يتفتح وعي الصبي “حمزة” مع سنوات احتدام النضال ضد الاحتلال البريطاني ويشب عن الطوق مع حلم الثورة والآمال الكبيرة؛ فيتفاعل مع الأحداث مؤمنا بدوره الوطني والقومي الذي جسدته “يوليو” بمشروعها التحرري والوحدوي.
كانتاللغة العربية مادته المفضلة منذ سنوات دراسته الأولى نبغ فيها ونهل من معين علومها وفنونها حتى ملكت عليه فؤاده.. لفت الأنظار إليه وهو مازال طالبا بالمرحلة الابتدائية بحسن منطقه وفصاحته وعذوبة حديثه وما يلقيه في آذان سامعيه من جميل المعاني.. فألقى معلموه في روعه أن مجاله الأفضل هو دراسة القانون ليكون مبرزا في ساحات القضاء بما وهبه الله من بيان وحجة وقدرة على الإقناع.. واستمر هذا الحلم نصب عينيه حتى التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1959، لكنه كان مولعا بالفن أيضا منذ شاهد لأول مرة مسرح المدرسة؛ فاندفع مشاركا في العروض التي كانت توليها الوزارة آنذاك اهتماماكبيرا؛ فتنتدب لتدريس المسرح بمدارسها كبار الأساتذة من معهد الفنون المسرحية.
وفي الجامعة شارك “حمزة” في فريق التمثيل، ونال عدة جوائز، وعندما أنهى دراسته للقانون أيقن أن هذا آخر عهده به وأن عليه أن يختار الفن الذي ملك عليه لبه؛ فالتحق بمعهد السينما في قسم السيناريو والإخراج.. فكان ترتيبه الأول في السيناريو والرابع في الإخراج ما أهَّله للسفر في بعثة إلى “بلغراد” بيوغسلافيا، لاستكمال دراسته بمعهد “نوفى بيوجراد” وكانت مشاركته الأولى في مسرحية “كفر أبو مجاهد” في مسرح التليفزيون والذي انتقل منه إلى المسرح الحديث قبل أن يستقر في المسرح القومي.
يقول “الشيمي” عن المسرح القومي “إن هذه الخشبة لها قدسية، فلا يجب أن تكون كلأ مباحا للهواة والمبتدئين.. إن جميع المسارح الاخرى يمكن ان تتاح لهذا الغرض أما المسرح القومي فهو الذروة التي يجب أن تظل مقتصرة على أعظم الأعمال وأجلها وافضل المواهب وأبدعها”.
لا يختلف اثنان على موهبة حمزة الشيمي، فهو أحد قامات الفن المصري الرفيعة.. اسهامه في المسرح والدراما التاريخية لايمكن التغافل عنه.. كما أن أهل الاختصاص يجمعون على أنه لم ينل حقه وأن كثيرا من الأدوار التي أسندت إليه لم تكن على قدر موهبته.. لكن الإنصاف يقتضي القول أن الشيمي نفسه كان له دور في عدم تحقيقه الشهرة والنجومية التي يستحقها، فعندما لفت حمزة إليه الأنظار بشدة في دور “سليمان السائق” في بئر الحرمان من إخراج كمال الشيخ.. أراد المخرجون حصر حمزة في دور الشاب العابث.. فأسندت إليه أدوار مشابهة في أفلام مثل ذئاب على الطريق 1972، ولحظة حياة وملوك الشر في نفس العام.. لكنه تمرد على هذا الدور الذي رآه لا يرضي طموحه في تقديم أدوار ذات قيمة.. كما أنه رأى أن السينما وإن حققت له الانتشار والنجاح والشهرة إلا أنها لن تحقق له متعة التواصل المباشر مع الجمهور التي يشعر بها عندما يقدم أعمالا مسرحية. فكان قراره بالابتعاد عن السينما والاستغراق في العمل المسرحي.
في المسرح قدم “الشيمي” أدوارا أولى في أعمال “فولتير” من إخراج القدير محمود مرسي وعبد الرحيم الزرقاني وكرم مطاوع.. لكن تميزه في ادوار الشر “الأنتيجونست” رشحه لأداء أدوار مهمة مثل “طيفون” إله الشر في مسرحية “إيزيس” من إخراج كرم مطاوع و”أوكتافيوس” قيصر في مسرحية “أنطونيو وكليوباترا” و”أورست” في مسرحية الفارس والأسيرة.. وقد اضاف “الشيمي” لهذه الادوار إضافة حقيقية لا تقتصر على روعة الاداء الفني وإبراز الطاقات الإبداعية الهائلة لديه في التعبير عن تفاصيل الشخصية بل كان اسهامه متفردا بإبراز الجوانب الإنسانية في تلك الشخصيات التي لا يمكن الجزم بأنها كانت شرا محضا فهي وإن كانت قد اختارت طريقها بمحض إرادتها إلا أن ذلك كان وفق ظروف وتفاعلات ذات أثر.
في هذا الأداء العميق الذي يسبر غور شخصياته- وجد “حمزة”سلواه التي عوضته عن ضياع حلمه في تجسيد أدوار كان يود أداءها مثل “قيس” في مجنون ليلى فلا يعرض عليه إلا دور الغريم “ورد”.. وكان يتطلع إلى أداء دور “أنطونيو” فلا يراه المخرج إلا في ثياب “أوكتافيوس” الذي ينازعه حب كليوباترا.. لكنه على الجانب الآخر عندما يؤدي شخصية جمال الدين الأفغاني في مسرحية الخديوي يتماهى مع الشخصية ببراعة تبهر الجميع حتى وكأنه رأى نفسه في مرآة الأفغاني فصار كلاهما روحا واحدة.. ليأتي أداؤه أقرب إلى حال المكاشفة منه إلى التمثيل.. كما حدث ذلك أيضا عندما أدى شخصية الفنان” جويا” في مسرحية “جويا والفاتنة” وكان من الطريف أن يعود إلى منزله ذات ليلة بثياب الشخصية دون أن يشعر.
ومع تغير توجهات الدولة في عقد السبعينات لم يعد المسرح يحظى بذلك الاهتمام؛ بل إن التضييق على الأعمال المسرحية الجادة صار واضحا فكانت الدراما التاريخية المنتجة في الاستديوهات العربية متنفسا للشيمي الذي برع في أداء العديد من الأدوار أهمها دور “عمرو بن العاص” في مسلسلالفتوحات الإسلامية، وهو من أدوار البطولة المطلقة القليلة التي قام بها، ودور “طلحة بن خويلد” في مسلسل تحت ظلال السيوف وكان للمؤلف عبد السلام أمين كاتب العمل أسلوبه المميز في كتابة الشخصيات وفق منطق التبرير بمعنى أنه يوجد لكل شخصية مبرراتها الخاصة حتى تكون اكثر واقعية وشخصية “طلحة بين خويلد” عُرفت في التاريخ بادعاء النبوة وأنه دخل الإسلام؛ ثم ارتد بعد وفاة الرسول، وكان قد حارب المسلمين في الخندق إلا أنه عاد للإسلام وشارك في معركة “نهاوند” الشهيرة وقضى شهيدا.. ولا شك أن شخصية تحمل كل هذا الزخم من التناقضات أغرت “حمزة” بإبداع غير مسبوق ارتكز على تحليل نفسي عميق لأبعاد الشخصية وكشف دوافعها والظروف النفسية التي أدت إلى هذا الاضطراب الشديد والتأرجح بين الحق والباطل.. وهذا ما ينطبق تقريبا على تفوقه في أداء شخصية “الحجاج بن يوسف الثقفي” في مسلسل عظماء من التاريخ.
كما كان أداؤه لدور “آزر” والد إبراهيم عليه السلام لافتا في مسلسل محمد رسول الله حيث استطاع أداء أطوار الشخصية من الصبا إلى الشيخوخة بنفس درجة الإتقان أمام القديرة أمينة رزق التي لعبت دور “أميتالي” أم إبراهيم وزوجة “آزر”ورغم فارق السن الكبير بين النجمين إلا أن أداء حمزة المبدع والمقنع كان مهيمنا على العمل بشكل كامل؛ فطغى على تلك النقطة التي كانت سببا في رفض فنان كبير للدور الذي قبله “حمزة” وكان مازال في السابعة والثلاثين من عمره.
وفي مسلسل الكعبة المشرفة يضيف الشيمي إضافة حقيقية لدور أبرهة الأشرم الذي قدمه عدد من كبار الفنانين في أعمال سابقة.. كما كان للفنان المتميز فضل الريادة في تجربتين مسرحيتين هما مسرح المئة كرسي ومسرح النادي كما شارك في ثلاثة أفلام عالمية هي الأبطال مع رود تايلور و”كاليمان” و”سفنكس” كما نال شهادة تقدير من شركة والت ديزني عن اشتراكه في أعمال الدبلجة لفيلمي حياة حشرة و”أطلانتس”القارة المفقودة.
قدم الفنان حمزة الشيمي عبر مسيرته الفنية أكثر من 140 عملا فنيا تنوعت بين المسرح والسينما والدراما التليفزيونيةوالإذاعية .. وإن ظل انحيازه للعمل المسرحي واضحا كما كان تميزه في مجال الدراما التاريخية جليا.. كما أنها كانت بمثابة رحلة سفر عبر الزمن استطاع من خلالها تنسم معنى الخلود، وهو الذي كان بشهادة أقرب أصدقائه طيبا نبيلا في براءة البكارة الأولى لم تغيره صراعات الحياة.
كما أنه ينتمي لجيل من الفنانين الكبار الذين كان لهم دور تأسيسي في مسرح التليفزيون والمسرح القومي وما زالت أعمالهم خالدة لن يطويها النسيان مهما داهمنا طوفان القبح.. رحم الله الفنان القدير