«العَلمانية».. أكثر المصطلحات المعرَّبة التباسًا، بل وأكثرها تشويها وتخليطا وتجهيلا، وهو ما ابتعد بها عن معناها الصحيح. وفي الوقت الذي لا يوجَد اتفاق على مدلولها عند الكُتَّاب العرب، نجد اتفاقا كبيرا على معناها بين الكُتَّاب الغربيين.
السياق الغربي: أصل المصطلح
تم صك مصطلح «العلمانية» Secularism في الغرب نسبة إلى (العالَم)، أو إلى (العالمية)، والعَلماني يؤمن بحق الإنسان في حرية الاعتقاد، وحرية الوجدان، وحرية البحث العلمي، وحقه في إدارة شؤونه، خصوصا السياسية، بعيدًا عن وصاية الدين ورجاله،لأنه يعتقد إلى ما لا نهاية بحقه في الحرية واحترام آراء الآخرين حتى يحترموا هم كذلك آراءه. كذلك يؤمن العلمانيون بنسبية المعارف والحقائق، وهو ما يعني أن العَلمانية تنزع إلى الدنيا، وفصل الأخلاق والعِلم عن الدين، ونزع سيطرة المؤسسات الدينية على الحياة العامة كلها، ووجوب إقامة دولة مؤسسات سياسية ودستورية على أساس صالح المجتمع وليس على أساس ديني.
https://youtu.be/X6Y4gnKIbeY?t=50
السياق الإسلامي: تشويه متعمد
وأما عن العلمانية في الفكر العربي والإسلامي، فقد نالها تخليطٌ وتجهيلٌ وإساءة متعمدة لسُمعة هذا المصطلح؛ ذلك أنّ تلك المفرَدة عندما نُقِلت مترجَمَة إلى اللغة العربية نُسِبَت إلى كلمتين؛ أحدهما (العِلم) بكسر العين، وثانيهما (العالَم) بفتح اللام، وهذه النسبة الأخيرة هي الصحيحة؛ لأنّ الأصل الأجنبي لها هو كلمة Secularism وليس Scientific أي (العِلمية، نسبة إلى العِلم)، ويبدو لي أنّ أفضل تعريف لها هو ما جاء في [موسوعة السياسة، تحرير عبد الوهاب الكيالي وآخرين، ص 179]، ونصّه أنّ العلمانية هى «مفهوم سياسي اجتماعي، نشأ إبان عصر التنوير والنهضة في أوروبا، عارَض ظاهرة سيطرة الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع، ورأى أنّ من شأن الدين أن يُعنَى بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم، ونادى بفصل الدين عن الدولة»، وهو تعريف وإن تكن عبارته الأخيرة قد توحي باغتراب وانفصال تام بين الدين عن الدولة، وهو ما يُشنّع به المتشددون على العلمانية، بيْد أنه لا يعني ذلك؛ فالعلمانية تعني الدنيوية أو الزَّمْنَنَة؛ أي أنّ الحقائق نسبية، تختلف مفاهيمها من زمان إلى زمان آخر، بحسب الأحوال والظروف والملابسات، وهي بهذا لا تعني إلغاء النص الديني، بل تعني جعله نصًّا مفتوحا يستفيد من معارف وظروف عصره وليس مُغلَقًا جامدًا على لحظة تعود إلى 14 قرنا مضت.
عبد الوهاب الكيالي، وموسوعة السياسة
الأهم أن العلمانية تقطع الطريق على الجماعات الإسلاموية التي تروم إقحام الدين في أي مجال سياسي، بحيث يستحيل الخلاف من مجرد خلاف سياسي بين البشر إلى خلاف ديني أو طائفي أو مذهبي، وهو ما تعاني منه منظومة التاريخ الإسلامي منذ نشوب الخلاف والاقتتال بين الصحابة، مما عرف بالفتنة الكبرى حتى الآن؛ لذلك كانت علمانية الدولة ضرورة سياسية وعملية، بل وحفظا للدين كمقدس قبل أن تكون ضرورة ثقافية أو اجتماعية.
العلمانية بين العلم والخرافة
وعلى الر غم من أهمية تدقيق معنى العلمانية بنسبتها إلى «العالم» و«الزمن»، فإنها لعبت دورا بارزا في الفصل بين العلم والدين الذي اختلطت احيانا بالخرافة في تاريخ الغرب؛ فقد كان قساوسة الكنيسة في أوروبا قديما يروِّجون بين الناس أنَّ قوس قُزَح إنما هو قوس حربي وأداة قتال بيد الله ينتقم بها من العاصين، حتى جاء العالم «دي روفنيس»، الذي حلَّل تلك الظاهرة الطبيعية تحليلا علميا موضّحا أنّ قوس قزح ما هو إلا انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء، فما كان من الكنيسة في روما إلا أن حاكمَته وحُبس حتى مات في سجنه، ثم أُحرقت جثته مع كتبه في النار، ولا ريب أن تلك الحالة ومثيلاتها إنما هي جزء من تاريخ أوروبا في القرون الوسطى المظلِمة، لكنها تؤكد أنّ إقحام الدين في العِلم أمرٌ جدّ خطير، ويمتهن الدين قبل أن يمتهن العِلم، ولا أبالغ إذا أكّدتُ أنّنا اليوم نجد صدى لهذا الأمر في محيطنا العربي- الإسلامي، من خلال إقحام الدين في الطب والعلم بوجه عام، ويكفي أن تقرأ وتُطالِع عشرات الآراء والأقاويل التي ضجّت بها الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، منذ ظهور وانتشار فيروس كورونا المستجدّ، والتي تخلط بين العلم والدين في ازدراء مقيت لكليهما، دون أدنى اعتبار للعلم والعقل والطب القائم على البرهان والحُجّة!
https://youtu.be/IW1lZQXwbNM?t=49
العلمانية ونظام الدولة
وهنا يظهر سؤال مهم، ما معنى إقامة دولة على نظام علماني؟
إن إقامة دولة على نظام علماني يعني أن تكون شرعية السلطة السياسية في تلك الدولة مستمدَّة من الشعب، فهي سُلطة لا تستمدّ سلطانها من مصدر ديني وإنما تستمد سلطانها من الشعب، فالسلطة السياسية فيها لا تنال اعترافا من السلطة الدينية، ما يعني أن العلمانية نظام سياسي واجتماعي لا يمثل الدين فيه حجر الزاوية، وإنما هو أحد المصادر التشريعية، وهو ما يجرّد رجال الدين من السلطة في الشؤون غير الدينية كافة، وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت العلمانية غير مقبولة في العالم العربي والإسلامي، فمنذ ظهور كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) في العام (1925)، وفيه ينكر تأسيس الخلافة على أساس ديني، والعلمانية، بدأت الإساءة المتعمدة لسمعة المصطلح في محيطنا العربي الإسلامي، وبات كل من يدعو إليها أو يروِّج لها كافرا أو فاسقا أو زنديقا أو مأجورا أو عميلا، أو غير ذلك من نعوت واتهامات بالجملة، كمثل اتهام علي عبد الرازق بتلك التهم عندما نفى الربط بين الدولة والدين بقوله: «إن السلاطين قد روّجوا لهذا الخطأ الذي ساد بين الناس من أن الخلافة مركز ديني ليتخذوا من الدين درعا يحمي عروشهم، وما زالوا يروّجون له من طرق شتى، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه» وهم بالتالي وقعوا في نفس خطيئة الكنيسة عندما أعطت الملوك الحق الإلهي في السلطة والحكم، ومعلوم كيف توظف حركات الإسلام السياسي هذا الفهم الخاطئ المتعمد، حيث تتخذ من الدين وسيلة إلى الوصول إلى الحكم، وتخلط بين البشري النسبي والإلهي المطلَق خلطا يقضي على عقلانية الإسلام ورُوحانيته في آن.
علي عبد الرازق، وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»
العلمانية أساس المواطنة
إن العلمانية تضمن حياد الدولة تجاه مواقف أفرادها من الدين، لأنها تتيح لهم حرية كبرى في الاختيار والتفكير دون إكراه أو قسر، فالعلمانية تجعل من الإكراه في الدين جريمة أخلاقية وقانونية قبل أن تكون جريمة دينية، فالعلمانية ليست منافِسةً للدين، وليست مجابِهةً له، بل هي تسعى إلى تنظيم شؤون الدولة، وتعزيز حياديتها تجاه أفرادها، والفصل بين ما هو نسبي ما هو مطلَق، وأن تكون المواطنة أساس الانتماء، فالمواطنون ينتمون إلى أوطانهم على غير أساس ديني وإنما على أساس الوطن والانتماء إلى الأرض، وأن تقوم الدولة على تعددية تُؤسّس لقيمة السلم المجتمعى، وهذه التعددية إنما هي تعددية سياسية لا مذهبية أو دينية أو طائفية، وأي خلاف بين أفراد المجتمع إنما هو خلاف سياسي لا محلّ للدين فيه، لذلك فإن العلمانية تضمن تماما ألا يرفع رجال الدين شعارات سياسية ولا يتدخلون في الشأن السياسي، وكذا تضمن ألا يرفع السياسيون أي شعارات دينية بهدف اكتساب شرعية تدعم نفوذهم السياسي أوسلطتهم أو حكمهم.