ترجمة – كريم سعد
الفائدة أو المنفعة، هي خيط غير مرئي يمر عبر كل جوانب مجتمعنا وينظمه، كمقياس أساسي وعالمي لا مفر منه لكل قيم الحياة الحديثة، ويبدو هذا جليَّا في مواقفنا تجاه العمل والتعليم.
فعلى سبيل المثال، يُعامل علم الاقتصاد المنفعة على أنها «كمية قابلة للقياس» تخدم وتوجه، عملية صنع القرار، كما يحتاج العديد من الأكاديميين، وخاصة بمجال العلوم، إلى تبرير أبحاثهم من حيث «التأثير»، وهو مؤشر قابل لقياس كمي للمساهمة الاقتصادية أو الاجتماعية.
وقامت حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتخفيض تمويلهما لموضوعات الفنون الحرة؛ لافتقارها إلى استخدام واضح وقابل للقياس؛ وذلك اعتدادًا بأن التعليم يجب أن يكون وسيلة لإنتاج عمال المستقبل.
ولكن حتى بعيدًا عن العمل، يتم تقديم الترفيه على أنه «وسيلة لإعادة شحن أجسادنا وعقولنا حتى نتمكن من الاستمرار في العمل، وأن نتحول إلى سلعة، يتم شراؤها أو بيعها، في صناعة السياحة».
وهذا الأمر له تداعيات أيضًا على خطابنا الأخلاقي، مما يعني أن كونك مفيدًا يساوي كونك صالحًا، ويتم التعامل مع أي شيء ليس له قيمة استخدام على أنه ترف وتدليل، أو يتم رفضه على أنه كسل أو تهاون أخلاقي.
وأدخل عالم الاجتماع «ماكس فيبر» في كتابه، «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، جدلاً ركيزته أن المنفعة، كنهج للحياة، قد يكون لها أسس تاريخية في أخلاقيات العمل البروتستانتية.
إن نهج الحياة القائم على «الاستخدام» يُنكر بشكل أساسي أي شيء ليس وسيلة لتحقيق غاية، وإذا أخذنا حقًا بالمنفعة باعتبارها القيمة الوحيدة التي تحمل معنى، فستكون حياتنا مجرد أجزاء من خط إنتاج لا ينتهي، حيث نعمل بقدر ما نحيا وبعدها يتم استبدالنا. ويتم تقديم هذا الأمر باعتباره تقدم إلى الأمام، لكن نقطة النهاية غير مؤكدة؛ فقد نصل إلى «اليوتوبيا الاقتصادية» أو «التكنولوجية»، أو قد نفهم أن هذا الأمر هو خرافة الحداثة، ووعد بعيد المنال ولن يتحقق أبدًا، وربما تُساعدنا العودة إلى دروس الطاوية الصينية القديمة على رؤية الحد الذي ترسخت به الفائدة في عالمنا الحديث والمعاصر.
قصة الشجرة عديمة الفائدة في الطاوية
في كتابه «الفصول الداخلية»، يُحدثنا فيلسوف الطاوية جوانغ زي عن قصة الشجرة التي تستمتع بكونها لا فائدة لها؛ فهذه الشجرة نمت إلى حجم كبير وتُعبد في القرية. وأغصانها «متشابكة وملتوية للغاية؛ حتى يتم استخدامها في حزم الأغراض أو كدعامة»، وجذعها «ملطخ ومشقوق بحيث لا يمكن استخدامه كتابوت».
وذات يومٍ عندما صادف نجار الشجرة، اعتقد أنها «خشب لا قيمة له»، ورغم ذلك، تستجيب الشجرة لانتقادات النجار وتظهر له في المنام وتسأله بقولها، «أتريد أن تُقارنني بواحدةِ من تلك الأشجارة المزروعة؟ كشجرة الزعرور، والكمثرى، والبرتقال، وبقية تلك الأشجار والشجيرات الثمرية، التي عندما تنضج ثمارها يتم قطفها، فمثل هذا الأمر هو أمر بالغ الإهانة.. فهكذا تغدو «فائدتهم» مرارة في حياتهم. ولهذا السبب يموتون صغارًا… فهم يضربون أنفسهم بالتقاليد المُبتذلة للعالم».
في هذه القصة، تُعد وجهة نظر النجار من منظور غربي حديث، «نفعية»، فبغض النظر عن حجم الشجرة أو عبادتها، فإنها (بالنسبة للنجار) ليست أكثر من مضيعة للأرض، فإن وجودها لا يخدم أي غرض، ومع ذلك، فإن الشجرة تشعر بالبركة بسبب عدم فائدتها؛ فهي تبقى حية، بينما تُقطع الأشجار الأخرى «المفيدة»؛ لاستخدامها كخشب، أو أن تُتلف جرَّاء هذا العنف.
وبطريقة غريبة ممزوجة بروح الدعابة، يُنقل جوانغ زي النقطة الأساسية التي مفادها أن حياة الشجرة نفسها يتم إنقاذها من خلال كونها لا فائدة لها، بينما يتم تدمير زملاءها الأشجار الذين يطرحون أشياء مُفيدة. بعبارة أخرى، فعندما ننظر إلى الشيء ببساطة من حيث فائدته، فإننه ننكر حقه في أن يكون ذاته.
ويرى «جوانغ زي»، انعدام الفائدة كشيئًا على الشجرة أن تسعى إليها، فكما تقول الشجرة «لقد كنت أعمل على أن أكون عديمة الفائدة لفترة طويلة. وكاد الأمر يقتلني، لكنني تمكنت أخيرًا من ذلك، قبل أن يتم قطعي»، ويتم بالفعل الحكم على الشجرة فقط من حيث قيمة استخدامها. وهذه هي «الإهانة» التي تتحدث عنها شجرة جوانغ زي. ولأنها لا تريد أن تكون كذلك، فيجب عليها، أن تحيد عن هذا الطريق لتتجنب هذه الخاتمة، ومن أجل أن تكون مجرد شجرة.
وهكذا هي الطريقة التي يحمل بها «جوانغ زي» على عاتقه مشروع مقاومة المنفعة، والذي يراه أمرًا يستحق الثناء بوضوح، فيقول «إن انعدام الفائدة هذه، هي التي يعتمد عليها الإنسان الروحي»، فجوانغ زي يُشير إلى الإنسان الروحي باعتباره شخصية استثنائية ومثالًا يُمكننا جميعًا أن نتطلع إليه. أنه يقصد أن نهج الشجرة، مثل درب الإنسان الروحي، شيء يجب أن نتبعه، فعلى الرغم من أن الشجرة عديمة الفائدة يبدو وكأنها تعتني بنفسها فقط. ويطور جوانغ زي ثقافة انعدام الفائدة بمفهومين رئيسيين، «وو وي، وزيران»، وفي الفلسفة الطاوية الممكن إيضاحها كما يلي:
فمفهوم “وو وي” وبشكل عام يتم ترجمته على أنه «العمل بصورة أقل». وعبّر عنه الفيلسوف الطاوي «لاو تسي» كمبدأ لحكم الحكيم، الذي «يُدير الشؤون بمبدأ (لا تقم بأي عمل)». وبنظرة سطحية، قد يبدو هذا المبدأ كذريعة للكسل أو السلبية أو التقاعس. إلا أن المفهوم يطوره جوانغ زي؛ ليتم فهمه بدقة أكبر بأن تكون الكائنات ذواتها. وكمبدأ أخلاقي، يتطلَّب «العمل بصورة أقل» منا عدم فرض إراداتنا أو فرض «المنفعة كقيمة» على الأخرين.
أما مفهوم «زيران» باعتباره «مبدأ طاوي»، غالبًا ما يُفهم على أنه «الطبيعانية»، أو بشكل أكثر تحديدًا، «العفوية»؛ فأي كائن يقول أنه «زيران» فهذا يحدث حين يُسمح له أن يكون «ذاته»، مما يدعونا إلى السماح لأنفسنا بأن نكون «ذواتنا» وكذلك الكائنات الأخرى كذلك بان تكون «ذواتها».
ففِهم جوانغ زي لانعدام الفائدة، هو رفض الحكم على أو التلاعب بأي كائن على أساس فائدته، ومن هذا المنطلق يضع سياق معنى «الزيران». و يتحدى بذلك المدارس الفكرية الأخرى في عصره، مثل الكونفوشيوسية والموهية، التي رأي أصحابها أن الهدف من التعليم يجب أن يكون تخريج طلاب يكونوا مُفيدين للدولة.
ويُقدم أيضًا «جوانغ زي» بشكل متكرر شخصية الرجل الروحي أو الحكيم الطاوي، الذي يرتبط بنهح حياة الشجرة عديمة الفائدة، كشخصية غريبة الأطوار. فعلى سبيل المثال، في قصة «مجنون جيو»، جوانغ زي لا يطلب من الناس تقليد غرباء الأطوار هؤلاء بشكلٍ كُلي، وسبب ذلك تحديدًا لآن الكثيرين يعتقدون أن «أفعال غرباء الأطوار» لا فائدة لها، فهم لا يتناسبون مع أعراف المجتمع ولا يُطلب منهم التوافق معه. وهكذا، فإنهم غريبو الأطوار يظهرون طرقًا مختلفة للوجود.
هل نحنُ أحرار؟
هل يُمكننا أن نستخرج أي شيء من هذه القصة؟، هل هي مفارقة؟، كما هو الأمر عند جوانغ زي، أن نعتبر أن مُنعدم الفائدة قد يكون له دور ليلعبه في الحياة.
قد تبدو لنا شجرة جوانغ زي عديمة الفائدة بعيدة عنا، وعلى النقيض من ذلك، قد يكون حكماؤه غريبو الأطوار أكثر قابلية للفهم لأنهم يرددون صدى القيم الفردية للمجتمع الغربي. ومع ذلك، لا يزال النهج الطاوي مختلفًا تمامًا من نواحٍ عديدة.
إن الفكرة القائلة بأننا كمجتمع ليبرالي، نُقدر الفرد، هي في الواقع فكرة رمزية. فهذه الفردانية، في المجتمع الغربي المعاصر، تُعامل دائمًا على إنها مجرد سلعة. ومن ثم، فكثيرًا ما يُقال اليوم «إن على المرء أن يُسوِّق ذاته».
لقد أصبح تسويق الذات قبل كل شيء هاجسًا ثقافيًا وعمليًا. بل وإننا نفعل ذلك علانية، على سبيل المثال، في السير الذاتية ووسائل التواصل الاجتماعي، أو بطرق أخرى أكثر دقة طيلة حياتنا؛ يُنظر إلى فردانية الفرد بشكلٍ فعال على أنها وسيلة لتقديم الذات. وغالبًا يعني يتم تقديم الذات بهذه الطريقة على أن المرء مفيد. وفي بعض الأحيان، يتم الأمر بهذه الطريقة؛ حتى يصل إلى الحد الذي يتم فيه تحديد هوية الفرد بأكملها من خلال فائدة الفرد.
مشهد من فيلم نادي القتال عن رواية تشاك بولانيك التي تحمل نفس الاسم ينتقد فيه حياة الانسان المعاصر بوصفه بـ«أنه يعمل في وظائف يكرهها ليشتري أشياء لا يحتاجها»
ويُمكن رؤية القسوة والاغتراب في الحياة داخل لغتنا المُستخدمة التي تستند على تسويق فائدة المرء. فعلى سبيل المثال، المصطلحات المتعارضة مثل «الموارد البشرية» موجودة في كل مكان داخل التفكير السببي. فمثل هذه اللغة تجمع بشكلِ قاسٍ بين البشر والموارد الأخرى، مثل الفحم، والحديد، والأخشاب، وما إلى ذلك.
وتتعرض هذه الحالة مع النزعة الإنسانية الكامنة وراء الفكر الغربي منذ عصر التنوير. إن الإمر يعكس التفكير المزدوج الغريب للحياة الحديثة والفردانية المزعومة، فلقد قؤض مبدأ المنفعة بشكل أساسي، الفرد الذي يفترض أنه في قلب مجتمعنا.
قد لا يكون هناك أمل في تغيير طريقة تفكيرنا في المنفعة. إلا أن قصة جوانغ زي حول الشجرة عديمة الفائدة تُساعدنا على اعادة اكتشاف مكان لـ «انعدام الفائدة». إنه يُقدم طرق بديلة للتفكير في الحرية، فنحن يجب أن نتوقف عن الشعور بأننا يجب أن نكون مُفيدين طوال الوقت، أو نرى أنه لا يوجد شيء في الحياة غير الفائدة. نحن بحاجة إلى تحدي الجوانب المدمرة لاستبداد المنفعة في الثقافة المعاصرة. وبهذه الطريقة، ربما يمكننا أن «نكون ذواتنا» مرة أخرى.
*هذه المقالة مترجمة لمراجعة المصدر الأصلي اضغط هنا