ثقافة

إبراهيم عبد المجيد وطيور العنبر (2-2)

عندما أراد ” إبراهيم عبد المجيد ” أن يُجٍسد  حال الإسكندرية ، وما جرىّ لها من تحولات جذرية وعميقة في أعقاب قيام ثورة يوليو ، اتخذ ذات المنهج الذي اتخذه عندما تعرض في الجزء الأول من ثلاثيته السكندرية  لسنوات الحرب العالمية الثانية ، والتي بدأت في شهر سبتمبر ١٩٣٩ لتنتهي وقائع تلك الرواية البديعة ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” مع احتفالات الحلفاء بالانتصار العظيم عَلى ألمانيا النازية وانهيار حلم الرايخ الثالث …

لم يواصل ” إبراهيم ” الحكي والقص والتوثيق بعد مايو ١٩٤٥ ،ذلك التاريخ الذي انتهت فيه وقائع تلك الحرب العُظمى …

في ” طيور العنبر ” اتخذ نفس النهج ، وتلك المُعالجة الإبداعية، فقد أخذ من سنة التأميم لقناة السويس مُنطلقا لعمله البديع، ويستمر في الحّكي إلى عام ١٩٥٩ ، حيث وقع  ” الصدام في الظلام ” ، عَلى حد تعبير مفكرنا الماركسي الكبير ، الدكتور “أنور عبد الملك ” بين المنظمات الشيوعية  ونظام يوليو، صدام بائس ترك بصماته الثقيلة عَلى كلا الطرفين !!

مانشيت جريدة الأهرام إبان تأميم قناة السويس
مانشيت جريدة الأهرام إبان تأميم قناة السويس

لكن الإطار السياسي والتاريخي ، الذي أجاد” إبراهيم عبد المجيد ” في بنائه ، هو الربط المُحكم بين ما هو إنساني وما هو وطني ودولي ، فأحوال سُكَّان  ” مساكن العاملين  في السكة الحديد ” البسيطة والعفوية والفطرية والإنسانية الجميلة ، تتناغم مع وقائع وأحداث دولية كبيرة ، مثل الأصداء الوطنية والإقليمية والدولية لقرار ” عبد الناصر “بتأميم القناة ، إلى تفاعلات  مؤتمر لندن الذي دعت إليه كل من فرنسا وبريطانيا لإجهاض القرار الوطني المصري ، بتدويل القناة ، والذي وصفه ” عبد الناصر” وصفا دقيقا بأنه ” مؤتمر جمعية المُنتفعين ” ، ثم الحرب عَلى مصر ، بمؤامرة العدوان الثلاثي لثلاث دول هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ، ورفض مصر لإنذار لندن وباريس بالاستسلام ، ثم تصاعد الأحداث بعد ذلك ، بشكل مُتسارع ، برفض القاهرة لمشروع ” أيزنهاور ” وهو ما عُرف بسياسة ” ملأ الفراغ ”  ، وقيام الوحدة المصرية السورية في سنة ٥٨ ، وبدأ أكبر عملية تمصير للشركات والبنوك الأجنبية ، وخصوصا المملوكة لدول العدوان …

هكذا تتشكل الصورة السياسية ، الوطنية والإقليمية والدولية ،بكل ملامحها ، فبمثل ما أبدع ” نجيب محفوظ ” في رسم الإطار التاريخي لحياة 55  شخصية ضمتها صفحات روايته الرائعة ، ” المرايا ” نجح ” إبراهيم ” في رسم الإطار الوطني والإنساني  ، لمواطني  الأسكندرية ، وتحديدا لسكان ، تلك المساكن التي تضم بين جدرانها المواطنين البُسطاء و الفقراء، الذين يعمل رجالهم   في هيئة السكك الحديدية ، من عمال دريسة ، أي إصلاح القضبان ، فضلا عن ملاحظي الإشارات أوالسمافورات ، وحُرّاس مخازن ، وسائقي قطارات ومساعديهم…

هذا عن الإطار الإنساني بصورة عامة ،غير أننا نلاحظ ، أن ثمة اختلاف في المعالجة ، وهذا منطقي وطبيعي ، بين الروايتين، ففي الوقت الذي أفرد ” محفوظ ” فصلا قائما بذاته لكل شخصية من شخصياته ال 55 ، فإن ” عبد المجيد ” يأخذ تقريبا بنفس المنهج ، غير أنه بدا مُتحررا ، بعض الشيء، ففي الفصل الأول من ” المرايا ” نجد شخصية ” إبراهيم عقل ” أستاذ الراوي خلال سنوات دراسته الجامعية ، يفتتح به فصول” المرايا ” غير أن معالجة ” محفوظ ” لتلك الشخصية تأتي مٌتكاملة شديدة التكامل  ، خلال الصفحات المُمتدة من صفحة4 إلى الصفحة 14 فقط ، حتى تصل أنت كقارئ إلى وصف هذا الأستاذ الجامعي خريج السوربون ، بأنه يُجٍسد  ” شخصية اللآمنتني  ” بامتياز ، صحيح تأتي سيرته بصورة عابرة بعد ذلك، عند الحديث عن شخصيات أخرى ، وتلك عبقرية ” محفوظ ” الإبداعية ، لتخرج الرواية آية في الإبداع ، لكن معرفتنا بالشخصية التي يتناولها تبدو لنا واضحة المعالم ، مُتسقة البناء ….

في حين يأتي الأمر مُختلف عند ” عبد المجيد ” فشخصيات “طيور العنبر” والصادرة عن دار ” الشروق ” المصرية ، تقترب من هذا العدد ، الموجود في ” المرايا ” لكننا نجد هذه الشخصيات موزعة عَلى 36 فصلا ، تضمها ثلاثة أقسام ، ونجد الفصل الأول مُكرسا بصورة عامة ، وليست مُتكاملة لشخصية “كاتينيا” تلك اليونانية صاحبة الأتيليه الراقي زوجة الشيوعي الذي مات في الحرب العالمية الثانية خلال دفاعه عن وطنه ،حيث ترك زوجته وراءه في الإسكندرية ليموت هناك ، فيعاونها في إدارة الأتيليه ” شاب مصري يبلغ من العمر ثلاثون عاما ،أسمه ” العربي ” الذي يجد الحياة في كنفها هو الأمل والرجاء ،وبدونها يغدو حفنة من تراب أو قبضة من هواء !!

نجيب محفوظ المرايا

نجد الشخصية ، هنا ، سواء ” كاتينيا أو العربي ” لا تُغلق سيرتهما بعد هذا الفصل الإفتتاحي ، فكلاهما يصاحباك ،وتعرف عنهما كل تفاصيل حياتهما حتى الصفحات الأخيرة من الرواية ، غير أن الأساس ، أو ” المدماك المُسلح ” للشخصية كان قد وضُعت ملامحه الرئيسية ، وانتهى الأمر …

في ” مرايا ” الأستاذ ” نجيب محفوظ ” نجد من بين الشخصيات ال 55 ماهو ، مؤثر ومركزي ، وهامشي وتافه ،وعظيم وحقير ، سيدات عالية القيمة والمقام ، وسيدات لايعرفن لجسدهن حُرمة أو احترام !!

لكن من بين هذه الشخصيات ، ” المحفوظية” تتوقف عند خمسة شخصيات أو نحو ذلك ، مثل ” إبراهيم عقل ، وماهرعبد الكريم ، وعبد الوهاب إسماعيل ، ودرية سالم ، وعزمي شاكر ، وقدري رزق ، وصفاء الكاتب  ” شخصيات مركزية بحق ومؤثرة بلا جدال …

في ” طيور العنبر ” تتوقف عند ، ” كاتينيا والعربي ” وتراچيديا الرحيل والبقاء ، عودة ” كاتينيا ” إلى اليونان ، وبقاء ” العربي ” في مدينته ، وأبلة ” نرجس ” الخياطة الماهرة صاحبة ” الأتيليه” الشعبي ، وابنها الصبي الجميل النابه ” كروان ” والأهم تلاميذها من البنات ، حكمت وفاطمة وشوقية وبدرية والجوني وحسنة ، والذين يملأون عليها الدنيا بهجة وتفاؤلا ورقصا وغناءً ومحبة وعطاءً ، وهي في هذا كله المُعلّمة القديرة ، قوية الشخصية ، شديدة الحزم ، ولكن بنعومة ملمس الحرير !!

كذلك نتوقف عند الصبي  ” عيد ” والمعروف بين الأولاد والسكان باسم ” عيد المشعور ”  لتخلفه العقلي ، أو حالة ” العبط ” التي وسّمت  سلوكه ، لكن باعتراف الجميع فهو صاحب بركات ، حيث تجلت خلال حرب العدوان الثلاثي ، فقد توقع سقوط طائرات الإنكليز أمام شاطئ الإسكندرية ، ويشير إليها بإصبعه فتهوى مُحترقة في البحر ، ويُرجع ذلك كله إلى بركة ” سيد المُرسي أبو العباس ” ، وعندما يطلب الأولاد منه المزيد ، يتركهم ويمشي ويقول لهم بكل براءة ” بكرة هاوقعلكم شوية حلوين  ” !!

الإسكندرية في الخمسينات
الإسكندرية في الخمسينات

وبالفعل حدث هذا أكثر من مرة  !!

وفي ظني أن هذه الشخصية التي تبدو تافهة، هي من أجمل الشخصيات التي أجاد ” إبراهيم عبد المجيد ” في صنعها، وتبلغ حدا من الجمال ، لا يوصف ، خاصة عندما أقنع الصبية والأولاد وحتى الشباب ، بأنه يرى ” ربنا ” كل يوم عند نهاية العُمران ، حيث يّتّجلىٌ بغرب الإسكندرية ، والخروج بعيدا عن المساكن ، وكذلك مشاركاته هو وزملائه المجاذيب من الأطفال في جنازة ” خير الدين خير الدين خير ” كان المشهد مؤثرا إلى حد البكاء !!

شخصيات رائعة وبديعة وجميلة ، من الصعب أن أتوقف عند الكثير منها ، ف ” سليمان عبد الباسط ” يجسد أزمة المثقف وخيباته ، فعودة  حبيبيته البريطانية ” چين بانكروفت ” مع والدها إلى بلدها كانت أول انكساراته ، وإن لم تكن آخرها !!

غير أنه عاد إلى تماسكه وثقته بنفسه التي أوشكت على الضياع، بأن منحه الله ” سعدة ” وجه القمر الذي أّطّلّ عليه في ليلة قدر لم يتوقعها ، فأعادت إليه الحياة بعد أن لامس طيف الموت بفقدان صديقه ” خير الدين ” !!

و” محمود المّلاّح ” صاحب الموهبة في التصوير السينمائي ،والذي شارك كجندي في الدفاع عن بورسعيد ، وظل يحلم بالعمل مع يوسف شاهين ، وانتهى به المآل إلى الهجرة لإيطاليا والقيام بدور كومبارس في الفيلم الإيطالي ” السبعة ضد طيبة ” بدور أحد آلهة اليونان القدامى ، والذي لا ينطق بكلمة واحدة طوال وقت الفيلم ، فهل الآلهة تنطق !!

قوات الدفاع الشعبي في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي
قوات الدفاع الشعبي في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي

لكن يبقى في تلك الملحمة الإنسانية البديعة ، الآنسة ” نوال ” تلك الفتاة الرائعة الجمال ، والباهرة الصوت ، والتي تعمل مُمرضة في إحدى مستشفيات الإسكندرية ، وتُسري بصوتها الشّجي الجميل عَن مرضاها في عنابر علاجهم ، وتُغني في غرفة العمليات بأمر كبير الأطباء الذي لا يملك القدرة عَلى الإمساك بالمشرط ، إلاّ في ظل شدوها الجميل !!

” نوال ” الجميلة الموهوبة ، تدخل في عالم الشيوعية بالصُدفة، وتُعتقل في ليلة الصدام بين المنظمات الماركسية والدولة المصرية !!

لكن المُذهل في الأمر ، أن تستمر ” نوال ” في الجزء الثالث ” الإسكندرية  في غيمة ” من تلك الثلاثية الرائعة !!

فكيف تعيش تلك الفنانة الموهوبة ذات الماضي الشيوعي القديم ، في مدينة غابت عنها كل مشاعل التنوير والتحديث والتعدد والتسامح ، مدينة باتت منصة في سبعينيات القرن الماضي للفكر الوهابي المُتخلف ، ووكر للإرهابيين  التكفيريين!! …

لكن في ظني أن ثمة حنين ، أو حالة من الندم ، بدت من تعبيرات الصديق ” إبراهيم ” لٍمّ آلت إليه الحياة في الإسكندرية برحيل تلك الجاليات من كل لون وجنسية ودين وثقافة ، ويُرجع ذلك إلى قرار” عبد الناصر ” بتأميم قناة السويس وتلك التبعات التي صاحبت هذا القرار التاريخي !!

وهنا اختلف مع صديقي العزيز ، فحالة الهجرة من الإسكندرية، وعموم مصر لأصحاب الشركات الأجنبية لم تكن مُصاحبة لقرار التأميم فقط ، بل سبقتها بسنوات طوال ، فمع إلغاء “مصطفى النحاس ” الامتيازات الأجنبية في معاهدة مونتريه سنة ١٩٣٧، أمكّنّ للحكومة المصرية أن تُخضع الإستثمارات الأجنبية في الصناعة والتجارة للضرائب المُباشرة ، وقد كانت من قبل مُعفاة من الضرائب ، وقد كان هذا من أسباب هجرة الأجانب هجرة جماعية من مصر حتى قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ ، إنهم أحسوا بتقلص نفوذهم وأمنهم ومستقبلهم ومستقبل أبناءهم في مصر بإلغاء الامتيازات الأجنبية ، وبتقلص سلطات الإنجليز …

مصطفى النحاس
مصطفى النحاس

ولكن ثمة شركات كبرى بقيت بلا شك تعمل في مصر ، وهي تلك الشركات التي تحايل أصحابها من الأجانب بتغيير مجالس إدارتها ، بإدخال كبار الرأسماليين المصريين في عضويتها ،وبصورة شكلية وصورية في الغالب، وخصوصا أثناء الحرب الثانية وبعدها ، مما أعاد لهم جوانب مُختلفة من الحصانة القانونية والمالية …

ولذلك لم يبقى في الإسكندرية أو غيرها سوى الطبقات الدُّنْيَا من هؤلاء الأجانب والذين يعملون في المجالات الخدمية ،كالبارات ومحلات بيع الأقمشة ودور السينما وموظفي البنوك والسُعاة في المصالح والشركات الكُبرى وغيرهم وغيرهم ، أيما يُسمى في الكلاسيكيات الماركسية ب ” البروليتاريا الرثة  !!

ولكن قرار ” عبد الناصر ” بتمصير الاقتصاد المصري بتلك الصورة الحاسمة جاء عَلى أوسع نطاق بين ١٩٥٢و ١٩٦٠ ، أي قبل قرار تأميم القناة وبعده ، لقد كانت الحياة في الإسكندرية شيء من ” رباعية الإسكندرية ” للورانس دوريل ، وكانت القاهرةعَلى حد تعبير ” لويس عوض ” قريبة ” من بغداد المُتنبي التي تّسمّع فيها كل لسان إلاّ اللغة العربية ، عَلى الأقل بين ميدان سليمان باشا ، طلعت حرب ، لاحقا ، أو ميدان الإسماعيلية ،التحرير فيما بعد ، كما ينطبق عَلى أحياء الزمالك وجاردن سيتي والمعادي ، وبعض من مصر الجديدة والسكاكيني والظاهر وحواري شبرا ” !! ******

أحياء وشوارع وميادين كانت حكرا للأجانب وحلفاءهم من الرأسماليين والإقطاعيين المصريين ، لكنها الأرض الحرام عَلى كل مصري لا يحمل ألقاب البيك والباشا والمعالي والأمير !!

رواية بديعة بلا شك ، ويكفي أنها مع الجزء الأول ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” والجزء الثالث ” الإسكندرية في غيمة ” هي بمثابة التأريخ السياسي والاجتماعي لتلك المدينة العريقة لنحو نصف قرن ، فقد بدأت الملحمة مع عام الحرب العالمية الثانية ، وانتهت مع عقد السبعينيات من القرن الماضي حيث تظاهرات الخبز في يناير ١٩٧٧، ثم بداية الصُّلح مع إسرائيل في نوفمبر من نفس العام …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock