فن

كيف حاورت أم كلثوم جمهورها بالنكتة والسياسيين بالحيلة؟

قال ألبرت اينشتاين: “إن التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع العظاء, إنني شخص عادي ولست عبقريا كما تظنون, لكنني كنت أقعد علي المسائل والتفاصيل وقتا أطول”.

هذا الوصف الدقيق ينطبق علي كوكب الشرق, فعندما كانت تختار عازفا لفرقتها تطلب من الموسيقار علي إسماعيل اختيار الأفضل وفقا للمعيار الكلثومي, لا يتأخر ولو لدقيقة, لا يسمع ولا يري ولا يتكلم سوي في شغله فقط, ثم قبل البروفات تنظر بدقة شديدة لكل عازف خصوصا أثناء المقدمة الموسيقية, الكل يخضع لامتحان القبول في كل مرة, فهي لا تترك مشكلة واحدة تشغل بال من يعمل معها, تتصل بعبد الناصر شخصيا ليفرج عن جيتار عمر خورشيد المحجوز في المطار بسبب الجمارك الباهظة, وقبل أن تغني تحرص علي رؤية القمر في بدايته عندما يكون هلالا (لأنني أحب كل شيء له مستقبل) ورغم حصولها علي العديد من الألقاب.. الست, صاحبة العصمة, كوكب الشرق, سيدة مصر الأولي, سيدة  الغناء العربي؛ يبقي اسمها وحده كوكبا من دون  لقب.

جاءت من الريف المصري تحمل جينات العبقرية المصرية الخالدة, مثلها مثل الشاعر ابن عروس الذي تعلّم الشعر وسط المصريين. التعلم عندها سريع ومدهش كالحفر علي الحجر –يشهد مصطفي أمين أنها كانت جامعة للمعرفة– تعرف متى تتكلم ومتي تنتصر, ومتى تخفي المراد خلف نكتة وضحكة, فهي بارعة في سرعة “القفشة” لتسيطر علي المواقف, وحسب ما جاء في كتاب معارك أم كلثوم لحنفي المحلاوي يقول: “في معركتها مع الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد وأم الملك، أقوي سيدات الأسرة العلوية بعد وفاة الملك فؤاد، كانت السيدة التي تتحكم بمصر.. كانت تدعوها فيما يشبه الأمر الملكي كي تغني في حفل زفاف الملكة فوزية أول مصرية تصبح ملكة لإيران الجديدة مع الشاه محمد رضا بهلوي, فترد الكوكب بطريقة لا تخلو من كيد النساء وترفض الزواج العرفي من شريف باشا صبري شقيق الملكة نازلي رغم حبها له، وفي تصرف شديد الذكاء تطلب من عمنا بيرم التونسي وحده (عدو الملك فؤاد) الذي هجا نازلي في قصيدة شهيرة- غنوة لتغنيها. وتغني أم كلثوم في الحفل مرتدية فستانا أسود ببطانة الورد؛ فيصبح موضة باسمها.. وطبعا مفهوم معني اللون الأسود ودلالته.

وفي عز مجد الوفد تدعو عباس العقاد لحفلاتها؛ فيكتب قصيدة مدح في صاحبة العصمة هي الأولي والأخيرة التي يكتبها العقاد في مدح أحد, ثم يفسر لها معني اسمها بعد بحث دامَ ثلاثة أسابيع بـ “راية الحرب الحريرية المنتصرة”.

هي تلميذة تتعلم الفرنسية وفنون الفكر الحديث من الإمام الأكبر الدكتور مصطفي عبد الرزاق شيخ الجامع الأزهر مؤسس مدرسة الفلسفة المصرية, ثم تحتمي به في معركتها ضد منيرة المهدية التي يسهر في عوامتها الوزراء, يكتب الإمام الجليل عن أم كلثوم ويقف بجوارها ويقدم لها كل ما يستطيع أن يقدمه شيخ جليل لمطربة شابة, فيكتب ناعتا صوتها بأنه ثروة من الثروات الكبرى التي تخص مصر ولا تخصها وحدها.

وعندما تحصل علي نيشان صاحبة العصمة الملكي تدعو أم المصريين صفية هانم زغلول (حرم زعيم الأمة ) لبيتها نكاية في أميرات القصر وتحتفي بها, وظلت تتعامل مع البيت الملكي بذكاء مدهش وتصرفات صغيرة لا تعلن انتصارها إن حدث وتخفي هزيمتها لو حدثت, بارعة في إخفاء الوجع مبهرة في إظهاره في نغمات صوتية.. تلك السيدة التي وصل صوتها لـ14000 ذبذبه في الثانية, عندما تغني لمصر تختار النص الذي وحدها بالمحروسة فتغني:

وقف الخلق ينظرون جميعا

كيف ابنى قواعد المجد وحدى

وبناة الاهرام في سالف الدهر

كفوني الكلام عند التحدي

أنا تاج العلاء في مفرق الشرق

ودراته فرائد عقدي

إن مجدي في الأوليات

عظيم من له مثل أولياتي ومجدي.

تمر المرحلة الملكية وقد خرجت منها أم كلثوم متوجة علي عرش الغناء ونقيبة للموسيقيين, وتغيرت البلاد وهبت عاصفة يوليو52, لكن شيآن لا يتغيران في مصر؛ هما صوت أم كلثوم والأهرامات, هكذا قال مراسل أمريكي في القاهرة فقد أوفدت مجلة “فوج” الأمريكية في الأربعينيات “هال لهيرمان” مندوبها الخاص لمقابلة أم كلثوم، ومجلة “فوج” كانت أكبر مجلة نسائية في العالم, فكتب يقول: “وقد خرجت هذه المطربة العظيمة من قرية مصرية نائية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين من عظماء مصر في ميادين السياسة والدين والأدب والفن, رفضت أم كلثوم أن تغني سوي لفلسطين في حفل خيري في القدس, ومن هناك عادت بلقب كوكب الشرق, كانت تدرك حقيقة وضع مصر فترفض الغناء في إذاعة المحتل بي بي سي”.

في محنة هزيمة  67كانت الكوكب ضمير مصر الحاضر الرافض للنكسة, وتحت مسلة مصر بباريس تقول للصحفيين بلادي ستعود منتصرة قريبا وما حدث ظرف طارئ, ثم ترفض تأسيس جمعية خيرية معلنة بدعم من المهندس عثمان أحمد عثمان رئيس النادي الإسماعيلي خوفا من تداخل الأمر مع المجهود الحربي وهي التي تحمل جواز سفر مصري رئاسي من ناصر.

قبل أن تدخل المسرح تنظر من خلف الستار.. هناك شخصيات تعودت أن تراها في الصفوف الأولي, النحاس باشا, محمد عبد الوهاب, لطفي بك السيد, عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, د. مصطفي عبد الرازق, نجيب محفوظ, يوسف وهبي, والشيخ محمد رفعت بنفسه الذي كان من أشد معجبيها وكثيرا ما زارها في بيتها.

مصر العظيمة بمفكريها وسياسيها في الصف الأول, فماذا عن مهاويس الست, فلم تكن وقفة أم كلثوم المحكمة أمام الجموع على المسرح بهدف إبهاجهم وتسليتهم فحسب؛ بل كانت تُسلك بتلك الوقفة المحترفة الجماهير في ثقب إبرة وتحقنهم بجرعة زائدة من الثقافة فينتشون بصوتها، و يدخلون نوبة هستيرية في حضرتها لا يُخرج منها بانتهاء الحفل بل تستمر إلى ما هو أبعد من ذلك وتلتقي معهم بعد الحفلات تسمع منهم نبض الناس الصادق وتتفاعل معهم ولو بنكتة.

 إن من يسمع تسجيلات أم كلثوم في حفلات قصر النيل؛ خصوصا أغنية “ليلة حب” و”اسأل روحك” يلاحظ أن الست تظل حوالي خمسة عشرة دقيقة تتأمل الحاضرين, تتفحص الوجوه تتوحد معهم في لحظة ثم تقف وقد نظرت لمحمد عبد الوهاب لتلمح في عيونه السعادة؛ كأن وقوفها كان مفاجأة فتسمع بصوت واضح كأنه خرج من الأورج  يقول (جملة صلي علي النبي ) صوت آخر يقول (أكرمينا يا ست الله يكرمك) تتناغم مع فستان “ليلة حب” فالست تعشق ارتداء اللون الأخضر كما ذكرت مصممة الأزياء الخاصة بها مدام فاسو في حوار سابق، كما كان للونين البنى والبيج، نصيبا كبيرا أيضا في قلب كوكب الشرق حيث كانت تختار فساتينها وألوانها، على حسب أجواء الأغنية التي تغنيها.

وفي عبارة رقيقة اختصرت كل الكلام، مدحها الزعيم اللبناني رشيد كرامي الذي تحول لناقد موسيقي فجأة قائلا عنها أنها أعجوبة العصر، فقد غنت وأطربت في لبنان، ليتأثر بصوتها الجمهور أجمع، فيحبوها ويعجبوا بشخصيتها الوقورة وصوتها الرخيم النادر في هذا العصر وفي أي عصر، ليتبعه في التعليق على جمال صوتها، عبدالله اليافعي، رئيس حكومة لبنان في فترة الستينيات بقوله: “أم كلثوم ملك لكل البلدان العربية.. فهي فضلا عن كونها قيثارة العرب، تتحلى بشخصية فذة نادرة.

قال رجاء النقاش في لغز أم كلثوم  وفي وجهها جمال مصري هي غصن مثقل بالزهور، روح ثائرة متبرمة، لكن ثورتها داخلية لا تعدو فؤادها الخفّاق, ومن أطرف ما يذكره رجاء النقاش في كتابه عن هذه العلاقة الأفلاطونية بين رامي وأم كلثوم إنه “كان محكوما عليهما بالحرمان الجميل والقاسي في الوقت نفسه”, ولا شك في أن تضحية أم كلثوم كانت أكبر من تضحية رامي, ذلك لأن أم كلثوم تركت طبيعتها الأنثوية التي تحلم بالأمومة كغريزة أساسية في داخل كل امرأة، وفعلت ذلك باختيارها ولم تكن مرغمة عليه, لم تعبأ بشيء إلا بأن تكون وترا عازفا يعبر عن كل العشاق الحقيقيين في هذه الدنيا.

يقول زكي مبارك: “هذه الحمامة الموصلية – أي أم كلثوم تغني بلا وعي ولا إحساس في نظر من يحكم بمظاهر ما يند عن شفتيها الورديتين من أغان وأحاديث، فهل تكون في حقيقة الامر كذلك؟ إن كانت أم كلثوم بلا وعي ولا إحساس، فعلى الأدب والفن العفاء, وكيف تكون أم كلثوم محرومة من قوة الروح وهي بلا منازع ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل، وأين من يزعم أن قلبه سلم من الشوق لأغاني أم كلثوم، وما مرت لحظة واحدة في المشرق أو في المغرب بدون زفرة أو لوعة تثيرها أغاني أم كلثوم؟ وهل سمع الناس في حديث أو قديم صوتا أندى وأعذب من صوت أم كلثوم؟ إن تلك الفتاة هي الشاهد على أن الله يزيد في الخلق ما يشاء “فتبارك الله احسن الخالقين”.

في حياة الكوكب تفاصيل كثيرة رائعة فهي التي قالت ذات يوم للموسيقار الكبير في سهرة بروفات ليلة حب, نعيد يا محمد وظلت معه بالإذاعة نصف يوم، فقال لها: معقول يا ثومه عمرنا يتحمل عشر ساعات بروفات؟

فقالت: يا محمد اسمعني سوف يأتي يوم علي مصر لن تجد كنزا واحدا فيها سوي أغانينا؟ ومن تلك القصة المؤلمة ولنفس الشخص قالت لعبد الوهاب ( ح تسقط يا محمد في الانتخابات ) فيرد عليها بقوله ايه الثقة دي يا ثومه ؟ طيب عرفتي منين؟ فترد: من الأكل المايص بتاعك ده.

فهي طباخة ماهرة خصوصا في تحضير “الكِشك” ويكون معها في بعض الحفلات خارج مصر حتي لا تتورط في تناول طعام لا تعرفه.

وكان المعلم دبشة من أصدقاء أم كلثوم الذين يحرصون دائما على حضور حفلاتها وجلساتها، وذات مرة كان يحدثها في مسألة خاصة أثناء الاستراحة في إحدى الحفلات، وكان وباء الكوليرا وقتها على أشده في مصر، وتزاحم الجمهور حولهما، فأرادت ثومة أن تتخلص من هذا الزحام بذكاء، فأشارت إلى المعلم دبشة وقالت لهم: “أحب أعرفكم بالأستاذ ده عمدة القرين”. وكانت القرين وقتها هي البلدة التي ظهرت فيها الكوليرا لأول مرة في مصر ومنها انتشرت في باقي المناطق، فما كادوا يسمعون كلمة القرين حتى تراجعوا جميعا دون أن يصافحوا المعلم دبشة ولا أم كلثوم واستأذنوا من بعيد وانصرفوا على الفور.

كانت كوكب الشرق أم كلثوم تمتلك موهبة الحديث وخفة الظل بشكل جميل, تحاور جمهورها بطريقة غريبة تسمع منهم وتحكي معهم , فوصفها السعدني بزعيمة الظرفاء وروي عنها مصطفي أمين حكايات كثيرة، وكذلك الكاتب محمد حسنين هيكل الذي خصص صحفيا من الأهرام لمتابعة نشاط كوكب الشرق, وذات يوم كان الصحفي صالح البهنساوي قد وصل متأخرا إلى حفل أم كلثوم الذي أقيم في سينما ريفولي واقتحم الحفل بشكل لافت وكانت كوكب الشرق تكره دخول الجمهور إلى حفلاتها متأخرا بعد أن تبدأ الغناء فقررت أن تعاقب البهنساوي حسبما نشرت مجلة الكواكب في 15 يناير عام 1957.

وذكرت المجلة أن أم كلثوم كانت تغنى في إحدى المرات بسينما ريفولى حتى وصلت في غنائها إلى الثلث الأول من أغنية “أهل الهوى يا ليل” وبينما المستمعون مندمجون معها اقتحم الصالة الصحفي صالح البهنساوى المحرر بالأهرام واتجه إلى مقعده في الصفوف الأولى بسرعة صحبتها ضوضاء لفتت أنظار الجميع، وكأنه بهذا الإسراع أراد أن يعتذر عن تأخره لأم كلثوم التي تكره أن يحضر أحد حفلتها بعد بدء الغناء، ولاحظت أم كلثوم ما حدث وأرادت أن تعاقب البهنساوى عقابا فوريا.

وكان البهنساوى قصير القامة فانتهزت أم كلثوم الفرصة وراحت تسخر منه بطريقتها أثناء غنائها للمقطع الذى تغنى فيه ” يطولوك يا ليل ويقصروك يا ليل” وكلما وصلت إلى عبارة “ويقصروك يا ليل” ألقتها بطريقة خاصة، وهى تنظر إلى البهنساوى الذى قبع في مقعده، وكاد يختفى من نظرات الحاضرين وسخرية أم كلثوم، وأطالت أم كلثوم في عقابها للبهنساوى حتى صاح أحد المستمعين:”ح يقصر أكتر من كدة ايه يا ست؟!”.

وفي فترة الاستراحة في إحدى الحفلات في مسرح حديقة الأزبكية، جلست أم كلثوم في غرفتها بالمسرح تستقبل أصدقاءها من المعجبين, بدأ أحدهم يعاتبها على أنها لم تسأل عنه أثناء مرضه، ولما كان سمينًا بشكل لافت قالت له أم كلثوم وهي تشير إلى جسده الضخم: اعذرني ح اسأل عن مين ولا مين؟

وعندما تأهب الرجل للخروج من الغرفة بادرته بالقول: خلي بالك وأنت خارج، بالراحة أحسن أرضية الأودة تقب.

وعرف عن الشاعر أحمد رامي حبه الشديد لأم كلثوم، وأنه عرض عليها الزواج، ولم يحاول رامي ان يُخفي هذا الحب عن العيون، وجمعته بـثومة العديد من المواقف بعضها جاد والبعض الآخر خفيف الظل، ومنها أنها قابلته يوما في مبنى الإذاعة أثناء صعودها السلم، وكان رامي نازلا، فما أن رآها حتى أخذ يرحب بها ممسكا بيدها، ومرددا: إزيك يا روحي، إيه أخبارك يا روحي؟ إنتي طالعة تعملي ايه يا روحي؟ فتدخل ابن شقيقها والذي لم يكن يفارقها في الفترة الأخيرة من حياتها، وقال له “جرى إيه يا أستاذ رامي.. أنت مش نازل؟ فردت أم كلثوم: وهو معقول ينزل وروحه طالعة؟.

وجلست “ثومة” يومًا في نقابة الموسيقيين ومعها الأستاذ محمد القصبجي الذي اشتهر بصبغ شعره، وكانا منهمكين في إرسال بطاقات الدعوة لبعض أعضاء النقابة، وجاء زميل آخر يقول لها حائرًا: وبعدين أنا مش لاقي الختامة؟

– فقالت “ثومة” للأستاذ القصبجي: “وحياتك تقلع له الطربوش من راسك عشان يختم بيه”.

وامتاز الشيخ سيد مكاوي بخفة دم تناسب أيضا خفة دم أم كلثوم، لكنها كانت تتميز بحضور البديهة، فأثناء بروفة أغنية “يا مسهرني” طلبت تعديل بعض الجمل اللحنية، لكن مكاوي تجاهل الأمر مرة واثنين لتعيد طلبها, ليقول لها الشيخ سيد “لما أشوف”، لتضحك وترد عليه ساخرة: “يبقى كده عمرها ما هتتعدل يا شيخ سيد”، ليدخل الجميع في نوبة ضحك شديدة كما يروى الشيخ سيد مكاوي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock