ككل الأشياء الجميلة في دنيانا، كان يأتينا صوته دوما في رمضان، مجسداً كل بهاء الشهر الكريم وخصوصيته، مذكراً إيانا – لا بأهمية السحور وروحانية الصيام فقط – وإنما بتاريخنا وأمجادنا الغابرة ومطالباً إيانا باستعادتها.
موقظٌ للوطن
إنه المسحراتي، تلك الشخصية التي استلهمها الشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد من تراثنا الشعبي المصري وجسدها الفنان الراحل سيد مكاوي بألحانه وصوته وظلت برنامجاً جماهيرياً ذا شعبية واسعة في كل من الإذاعة والتلفاز المصرييْن في الموسم الرمضاني.
فؤاد حداد
كان المسحراتي نقطة التقاء بين حداد الذي خرج في أواسط الستينات تقريباً من المعتقل بعد سنوات اعتقال دفعها ثمنا لمواقفه السياسية وانتمائه إلى تيار اليسار الإشتراكي، وبين مكاوي الذي باتت ألحانه معروفة عبر الإذاعة للجمهور المصري والعربي، وكان الوسيط في هذا اللقاء الشاعر الراحل الكبير صلاح جاهين الذي كان صديقا مشتركاً لكليهما.
سيد مكاوي وصلاح جاهين
عهدت الإذاعة المصرية لحداد بكتابة حلقات البرنامج وأشعاره وهنا استطاع الشاعر المبدع أن يضيف جديداً الى هذه الشخصية التراثية، فهو لم يكن مجرد شخص يطرق طبلته ليوقظ الناس لتناول السحور، بل تحول المسحراتي على يد حداد إلى موقظ للوطن، يستنهض أبناء الأمة بعد فترة من الركود والسكون ويقودهم إلى العمل والتقدم.
تلقف مكاوي طرف الخيط الذي ألقاه إليه حداد٫ فتمرد هو أيضا علي قيود التلحين واكتفي بالغناء وحده مع الاستغناء عن الفرقة الموسيقية واعتماده على طبلة صغيرة مع صوته وبعدها أضاف الجلباب التراثي والطاقية حين قدمت هذه الحلقات لاحقا علي شاشه التليفزيون.
أغاني المسحراتي
على مدار ١١١ حلقة، صاحب حداد ومكاوي المستمعين والمشاهدين في رحلة روحانية خالصة، كانت كل حلقة منها بمثابة درس في الوطنية أو في تاريخ الأمة او انتقاد لظاهرة سلبية، فالمسحراتي كما رسم حداد ملامحه هو «عاشق» يهوى تراب الوطن حتى النخاع:
«حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحته من بلدي
حته من كبدي
حته من موال»
ولأنه عاشق فهو يحفظ تاريخ الأمة وتراثها ويستعرض قصص أبطالها، فيقول عن الناصر صلاح الدين مثلاً:
«قهر الصليبيين أسد ضرغام
على نهج عالى وفى يمينه حسام
لما أن يهزه يروج الإنسان
ياخد بيد الأم والأيتام
يوضع لنا كلمة وقدم ومقام
ويدمّر الباطل ولا ينضام»
ويلتقط من تاريخ الأمة أهم ما فيها، فهو ينتقي من سيرة الفاروق عمر بن الخطاب جوهرها وهو العدل، ويلخص قصته الشهيرة مع الأيتام فيقول:
«قامت قيامة
من اليتامى
لما ظهر….
أبو المواجع
كأنه راجع
من السفر
جاب المؤونة
بإيدين حنونة
وقال يا مُضَر….
أنا علىَّ
تخدم ايدىَّ
بدو وحضر…»
وهو يدرك تماماً أن نهضة الأمة واستعادتها لهذا التاريخ المجيد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطلبها العلم وسعيها له فيقول:
«مســحـراتي
مـنـقـراتي
محاضراتي
تجلي العقول
في عصر ذري
لازم نقري
شعر المعري
ولازم نقول
أولى أبتدائي
ألفي وبائي
أكرم آبائي
الناس أصول»
ولأن ماضي الأمة ليس منفصلاً عن حاضرها فهو يحتفي بكافه محاولات ومشروعات النهوض والتقدم وفي مقدمتها مشروع السد العالي:
«دا انا فى انتقالى
من أولى ساقيه
لسد عالى لقيت مكان
سيرى يا موجه
بالتكنولوجه
لبر الأمان».
ولم يكن المسحراتي في أغانيه قاصراً على المحروسة ولا محدوداً بحدودها الأربعة فهو يدرك تماماً أن يكون الإنسان وطنياً مصرياً يعني بالضرورة أن يكون قومياً عربياً، وبالتالي فهو يذكر دوماً بجرح الأمة النازف في فلسطين وخاصة القدس:
«أطلب غنايا زى أب ضناه
القدس لاحت فى الطريق حاضناه
يا رب علمني العطش والجوع
واجعل لعينى دموع
واجعل لقلبى ضلوع
واجعلنى صوت الشهيد
فى النبض والتنهيد
شريان فلسطيني شجر مزروع
فى الأرض جدر وفى الليالى فروع»
ولأنه – كما أسلفنا – عاشق متيم فهو لا يجد ما هو أفضل من هذا العشق ليورثه كتركة لأولاده من بعده:
«نفسي أهادي
كل الولاد في بلادي بغنوة
أجمل غنوة حبوا الوطن
حبوا الوطن في الغيط
أبو الفدادين
وحصة العربي
ودرس الدين
حبوا الوطن».
ومع نهاية الشهر الفضيل وحلول عيد الفطر لا يفوت المسحراتي أن يحتف، – بخفة ظل لا تخفى على أحد- بطقس مصري أصيل هو صنع كعك العيد:
«مسحراتي منقراتي
خالاتي عماتي سيداتي
على تل عجوة وعسل وسمن
ولا مجلس الأمن سهرانين
لت وعجين يبنوا الهرم
قالت حماة المحترم
يا كحك يا سيد الكرم».
ورغم رحيل كل من فؤاد حداد وسيد مكاوي إلا أن المسحراتي الذي أبدعاه معاً بقي طقساً رمضانياً خالصاً ومظهرا مصريا فريدا من مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم.