رؤى

أحاديث توفيق الحكيم الأربعة التي فجرت معركة بين المستنيرين والمحافظين

في أطار الجُهد العقلي الذي اختطه توفيق الحكيم لنفسه منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، بنشره مسرحية “أهل الكهف” المأخوذة عن سورة الكهف، واصل الأستاذ الحكيم هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ الأدب والفكر العربي، وهي الاعتماد على نص وارد في كتاب الله العظيم، إلى تجربة أخرى لا تقل أهمية وحداثة وخطورة.

ففي عام ١٩٣٦ نشر كتابه “محمد” صلى الله عليه وسلم، وهو سيرة حوارية يتحدث فيها النبي الأعظم، بصورة إنسانية خالصة، يحاور المُشركين ويحاور الصحابة ويحاور أهل بيته، وكيف يُعلم البشرية أصول رسالته، ويرد على المشركين الذين ناصبوه العداء بالحجة القوية الدامغة، والمجادلة مع الخصوم بالتي هي أحسن.

“أهل الكهف” كان العمل الفني الرائد الذي افتتح به الأستاذ الحكيم تجاربه الإبداعية، فقد سبق كتابه “محمد” صلى الله عليه وسلم، سيرة حوارية بثلاث سنوات، حيث صدر هذا النص الأدبي المكتوب في شكل مسرحية عام ١٩٣٣.

أهل الكهف

غير أن كتابه “الأحاديث الأربعة” والذي يُصنف عملا اجتهاديا على صعيد الفكر الديني والقائم على بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة كان عملا غير مسبوق، فقد كانت هذه الأحاديث وكما أسماها الأستاذ الحكيم هي “حديث مع وإلى الله” ما أثار حجما هائلا من ردود الفعل العاتية بين مؤيد ومُعارض، فقد تزعّم حملة الرفض الشيخ محمد متولي الشعراوي وبعض من رجال الدين الإسلامي، فيما سانده وانتصر له الدكتور زكي نجيب محمود فيلسوفنا الكبير، والدكتور يوسف إدريس عبقري القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث.

كانت “الأحاديث الأربعة” تجربة إنسانية وروحية ودينية على درجة عالية من الأهمية والخطورة لا يجرؤ على خوضها سوى رائد عظيم مثل توفيق الحكيم، فقد أصرّ على جمع هذه الأحاديث التي نُشرت على أربع حلقات كل يوم ثلاثاء، وهي ذكرى وفاة ابنه الوحيد إسماعيل الذي وُلد في الشهر الثالث، وتوفي في الثلاثين من عمره، وكان يوم الثلاثاء هو يوم رحيله إلى بارئه.

ولذلك حرص الحكيم أن تكون أحاديثه الأربعة منشورة في جريدة الأهرام العريقة، كل يوم ثلاثاء.. ولذلك اعتبرها مُناجاة إنسانية خالصة إلى الله بهدف التخفيف والعزاء والمواساة والسّلوى، فضلا عن الدرس والعبرة والرضى بقضاء الله.

وعندما أصرّ الحكيم على نشرها في كتاب؛ دقّق في الأحاديث النبوية الشريفة وأرجعها إلى مصادرها الأصلية، وكذلك مراجعة تفسيره وتأويله لكثير من الآيات القرآنية، لكي يكون رده كاملا وواضحا على من أتهموه بالخروج على صحيح الدين، والتجاوز في التعامل مع الذات الإلهية.

الرجل شأنه شان كل مُبدع أصيل أخذ ببعض ملاحظات خصومه وناقديه، فلم ينشر تلك المقالات كما وردت في العنوان الأول باسم “حديث مع الله” ولكن نشرها تحت عنوان جديد هو “الأحاديث الأربعة: خطرات دينية” مُصدِّرا كتابه بتلك الآية الكريمة من سورة هود “إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” الآية ٨٨

ولم يكتف الحكيم بذلك ردا عَلى مُنتقديه، فقد أوضح موقفه في مُقدِمة كتابه، شارحا أبعاد وأهداف تلك المعركة التي أُثيرت حول ذلك العمل الإنساني، والتباس الفهم عند الكثير بشأن ما كتبه!

لقد وصف الحكيم هذا العمل الرائع بأنه “مُناجاة مع الله، وإلى الله” رافضا عَلى نحو قاطع وحاسم أن يحتكر بعض علماء الدين الإسلامي، حق تشكيل عقل الأمة على أساس العلم الديني، الذي درسوه من الكُتب المُعتمدة لديهم.. وقراءتها عَلى طريقتهم، أي مُنفصلة عما استجد من علوم العصر والتطور الإنساني في كل علوم المعرفة، بما فيها ما قدمه غيرنا من اجتهادات عَلى صعيد الفكر الإسلامي.

لقد صدرت في القاهرة الطبعة الأولى من كتاب “الأحاديث الأربعة” عن دار الشروق المصرية في عام ٢٠٠٦، فيما صدرت الطبعة الثانية في عام ٢٠٠٩، موزعة على خمسة فصول، تضم الأحاديث الأربعة، والتي رأى الحكيم أن يُصدّر كل فصل منها بتلك الآية الكريمة “ولَا يكُتمُون الله حدِيثا” الآية ٤٢ من سورة النساء في إشارة إلى أن ما كتبه كان لازما في كتابته بوصفه مفكرا، ومُلتزما به كونه مُسلما.

وتنتهي تلك الفصول الأربعة بفصل عنوانه “أنا مُسلم.. لماذا؟”

غير أنه أضاف لهذه الطبعة فصل أخير أراه في غاية الأهمية وعنوانه “هوامش الأحاديث الأربعة، والقضايا التي أثارتها” وامتد على أكثر من ٤٥ صفحة  من مجموع صفحات  الكتاب التي بلغت ١٢٧ صفحة من القطع المتوسط، وقد رجع إلى العشرات من كتب التفسير المُخْتَلِفةِ  وفي كل العصور ووفق المذاهب الإسلامية المعروفة، فيما عرض لمواقف أعلام كبار من رفاق عصره وزمانه، مثل: أحمد لطفي السيد وطه حسين وعبدالحميد بدوي وواصف باشا غالي وعلي عبدالرزاق وعباس محمود العقاد وأحمد أمين والدكتور منصور فهمي فضلا عن طائفة من مفكري الغرب والعرب من زمن مضى، مثل: ابن خلدون وابن الأثير وڤولتير والمتنبي والفيلسوف الألماني يوهان فولفانج جوته والأديب الفرنسي جول لومتر وغيرهم.

هذا العمل رائد بكل المقاييس واعتبره شهادة قاطعة على قدرة توفيق الحكيم عَلى استشراف معالم المستقبل، فقد انتهى من كتابة هذا الكتاب في شهر يونيو من عام ١٩٨٣، عارضا وشارحا مفهومه للدين الإسلامي والفكر المُصاحب والمعاصر له طوال أربعة عشر قرنا.

والمُدهش أن ما يطرحه الحكيم منذ نحو أربعين عاما هو ما نتحدث فيه الأن!

غير أن الفرق بين الحكيم وبعض كُتاب وشيوخ عصرنا الراهن، أنه كان حكيما أصيلا وصادقا ورائدا.

رحم الله توفيق الحكيم الرائد في تحريك المياه في بحيرة الفكر العربي الراكدة، فمنذ روايته الرائدة “عودة الروح” المُكرسة لاستكشاف الشخصية المصرية من خلال وقائع ثورة ١٩١٩، إلى كتابه الشُجاع “الأحاديث الأربعة” والذي أدلى فيه برأيه حول الخطاب الديني – ما يشهد للرجل بأنه كان مُفكرا رائدا وطليعيا في تاريخنا الفكري والثقافي المُعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock