبة معها ابنتيها فائقة وفتحية مدعية انهما ذاهبتان لرحلة علاج في سويسرا، وكأنها قد فكت القيود، وانطلقت لا يوقفها شيء، وكأنها تريد أن تعوض سنوات الحرمان داخل القصر الملكي، فلم تتوقف عن السهر واللعب والتجول ليلا داخل الملاهي الليلة.

الملكة نازلي وابنتيها فائقة وفتحية

وفي تغريبتها الأوربية وصلت نازلي إلى مارسيليا لتلتقي هناك الشاب المصري «رياض غالى» وكان مسيحيا في الثلاثين من عمره، يعمل أمينا للمحفوظات بقنصلية مصر فى مارسيليا، وكانت القنصلية المصرية قد كلفته ليكون فى خدمة الملكة، ولكى يشرف على نقل حقائبها.

رياض غالى

بعدها سافرت نازلي إلى سويسرا  وانجلترا ثم وصلت إلي الولايات المتحدة الامريكية في عام 1947، بعدها رجعت ابنتها الأميرة فائقة لتعيش في مصر مرة أخري. أما فتحية فارتبطت مع رياض غالى بقصة حب بمعرفة نازلي ورعايتها وتزوجته بالفعل في عام 1950. بعد أن اعتنقت المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية. وثارت وقتها ضجة كبيرة بشأن زواج الأميرة، ليقوم شقيقها الملك فاروق بحرمانها وتجريدها من كل الألقاب الملكية والثروة. وكان ذلك في أغسطس 1950. حيث أعلن حينها أن الملك فاروق سيطلب من حكومة الولايات المتحدة طردها وزوجها ووالدتها من هناك.

الملكة نازلي في زفاف الاميرة فتحية ورياض غالي 

المدهش أن فاروق كان يطالب نازلي دائما بالعودة لكنها كانت ترفض، فيخبرنا الاستاذ صلاح منتصر في احد مقالاته بمجلة الشباب قائلا: «من سويسرا انتقلت نازلى إلى أمريكا حيث أجرت عدة عمليات جراحية فى الوقت الذى كان فيه الملك فاروق يرسل إليها بين حين وآخر طالبا إليها أن تعود إلى مصر فكانت تعتذر».

صلاح منتصر

ثم راحت نازلي تصرح برفضها العودة نهائيا مما جعل فاروق يكلف سفير مصر فى واشنطن بمحاولة إقناعها بالعودة فأصرت على الرفض. وبات واضحا ومعلنا أن نازلي ساهمت ترسيخ عاطفة الحب بين رياض غالي والأميرة فتحية وزواجهما، كما وافقت على خطبة الأميرة فائقة لشاب آخر اسمه فؤاد صادق، كان قد سافر من مصر ليكون فى حاشية الملكة. طار عقل «فاروق» وأرسل إلى أمه يحذرها من إتمام مشروعها الخاص بزواج شقيقتيه وطلب سرعة عودتها لكنها أصرت على طريقها.

الأميرة فائقة وفؤاد صادق

وإزاء تشبتها بالرفض، أصدر الملك أمرا بحرمان أمه من لقب «الملكة» وشقيقتيه من لقب الإمارة، وطلب عقد «مجلس البلاط» وهو مجلس يضم عددا من القانونيين ومن بعض الأمراء للنظر فى القضايا والخلافات التى تقوم بين أفراد الأسرة المالكة. وقد طلب فاروق من المجلس الحجز على أموال أمه وشقيقتيه وتعيين ناظر الخاصة الملكية حارسا عليها. ولكن الأميرة فائقة استطاعت بعد ذلك أن تحصل على عفو أخيها فعادت معززة إلى مصر فى حين بقيت نازلى مع فتحية أصغر بناتها فى أمريكا. ولم تنته القصة عند هذا الحد، فقد ارتدت نازلى عن الإسلام واعتنقت المسيحية وكذلك فعلت فتحية وأيضا فايزة التى انضمت إلى الاثنتين بعد خروجها من مصر عام 1955 بعد الثورة.

وكانت فايزة قد نجحت فى تهريب مجوهراتها عن طريق الحقيبة الدبلوماسية للملحق العسكرى التركى فى مصر الكولونيل محمد نورالدين، لكنه لم يسلمها المجوهرات فى باريس كما كان متفقا عليه، فوجدت فايزة نفسها مفلسة فى باريس فأكملت رحلتها إلى كاليفورنيا تشارك والدتها حياتها ودخلت معها فى عقيدتها المسيحية وظلت تعانى كثيرا فى حياتها قبل وفاتها.

الأميرة فايزة

و ظلت نازلي و فتحية مقيمتين في الولايات المتحدة الأمريكية، وفى يوم 9 ديسمبر عام 1976 أطلق رياض غالي الرصاص علي الأميرة فتحية فقتلها ثم حاول الانتحار بإطلاق الرصاص علي رأسه ولكنه لم يمت وتم سجنه لمدة 15 عاما حتى رحل.

أما الملكة نازلي فماتت فى 29 مايو عام 1978 في لوس انجلوس بأمريكا عن عمر يناهز 84 عاما. رحلت تلك المرأة المتجبرة القاسية الجميلة التي قال عنها مصطفى أمين :

«طويلة القامة رشيقة القد بشرتها بيضاء كاللبن وشعرها الأسود الطويل ينسدل إلى ما تحت ظهرها، عيناها سوداوان ضاحكتان وكان وجهها مشربا باحمرار فى لون ورد الربيع». كما قال عنها الكاتب «رشاد كامل» فى كتابه «الملكة نازلى غرام وانتقام» إنها كانت قريبة إلى أسرة سعد زغلول، تشاركهم إعداد الطعام فى كثير من الأيام، وكانت تسمع دائماً من رب الأسرة، سعد زغلول، وهو يحكى لـ«صفية» عن الفضائح التى لا تنتهى للبرنس «أحمد فؤاد» وذات مرة تجرأت نازلى وقالت أمام الجميع «مسكينة تلك الفتاة التى سيوقعها حظها العاثر لتصبح زوجة لفؤاد. وقد أصبحت هي تلك الزوجة التي كانت حظا عاثرا في تاريخ مصر».

آخر ظهور للملكة نازلي

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker