هل يمكن اعتبار الأغنيات التي ولدت من رحم ثورة يناير أو واكبت أحداثها «أغنيات وطنية» نجحت في ترجمة مشاعرنا في لحظة مصيرية كانت و ستظل محفورة بذاكرتنا ووجداننا؟، أم أنها مجرد أغنيات «سياسية» ، محرضة، و في أحيان أخرى ملهمة على حد توصيف البعض؟.
المؤكد أن عدد كبير من هذه الأغنيات نجحت في رصد نبض الشارع في تلك الفترة، وعكست كلماتها صوت التغيير المنشود، عبرت عن انتمائنا للوطن و شعورنا بالولاء له والتضحية من أجله.
أيضا هناك من لا يرى فرقا بينها وبين أغنيات سبقتها تغنت بحب الوطن في لحظات أخرى هامة و فاصلة كالتي قدمها عبد الحليم حافظ أو كوكب الشرق أم كلثوم أو شادية التي كانت أغنيتها «يا حبيبتي يا مصر» أيقونة ثورة يناير و بالأخص في أيامها الأولي.
بينما يراها البعض الآخر تتماهى إلى حد ما مع أغنيات تغنت بحب الوطن في مواجهة سلطة جائرة فاسدة كالتي قدمها الثنائي الأبرز في هذا المجال «أمام و نجم» في سبعينيات القرن الماضي، ثم أجيال تالية استلهمت تجربتهم وحملت لواء الأغنية الثورية وفقا لتصنيف البعض، أو البديلة على حد توصيف البعض الآخر ومن بينهم عدلي فخري، أحمد إسماعيل، محمود عزت، ثم رامي عصام و حمزة نمرة.
بعيدا عن أين ذهبت الأغنيات التي ارتبطت بثورة يناير، لماذا ومتى وكيف انحسرت أو كيف تم حصارها قهرا، هل يمكن اعتبارها سواء كلها أو بعضها، إضافة حقيقية للأغنية التي اجتهد صناعها على مدى سنوات طويلة في صياغتها عبر حل المعادلة الصعبة بتقديم أغنيات تحترم وجدان المتلقي و تعبر عنه و في نفس الوقت تترجم همومه و أحلامه، أغنيات تنادي بالحب و الحرية ، تبشر بالتغيير، ترسم ملامحه، و تستعيد الأحلام المبتورة، أغنيات هي لسان حال الناس، لا ينفصل فيها الغناء للمحبوبة عن الغناء للوطن و الأهم من دون تصنيفات تباعد بينها و بين المتلقي سواء قهرا أو اختيارا.
مرة أخرى هل المصادرة ،الحصار و من ثم التراجع سيطفيء ربما للأبد وهج هذه النوعية من الأغنيات خصوصا بعد تحول، ابتعاد، اكتئاب معظم رموزها الأكثر ارتباطا بالثورة .
حنين
كثير من الأغنيات التي راجت بعد ثورة الكرامة استمدت مضمونها من هتافات الجماهير التي طالبت جميعها بالحرية والعدالة والكرامة، فيما أغنيات أخري حكت عن الشهداء أو أحداث عاشتها الميادين، ورغم أن عدد لا بأس به من نجوم الغناء حرصوا على التواجد ضمن المشهد بالأخص في الأيام التي نجحت فيها الثورة بتثبيت أقدامها ، إلا أنه و في المجمل لم تستطع الذاكره الاحتفاظ إلا بعدد قليل جدا من الأغنيات ربما أبرزها «صوت الحرية» لفريق كاريوكي و الذي قدم أغنيات أخري مميزة عن الثورة منها «يا الميدان» والتي شاركته في غنائها عايدة الأيوبي، كذلك أغنية «يا بلادي أنا بحبك يا بلادي» لرامي عصام و عزيز الشافعي ، و «فلان الفلاني» التي قال عنها الخال عبد الرحمن الأبنودي أنه تمني لو كان هو مؤلفها.
من الأغنيات التي عاشت ولا تزال بالذاكرة أيضا أغنية « إزاي» للفنان محمد منير، فرغم أنها أنتجت قبل الثورة، إلا أن شهادة ميلادها كتبت مع أحداثها، لكونها عبرت عن حالة الإصرار على التغيير للأفضل (وحياتك لفضل أغير فيكى لحد ما ترضى عليه)، فيما دخلت أغنية«شهداء يناير» لحماده هلال ذاكرة الجمهور ولكن من باب السخرية نظرا للمقطع المتكرر «شهداء 25 يناير ماتوا في أحداث يناير» والأغنية من كلمات ملاك عادل.
علي الجانب الأخر أسقطت الجماهير من ذاكرتها أغنيات أخري رغم أنها لأبرز نجوم الغناء و منهم عمرو دياب بـ «مصر قالت»، محمد فؤاد «بشبه عليك»، أنغام « يناير»، تامر حسني «شهداء 25 يناير»، محمد حماقى «دايما عايشين»، نظرا لأنها مجرد محاولات للتواجد في المشهد ومن دون إيمان حقيقي بالثورة ومطالبها .
ما يعني أن الجماهير بالفعل كان لديها من الوعي لتفرز ما يعبر عنها وتعلن انحيازها و دعمها له ومن دون تصنيفات سواء وطنية، سياسية، مختلفة أو بديلة، المهم مدى صدقها و ما تتركه من أثر على المتلقي باختلاف ثقافته، بدليل أن نفس هذه الأغنيات لا تزال تحقق نسب مشاهدة على الشبكة العنكبوتية ، صحيح ليست كما كانت قبل عشر سنوات، ولكنها لازالت تتواجد علي الأقل «بفعل الحنين».
صمود
الثابت أيضا أن الأغنيات عموما لديها القدرة على البقاء بالذاكرة مقارنة بألوان فنية أخرى،ربما لأنها الأسهل والأسرع في ترجمة مشاعرنا عموما و تجاه الوطن بالأخص، وبغض النظر عن التقييم والتصنيف، كذلك يمكن استدعائها و إعادة استخدامها في مواقف أخري مثل أغنية شادية يا حبيبتي يا مصر كما أشرنا سلفا، و بالمثل العديد من أغنيات نجم وإمام والتي كانت حاضرة بالميدان في أيام الثورة الأولى بوصفها الأكثر تعبيرا عن اللحظة، ما يشير لأن الصدق وحده هو مفتاح البقاء.
فما يري البعض أن صمود الأغنيات بالذاكرة يرجع لأنها الأسهل إنتاجا سواء زمنيا أو ماديا ، لكن تلك السهولة أيضا هي سر تراجع مستواها الفني بكل تصنيفاتها، خصوصا مع تراجع دور الدولة بكافة أجهزتها سواء إنتاجا أو رقابة، يضاف لذلك تراجع الثقافة بشكل عام مقارنة بأزمنة سابقة كانت فيها الثقافة جزء من النظام العام، لذا أنتجت أغنيات متنوعة كانت و ستظل محفورة بالوجدان قبل الذاكرة لكونها صنعت بمنتهي الصدق.
بتعبير أدق فإن حالة «التقزم» التي نعيشها الأن وعلى كافة المستويات من تعليم وصحة و اقتصاد و..، انعكست بالطبع على مستوى الفنون التي تحاصرنا حتى وصل التدني لحد الاستهانة بالنشيد القومي حينما طالبت وزيرة الصحة الحالية د. هالة زايد المستشفيات الحكومية قبل عامين بإذاعة السلام الجمهوري بوصفه «سنة حسنة» تؤجج الروح الوطنية لدى الأطباء ، الأمر الذي أثار موجة من الانتقادات لما يحمله هذا الطلب من استهانة بالسلام الوطني وليس محاولة لتفعيل «طاقة إيجابية» كما رأت الوزيرة .
والسؤال الآن هل نجحت أغنيات الثورة في القيام بدورها سواء في التعبير ثم التغيير، أو على الأقل إخراج الناس من أسر الاحباط؟
المؤكد أنها نجحت في التنفيس من وطأة القمع مرحليا علي الأقل ، لكنها لم تفلح في الصمود ومواصلة الدور لأن الحدث نفسه للأسف هزم، تراجع على أرض الواقع وتمت محاصرته و التنكيل به، ما يفسر سر «تحرج» معظم صناعها من الحديث عن تجاربهم الأن، وكأنهم أغلقوا الأقواس عمدا، قهرا، جبرا أو من باب السلامة.
علي الجانب الأخر فإن أي حدث يحتاج لفترة كافية من الزمن لتتمكن جهات الاختصاص من تقييمه بشكل موضوعي، و الأغنيات بالقطع جزء من هذا التقييم، لكنها و في كل الأحوال ستظل لها خصوصيتها وسط المشهد الغنائي سواء كانت ملهمة أو محرضة، ستعيش بالذاكرة و على الفضاء الالكتروني لتحكي للأجيال القادمة كيف ثارت الميادين تطالب بالكرامة والعدالة والحرية ولا تزال.