مختارات

هارون هاشم رشيد ومقصلة الاستعارة والسطو

لم يتحدث الأخوان رحباني عن «هارون» إلا بصورة عابرة وهو نوع من الاحتيال الفني برع فيه "الرحبانيان"

كتب – صقر أبو الخير
نقلا عن: صفحة «ضفة ثالثة»

من حُسن أيامي أنني التقيت الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد مرة وحيدة في القاهرة، ثم التقيت في بيروت شقيقه علي بصحبة أستاذي أنيس صايغ، وكثيرًا ما كنت أخلط بين هارون هاشم رشيد وعلي هاشم رشيد، والاثنان شاعران، إلا أن عليًا زاد على طنبور الشعر نغمة إضافية هي المسرح.

في القاهرة سألت هارون متفكهًا: كان والدك ذكيًا ليسميك هارون، لعله تمنى أن تصبح مثل هارون الرشيد في السؤدد والثروة، فهل نفعك اسمك؟ فتضاحك وأجاب: لم ينفعني البتة، وقليل من الناس مَن تنبه لهذا الجناس.

وقد عشنا سنوات طِوال ونحن نعتقد أن قصيدة “سنرجع يومًا إلى حينا” التي غنتها فيروز في سنة 1955 هي لهارون هاشم رشيد، والتي يقول مطلعها:

سنرجعُ يومًا إلى حيّنا

ونغرقُ في دافئاتِ المنى

سنرجعُ مهما يمرّ الزمانُ

وتنأى المسافات بيننا

فوجئتُ، حين طيّر البرقُ إلينا خبر وفاة هارون هاشم رشيد في 27/7/2020، أنه قضى في كندا، وتألمت كيف أن هذا الشاعر المرموق قد طوّح الزمان به ليُلقي رَحْلَه في تلك البلاد الثلجية بعيدًا عن غزة وعن القاهرة، وكيف أنه لم يجد أرضًا تُقِلّه أو قبرًا يُظِلّهُ غير تلك القفار النائية.

ومع رحيله تكابش الكُتّاب واختصموا في ملكية قصيدة “سنرجع يومًا إلى حيّنا”؛ فمعظم المراجع تؤكد أن هارون هاشم رشيد هو مَن كتب القصيدة، فيما تصر مراجع أخرى ذات قيمة على أن القصيدة للأخوين رحباني. وقد حِرنا في أمر تلك الأغنية الجميلة ولحنها الأجمل، وكنتُ مقتنعًا بنسبة 80 في المئة أن القصيدة لهارون هاشم رشيد لا للأخوين رحباني اللذين دأبا على عدم ذكر أسماء الشعراء أو الملحنين الذين استعاروا منهم كلمات بعض الأغاني أو ألحانها الشعبية، ثم رفعتُ النسبة إلى 90 في المئة عندما أكد لي الصديق الدكتور محمود شريح أن أسطوانة الأغنية كانت لديه وعليها عبارة “شعر: هارون هاشم رشيد”، لكن صديقي الناقد الأريب معن البياري عاد وخسف علامة الثقة إلى 10 في المئة لهارون هاشم رشيد في مقابل 90 في المئة للأخوين رحباني، وتركتُ 10 في المئة للشك العلمي. الآن، صرتُ مقتنعًا بأن هناك خلطًا بين أغنية “سنرجع يومًا” ومغناة “راجعون” التي سجّلها الأخوان رحباني في القاهرة في عام 1955 وهي بالفعل لهارون هاشم رشيد، ويقول أحد مقاطعها:

في الأمطار راجعون

في الإعصار راجعون

في الشموسِ في الرياحِ

في الحقول في البِطاح

راجعون راجعون راجعون

الاحتيال الفني

لم يتحدث الأخوان رحباني عن هارون هاشم رشيد إلا بصورة عابرة، وهذا التجاهل، بحسب رأيي، هو نوع من الاحتيال الفني الذي برع الرحبانيان، أيما براعة، في إخفاء أصول الألحان وكلماتها حتى تبدو كأنها صاعدة من رأسيهما أو من بين أصابعهما، فهما “شاطران” جدًا، لا ريب، في التوليف.

وعلى سبيل المثال أغنية “زيّنوا الساحة والساحة لِنا” التي غناها غسان صليبا، هي في الأصل أغنية شامية مشهورة جدًا يؤديها الجميع في دمشق، وكلماتها الأصلية تقول: “زيّنوا المرجة والمرجة لِنا، شامنا فِرجة ونحن مزيّنا”. وأغنية فيروز “هلّا هلّا يا تراب عينطورة” هي أغنية من مدينة الرقة السورية وأصلها: “يا مرحبا بالراكبين الخيل”. وعلى هذا الغرار والمنوال “استعار” الرحبانيان كلمات أغنية “دقوا المهابيج” (جمع مهباج) من التراث الرقاوي الريفي المعروف. حتى أن أغنية فيروز الجميلة جدًا “قالولي كِنْ، ونا رايح جِنْ، حبابي يمّا يا يمّا، صاروا بروس الجبال” هي، في الأساس، لحن من فولكلور مدينة حماة السورية، وكل ما فعله الرحبانيان هو أنهما جعلا كلمة “نار” في محل كلمة “صاروا” في جملة “صاروا بروس الجبال” لتصبح الجملة “نار بروس الجبالِ”.

اشتغل الموسيقار السوري الكبير مصطفى هلال (1911-1967) على الأغنيات الشعبية الشامية، وراح يجمعها من أفواه النساء المتقدمات في السن، ثم يعمد إلى تنويطها (أي تدوينها موسيقيًا)، وتقديمها للجمهور بعد تهذيبها، على أن يظل اللحن بصورته الأصلية، وتمكن من جمع نحو 300 أغنية.

وهذا الجهد المضني هو ما سعى إليه في فلسطين صبري الشريف قبل نكبة 1948، وحمله معه إلى لبنان، فكان “زوادة” دسمة من الزاد الغنائي الذي نهك منه الأخوان رحباني كما تُنهك الناقة، حتى بشِمَا، فانثنيا إلى الفولكلور السوري فتلمظا ومزمزا ما شاءا من التلمظ والمزمزة (المزمزة كلمة فصحى تعني تحريك الشفتين، أما التلمظ فيعني تحريك الشفتين واللسان معًا بعد الأكل).

وكثيرون ممن جاوزوا السبعين كانوا يستمعون في إذاعة دمشق إلى مصطفى هلال وهو يغني “تفتة هندي” أو “يا ماريا يا مسوسحة القبطان والبحرية” أو “يلبقلك شك الألماس دروب دروب” أو “عَ الصالحية يا صالحة”، والأغنيات الثلاث الأوائل غنتها فيروز نقلًا عن مصطفى هلال، ولا أحد يذكر هذا الموسيقي اللامع على الإطلاق، أو يشير إلى أن تلك الأغنيات هي من الفولكلور الشامي الجميل.

وقد برع الأخوان رحباني في الاستعارة والاقتباس، وقدما في هذا الحقل فنًا جميلًا ورفيعًا بصوت فيروز مثل الأغنيات التالية: “حبيتك بالصيف” (وهي أغنية فرنسية مشهورة عنوانها Coupaple)، و”آخر أيام الصيفية” (وهي نفسها أغنية Liaristal الفرنسية) و “نحنا والقمر جيران” (بوليرو إسباني) و “حنا السكران” (لحن روسي معروف)، و”لبيروت” (ملطوشة من لحن monamour).

 

يذكر صميم الشريف في كتابه “الموسيقا في سورية: أعلام وتاريخ” (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1991، ص 55) أن نشيد “كلنا للوطن للعلى للعلم/ ملء عين الزمن سيفنا والقلم” هو للشاعر السوري سليم الزركلي. فهل “لطش” الشاعر اللبناني رشيد نخلة ذلك النشيد، أو مطلعه على الأقل من سليم الزركلي، كما “يلطش” رجال الأعمال اللبنانيون تعب العمال السوريين وعرقهم؟ وكما خطف الأخطل الصغير أحد أشهر أناشيد إبراهيم طوقان بحسب الفضيحة التي أثارها فؤاد حبيش في مجلة “المكشوف” في 24/2/1947؟ يقول الأخطل الصغير:

لبنان،

الجمالُ رُصِّعَ

بأزاهير رباكِ

والجلالُ تُوّجَ

بمصابيح هداك

واليراع والحسام

في الملمات الجسام

أما نشيد “موطني” لإبراهيم طوقان فيقول:

موطني

الجلال والجمال

والسناء والبهاء

في رباك

والحياة والنجاة

والهناء والرجاء

في هواك

الحسام واليراع

لا الكلام والنزاع

رمزنا

أما السرقة فهي غير الاستعارة والاقتباس، وهي أمر مذموم بالتأكيد. ولم ينجُ من هذه التهمة أحد بمن فيهم محمد عبد الوهاب. ويذكر سيد مكاوي في مقابلة صحافية (مجلة الشرطة، 6/10/1957) أنه لحّن ثلاثة ألحان لفلسطين، وقدمها للإذاعة المصرية هي: “أرض العرب أرضنا” و”وحشاني كتير يا زين” و”بإذن الله يا فلسطين عَ الأعداء منصورين”. لكن بليغ حمدي سرق نصف لحن “بإذن الله يا فلسطين”، وصاغ منه أغنية “ما تحبنيش بالشكل ده” التي غنتها المطربة السورية الكبيرة فايزة أحمد. وسرق محمد الموجي النصف الثاني وصاغ منه لحن “يمّا القمر عَ الباب” الذي غنته فايزة أحمد أيضًا (أنظر: عمرو ناصف، آخر مشايخ اللحن والطرب، جريدة “السفير” اللبنانية، 22/4/1997).

فيروز وسيد درويش تخبرنا سيرة سيد درويش أنه زار سورية مع فرقة أمين عطا الله الموسيقية في سنة 1909، وأقام فيها نحو السنة، واتصل بعثمان الموصلي نزيل حلب، وأخذ عنه. وأمين عطا الله هو مَن اكتشف سيد درويش واصطحبه معه إلى بلده سورية. وقد عاد الشيخ سيد إلى سورية ثانية في سنة 1912 مع فرقة أمين عطا الله، وأقام في حلب سنتين تعلم في أثنائها الموشحات والقدود وأصول فن الإنشاد على الشيخ صالح الجذبة، وكثير من موشحات سيد درويش غير كاملة وبلا خانات، وظلت على هذا النحو حتى جاء الحلبي عمر البطش فأكمل خاناتها.

وحين عاد سيد درويش إلى مصر أطلق أغنيتين طبّقت شهرتهما الآفاق هما: “زوروني كل سنة مرة” و”طِلعتْ يا محلا نورها شمس الشمّوسة”. وقد غنّت فيروز الأغنيتين بتوزيع جديد للأخوين رحباني. والحقيقة الظالمة أن اللحنين ليسا لسيد درويش على الإطلاق، بل للملا عثمان الموصلي المولود في الموصل سنة 1857 والذي اتخذ من حلب موطنًا له حتى قبيل وفاته في سنة 1923.

أما لحن أغنية “زوروني كل سنة مرة” فأصله “زر قبر الحبيب مرة”. وكان الملا عثمان الموصلي صاغه بعدما حلم أن النبي محمد يعاتبه على عدم زيارة قبره في المدينة.

وكذلك أغنية “طِلعتْ يا محلا نورها” فأصل لحنها هو “بهوى المختار المهدي” الذي تحول على يدي سيد درويش إلى “طِلعتْ يا محلا نورها”.

ومن موشحات الملا عثمان الموصلي وأغانيه التي سطا عليها كثيرون وأُهمل صاحبها: “أسمر أبو شامة” وأصلها “أحمد أتانا بحسنو سبانا”، و “فوق النخل فوق”، وأصلها: “فوق العرش فوق”، و”ربيتك زغيرون حسن ليش نكرتني”، وأصلها “يا صفوة الرحمن سكن”، وموشح “يا من لعبت به شمول”، علاوة على الأغنية التي اشتُهرت جدًا بصوت ناظم الغزالي “يا أم العيون السود”.

إحدى الصديقات، بعدما قرأت مسودة هذه المقالة، وضعت الوريقات جانبًا وقالت لي: عال، عَلِمْنا وعَرِفْنا وآمنّا. لكن، مَن هو صاحب قصيدة “سنرجع يومًا إلى حيّنا”؟ هارون هاشم رشيد أم الأخوان رحباني؟ وهكذا أعادت الحيرة إلى رأسي، فما وجدت مخرجًا من هذه الحيرة إلا اقتناعي بأن من غير المهم أحيانًا معرفة مَن يكون صاحب القصيدة حقًا، بل المهم هو أن هذه الأغنية تمثل الجمال بعينه: صوت فيروز النادر، ولحن الأخوين رحباني الرفيع، والكلمات التي تغمر شغاف القلب وتجرّحها. فسلام إلى هارون هاشم رشيد في مثواه الكندي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock