رؤى

سينما “أطفال الشوارع”.. تجارب فقيرة عن واقع بائس

 تتباين الأرقام الرسمية وشبه الرسمية حول أعداد أطفال الشوارع فى مصر ففى الوقت الذى أشارت دراسة رسمية صادرة عن وزارة التضامن الاجتماعي فى عام 2017 إلى أن عدد الأطفال الذين ليس لديهم مأوى في مصر يبلغ حوالي 16 ألف طفل، وأن أغلبهم يتمركز في الحضر بنسبة تصل إلى 88 في المئة. وأغلب أطفال الشوارع من الذكور بما نسبته 83 في المئة، وهناك حوالي 87 في المئة منهم أصحاء والبقية من ذوي الإعاقات.

بينما أعلنت “منظمة الأمم المتحدة للطفولة” أن عدد أطفال الشوارع في مصر يصل حوالى مليوني طفل! وهو رقم يقترب مما صدر عن مؤسسة حكومية رسمية، هي “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”، في دراسة له عن عمالة الأطفال، حيث قدّر عدد المتسولين بالشارع منهم، كما الذين يعملون بالورش والمصانع بحوالي 1.6 مليون طفل، وإن كان بعضهم ليسوا أطفال شوارع بالمعنى الذي ينطبق عليه التعريف الرسمي، فيُرجّح أن عددًا كبيرًا منهم بلا مأوى .

تلك الظاهرة التى عرفتها مصر منذ عقود طويلة لكنها لم تكن تمثل ظاهرة فقد غزت بقوة شوارع مصر منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين مقترنة بتزايد العشوائيات فى المدن الكبرى نتيجة أزمة طاحنة فى السكن وارتفاع معدلات الفقر وما ينتج عنه من أمراض مجتمعية تمثل ظاهرة أطفال الشوارع واحدة منها

وفى يوم الطفولة يتجدد الوجع ويتكرر الحديث عن تلك الظاهرة المقلقة والمتزايدة فى مصر وفى عدد من دول العالم الثالث .

بدايات مبكرة

وكثيرًا ما تناولت السينما المصرية والعربية تلك الظاهرة سواء مع بداية ظهور أطفال فى شوارع المدن بلا مأوى أو بعد أن تحولت إلى ظاهرة تهدد السلم الاجتماعى وتلقى بمخاطر على الاستقرار المجتمعى وتهدر حاضر ومستقبل مئات الأف من الأطفال الضحايا .

عرفت السينما مبكرًا تجسيد ظاهرة الأطفال بلا مأوى وقدمت عدد من الأعمال من بينها كان فيلم المخرج بدرخان وتأليف يوسف وهبي في العام 1944 “الأبرياء “

كما قدم حسن الإمام في العام 1952 فيلم “أنا بنت مين” و قدم المخرج أحمد ضياء الدين فيلم “نافذة على الجنة” في العام 1953

كما كان فيلم “ياسمين “عام 1951 للفنان أنور وجدي وفى نفس العام قدمت السينما فيلم “أولاد الشوارع” والذى كتبه وأخرجه “يوسف وهبى “وشاركته البطولة مديحة يسرى

وعاد أنور وجدى فى عام 1953 بفيلم «دهب» . لكن تبقى كل المحاولات السابقة لتقديم صورة واقيعة عن مشكلة أطفال الشوارع اجتهادات حتى يقدم المخرج عاطف سالم فيلم “جعلونى مجرمًا ” عن رواية شهيرة للأديب  “نجيب محفوظ ” عام 1954 ويتناول الفليم الأبعاد الاجتماعية الخطيرة التى تنشأ عن تلك الظاهرة ويمثل “جعلونى مجرمًا ” محطة شديدة الأهمية فى تناول السينما لتلك الظاهرة .

https://www.youtube.com/watch?v=H9D7mh6YMAs

تراجع الظاهرة

وغابت أفلام تتعرض لظاهرة أطفال الشوارع خلال فترة الخمسينينات والستينيات ومعظم حقبة السبعينينات لأن الظاهرة ذاتها كانت قد اختفت إلى حد كبير من الشوارع المصرية

ولعل الفارق كبير بين أعمال عالجت ظاهرة التفكك الأسري وما ترتب عليها من اضرار لحقت بالأطفال مثل العمالة المبكرة لهم أو حالة تشرد نسبى أو حتى الإنفلات الأخلاقي وبين أعمال حاولت أن تغوص فى أحشاء الظاهرة لتقدمها  بشكل يقترب كثيرًا من الواقع بكل قسوته وألمه بدافع فنى يستند إلى مزيد من الواقعية السينمائية وقد تعددت الأعمال التى تطرقت لهذا .

ربما يرجع ذلك إلى تطور ظاهرة أطفال الشوارع ذاتها والتى تنامت فى الربع الأخير من القرن العشرين واستمرت فى النمو وشكلت خطرًا واضحًا ودعت كل المتهمين بعلم النفس الاجتماعى وخبراء الاقصاد والمجتمع المدنى إلى التوقف عندها كثيرًا والتحذير من تناميها وتصاعدها على هذا النحو القائم.

عودة أطفال الشوارع

تحولت كبارى عدد من المدن المصرية إلى مأوى دائم لهؤلاء الأطفال التى تتراوح أعمارهم من عام حتى 20 عام وكان على السينما أن تجسد هذا التطور بكل مرارته وبالفعل كانت بعض المحاولات ربما أبرزها فيلم المخرج حسام الدين مصطفى ” العفاريت ” الذى قدمه عام 1990 وكتبته ماجدة خير الله وقام ببطولته مديحة كامل وعمرو دياب .

وفى عام 2004 يقدم المخرج “طارق العريان ” فيلم “تيتو ” ويلعب بطولته أحمد السقا و”حنان ترك” و”عمرو واكد ” ويتناول حياة طفل صغير بلا مأوى يدخل عالم الإجرام مبكرًا ويتسم العمل بكثير من الأكشن ولا يقدم تشريحًا عميقًا للظاهرة ويهتم أكثر بالتعامل مع نتائجها وبدى المخرج مفتونًا بسباق السيارات والذى تكلفت مشاهدها 5ملايين جنيه وقد أثرت تلك المشاهد والإغراق فى المطارات داخل العمل على ضعف معالجة القضية الرئيسة بدرجة كبيرة .

حين ميسرة وكثير من الجدل

فى عام 2007 يقدم  المخرج “خالد يوسف ” فيلم “حين ميسره ” وبقدر الجدل الذى أثاره بسبب جرأة بعض مشاهدة وقسوة مشاهد أخرى فقد جاء تناوله لحالة أطفال الشوارع أقرب للسينما التسجيلية بدون أى رتوش أو مساحيق حيث حاول “يوسف ” نقل واقع هؤلاء – الضحايا – بشكل مجرد وبما فيه من تفاصيل مؤلمة وأحيانًا مزعجة للمجتمع …

بعض النقاد اعتبروا ما قدمه “حين ميسره ” صورة تضر بالتعاطف المجتمعى من هؤلاء الأطفال لكن خالد يوسف الذى دافع عن فيلمه قائلًا “إن الواقع أكثر قسوة مما جاء بالفليم بكثير جدًا “

كان “حين ميسره ” أول عمل سينمائى يتعاطي بتلك الجرأة مع الظاهرة ويرصد مدى قسوة حياتهم وقسوتهم ضد بعض ورفضهم لكل ما حولهم وللمجتمع ذاته وقد اختار المخرج فترة نهاية تسعينيات القرن العشرين مسرحًا لأحداثه .

غابة أحمد عاطف

“الغابة ” الذى تم إنتاجه عام 2008 هو العمل الثالث لمخرجه ” أحمد عاطف ” بعد فيلمه “عمر ” و”إزي البنات تحبك ” جاء الفليم الذى تم اختياره للمشاركة فى مسابقة الأفلام العربية بالدورة رقم 32 لمهرجان القاهرة السينمائى عام 2010 والفليم كتبه “ناصر عبد الرحمن ” الذى كتب قبل ذلك “حين مسيره “

والفليم من بطولة ريهام عبد الغفور وأحمد عزمى ويتناول بقدر كبير من الواقعية حياة أطفال الشوارع فى مصر الذين يعيشون على هامش المدينة وفى إحدى “الخرابات ” التى تلتصق بالمناطق العشوائية وقد جاء التناول به قدر كبير من القسوة فى مشاهده وحاول التعبير عن واقعهم المرير

وتناول حياة الأطفال بين التنقيب في القمامة والسرقة وتوزيع المخدرات والدعارة وحمل الفليم اتهامات مباشرة للمجتمع والحكومة

فى المقابل ارتفعت نفس الأصوات التى اتهمت “حين ميسرة ” بالإساءة لسمعة مصر لتجدد نفس التهمة لفليم “الغابة “

والمؤكد أن الغابة رغم قسوته فقد كان أكثر الأعمال التى نقلت صورة شديدة الواقعية عن حياة آلاف الضحايا من أطفال الشوارع

غياب السينما وحضور الظاهرة

منذ 2008 حتى الأن لم تقدم السينما عملًا يتناول تلك الظاهرة ويرصد تطورها واكتفى عدد من صناع السينما بالإشارة العابرة لها من خلال مشاهد معدودة فى الوقت الذى تزايدت فيه الظاهرة وتضاعفت مخاطرها خاصة فى الفترة التى أعقبت ثورة يناير و30يوينو وما شهدته شوارع مصر من انفلات وعنف بلغ حدًا غير مسبوق وفى تلك الأثناء كان أطفال الشوارع حاضرين بقوة فى مشهد غير معتاد على المجتمع .

يبدو أن توقف السينما عن معالجة تلك الظاهرة يرجع إلى قلق صناعها من التعرض للهجوم كما حدث مع خالد يوسف وأحمد عاطف أو لأسباب إنتاجية وتسويقية فى ظل أزمة حادة تعانى منها الصناعة منذ سنوات أدت لتراجع أعداد الأعمال المقدمة وهروب كثير من المنتجين وممثلى الصف الأول إلى الدراما التلفزيونية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock