عرض وترجمة: أحمد بركات
بينما تقدم الاعتقالات وأعداد المقاتلين الأجانب معايير جيدة لقياس التحدي الذي تفرضه الحركة الجهادية، إلا أنه من الصعب تحديد حجم الحضور الحقيقي الذي تتمتع به الشبكات الإسلاموية اللاعنفية بصورة عملية في أمريكا. فدون علم الكثيرين، كانت الولايات المتحدة على مدى التاريخ محضنا لأعداد كبيرة نسبيا من الحركات الإسلامية، حيث حظيت تيارات سلفية مختلفة منذ وقت طويل بموطئ قدم في البلاد. على سبيل المثال، اجتذب معهد المغرب، الذي يقع مقره في هيوستن، عددا من الأسماء البارزة في الحركة السلفية العالمية، سواء في نسختها السياسية أو العازفة عن العمل السياسي. وتفيد تقارير أن أكثر من 80 ألف طالب تخرجوا في هذا المعهد.
وبالمثل، فقد وُلد المنظر الأيديولوجي الأهم والأبرز في التيار الجهادي السلفي في عصرنا الحاضر في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، أنور العولقي، في نيو مكسيكو، وظل يمارس العمل الدعوي على مدى سنوات بين كاليفورنيا وفرجينيا. كما عمل العولقي – الذي لقي حتفه في غارة جوية أمريكية بطائرات بدون طيار في عام 2011 في اليمن، حيث أصبح أحد أبرز القادة في التنظيم المحلي التابع لتنظيم القاعدة – كإمام في أحد أهم المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية الذي ارتبط بجماعة الإخوان المسلمين.
وبالمثل، ما لم يكن أكثر أهمية، يَبرز الحضور التاريخي للشبكات المرتبطة بالفروع المتعددة لجماعة الإخوان المسلمين في العديد في مختلف بلدان العالم. على سبيل المثال، انضم الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، إلى جماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي في الوقت الذي كان يدرس فيه في كاليفورنيا. كما امتهن بشير الكبتي، الذي انتخب رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا بعد فترة وجيزة من ثورة عام 2011، المحاسبة في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من ثلاثين عاما، وهو ما يبين أن الحضور الإسلاموي كان قائما ومتجذرا في الولايات المتحدة على مدى سنوات طويلة.
وتركز بعض هذه الشبكات الإخوانية بشكل أساسي على بلدانها الأصلية، وذلك من خلال استخدام الولايات المتحدة كقاعدة مواتية لعملياتها، ومنصة لجمع التبرعات. في هذا السياق تبرز حركة حماس كمثال صارخ، حيث أنشأت الحركة شبكة في جميع أنحاء الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي عندما ذهب قائدها الحالي، موسى أبو مرزوق، إلى كلية الدراسات العليا في كولورادو ولويزيانا.كما وصل أعضاء آخرون من جماعة الإخوان المسلمين إلى الولايات المتحدة في بداية ستينيات القرن الماضي وكانوا في ذلك روادا لمن خلفهم. ولعبت القيادات الإخوانية البارزة التي كانت تقيم في الولايات المتحدة، من أمثال جمال برزنجي وأحمد توتنجي وهشام الطالب، دورا محوريا في إنشاء تنظيمات إسلاموية عالمية من شاكلة “الندوة العالمية للشباب الإسلامي”، التي تتخذ من المملكة العربية السعودية مقرا لها، إلى جانب بعض بواكير المنظمات الإسلامية الأمريكية، مثل “اتحاد الطلاب المسلمين” و”المعهد العالمي للفكر الإسلامي”. وبرغم صعوبة قياس ما إذا كان حضور الشبكات الإسلاموية اللاعنفية في الولايات المتحدة طاغيا كحضوره في أوربا، إلا أنه يبقى قائما في كل الأحوال.
أحد العوامل المهمة التي يجب ملاحظتها هي أن الولايات المتحدة لم تمر أبدا بلحظة حاسمة، وهي السردية التي جعلت النفسية الجمعية الأمريكية تواجه وجود الإسلاموية المحلية بالطريقة التي تعاملت بها بريطانيا مع قضية سلمان رشدي، أو الدنمارك مع جدل الرسوم الكاريكاتورية المسيئة في صحيفة يولاندس بوستن في عام 2006. إن الإسلاموية، برغم توافر الأدلة على العكس، لا يزال يُنظر إليها من قبل أغلب الأمريكيين باعتبارها تهديدا “أجنبيا” بالأساس، ومن ثم، فهي تهديد بعيد لن يتمكن من دخول بلادهم أو فرض الخطر عليهم إلا في مناسبات قليلة.
غالبا ما يُطمئن الأمريكيون أنفسهم بأن بعض الديناميات التي تحدث في أوربا، سواء كانت مرتبطة بالإسلاموية العنفية أو اللاعنفية، لا يمكن أن تحدث في بلدهم. يرجع هذا إلى أن المسلمين الأمريكيين يمثلون قصة نجاح حقيقية كمجتمع تمكن من الاندماج على نحو جيد، ويتمتع بمستوى معيشة مرتفع، ولا يعاني من التمييز الذي يعانيه نظراؤه في بلدان أوربا. لا شك أن جزءا من هذا الجدل صحيح. فلا أحد يستطيع أن ينكر أنه أيا كان مقياس الاندماج الذي يمكن للمرء استخدامه، فإن المسلمين الأمريكيين بوجه عام أفضل بكثير من المسلمين الأوربيين. فلأسباب تتراوح بين الاقتصادي والثقافي، قدمت الولايات المتحدة أداء أفضل لدمج المهاجرين على وجه العموم والمسلمين على سبيل التحديد.
https://www.youtube.com/watch?v=Y3aM2l7ni9Q
لكن، هل يمثل الاندماج الجيد نقطة ضعف في جسد الإسلاموية؟ وهل الأفراد الذين يتمتعون بأوضاع اقتصادية جيدة أقل عرضة لاعتناق أشكال مختلفة من الأيديولوجيا الإسلاموية من غيرهم؟ لقد خضعت هذه التساؤلات لجدل عميق بين الباحثين، ولكن دون الوصول إلى إجماع. لا شك أن المناطق التي تعاني من نسب بطالة مرتفعة وشعور متجذر بالتهميش، مثل الضواحي الفرنسية الاسطورية، أو ضاحية مولينبيك في بروكسل، تمثل بيئات جاذبة للآراء واللاعبين الراديكاليين. في الوقت نفسه، من الخطأ النظر إلى جميع الإسلامويين على أنهم أفراد محرومون من حقوقهم ومدفوعون بالغضب الاجتماعي. وسواء في الشرق الأوسط أو في الغرب، ليس من غير المألوف بالنسبة للإسلاميين أن يتمتعوا بمستوى تعليمي مرتفع، وحياة مريحة، وانخراط كامل في المجتمع الذين يريدون تغييره. وعندما يتعلق الأمر بجماعة الإخوان المسلمين على وجه التحديد، فإن المكانة الاجتماعية المرتفعة نسبيا هي المعيار العام بين أعضائها. ومن ثم، فإنه ليس من المستغرب أن يعتنق أفراد من مجتمعات ثرية ومندمجة على نحو جيد، بما في ذلك المسلمون الأمريكيون ، أشكالا مختلفة من الإسلاموية.
يمكن أيضا أن تساعد المقاربة الثقافية المختلفة للاندماج في تفسير عدم الاهتمام الأمريكي الكافي بالإسلاموية المحلية. ففي حين كانت معظم المجتمعات الأوربية متجانسة إلى حد بعيد، ولا تمتلك خبرات طويلة في (وربما صبرا على) التنوع، تحظى الولايات المتحدة بتاريخ حافل في قبول كافة الاراء والمعتقدات وأساليب الحياة. فالمجتمعات التي تعيش في عزلة ذاتية ليست بدعا في الولايات المتحدة، بدءا من “الأميش” (وهي طائفة مسيحية تجديدية تتبع الكنيسة المنيونية المتشددة أنشأت مستوطنات كبرى خاصة بأفرادها في بنسلفانيا وأوهايو وأماكن اخرى في شمال الولايات المتحدة منذ عام 1720) ووصولا إلى بعض الطوائف المسيحية واليهودية الأرثوذكسية المتطرفة. وبالمثل، فقد صدمت حدود حرية التعبير التي كفلها التعديل الأول معظم الأوربيين، لكنها كانت مقدسة عند الأمريكيين. وعلى عكس أوربا، فإن الولايات المتحدة أكثر تسامحا مع السلوكيات والكلمات التي تختلف عن الاتجاه السائد، وأحيانا تتحداه بشكل مباشر.
لورينزو فيدينو – مدير “برنامج التطرف” في جامعة جورج واشنطن
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا