ظهر كعادته ينصح الجميع بفوائد الإيمان وخيرات الالتزام بالطاعات واجتناب المنكرات، وأسهب في ذكر قصص الصالحين وكرامات الأولياء كي تخشع القلوب وتتباكى العيون على ما فات من تقصير وما مضى من ابتعاد. ولم يفته قبل الانصراف أن يُذكِّر المستمعين بأهمية حب البلاد الذي يظنه في حاجة إلى تلقين وكأنه لم يختلط مع لبن الأمهات الذي تشبَّع منه الجميع منذ أن كانوا رُضعًا آمنين.
وفور انتهاء مهمته وانصرافه من مجلسه خرج إلى دنيا تضج بكل الناس دون استثناء، واختفى وسط الجموع التي تتدافع متزاحمة من أجل لقمة العيش ليل نهار، فبدا وكأنه لا يختلف عنهم .. فكلهم يحملون وجوهًا عابسة، وقسمات وجوه يائسة، ويخفون تحت ملابسهم أجسادًا تئن من فرط ثقلها الذي كاد أن يجهز على الروح النقية التواقة للتحرر من أسر الانغماس في دنيا الطعام والشراب والمليئة بالأمراض إلى أن فاضت الآهات المعبرة في صمتٍ مُطبِق عن رغبتها المكبوتة في الإفلات من قيود الانهماك في روتين يومي مفروض بلا أي اختيار حتى أصبح من الطبيعي الانقياد لكل ما هو سائد حتى لو كان غير مناسب أو غير ملائم وصالح.
وفي موعد حضوره لتسجيل حلقته التي تدعو الناس لتأدية العبادات ظل يردد العبارات التي حفظها عن ظهر قلب مُطالبًا الجميع بالطاعة والالتزام وبالحب الفيَّاض للبلاد متوقعًا حسن الاستجابة من أولئك المواظبين على التخلي عن أبسط الأحلام بعدما استبدلوا محفزات طاقة الأرواح النورانية بمثبطات الإبداع العقلية، فلم تعد لديهم أية قدرة على الإنصات أو التحليل من أجل الفهم والتفكير، ومن ثم لم يصبح أمامهم سوى ترديد كل تلقين يتم تفريغه يوميًا في امتحان الحياة الذي يسلب منهم كل يوم رغبتهم فيها وقدرتهم عليها، ومع ذلك يستمر التلقين الممزوج بالافتخار بظاهر التدين، رغم سرقة الأمل الذي يدعو إلى الابتهاج في الحياة، ورغم التخلي عن التمسك بحبل الحياة المتين الذي تزينه كلمة الحرية.
وإذا كان نتاج ذلك التغييب للأحلام المشروعة والطموحات المحمودة هو إنتاج قطيع لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، فبالقطع سيكون من السهل عليهم أن يتحركوا كقشة في مهب الريح يمينًا أو يسارًا دون أن يعرف أحدهم لماذا كانت الحركة ومتى سيكون السكون. وما دام زمام الأمور ليس في يدهم، وما دامت العقول قد تم تعطيل بوصلتها السليمة، فلا بأس من وجود مُوجِّه عن بعد يأمر وينهى كيفما يشاء ومثلما يريد.
وكلما استمرت الطاعة عمياء بلا بصيرة، وكلما كانت الآذان صماء والأفواه جدباء بلا ألسنة، فستستمر العقول وكأنها بلا وجود وبلا أية حاجة إلى وجودها، فما دامت النفس قد أضحت سجينة اليأس فلن يعد هناك أمل، ولن تعد هناك حرية حركة، ولن يعد هناك بزوغ لفكر عقلاني أو صحوة حقيقية للضمير تنقذ الموتى من سباتهم العميق.
وفي ظل كل ذلك السكون المميت صاح أحدهم في ثبات:
«أحبكِ بلادى .. فأين أنتِ؟ لماذا لم أعد أراكِ؟»
فلم يكد يكرر عبارته هذه حتى دعاه الجميع للعودة إلى الصمت كي يشارك الجميع ترديد ما اعتادوا ترديده دون تفكير لأنه لا مناص من التلقين.