رؤى

الدعاة الجُدد.. المضاربون في بورصة الدين

يومًا بعد يوم، يُدرك كثيرون، ممّن رأوا في ظهور الدعاة الجُدد (الدعاة المودِرن)، أملًا في تعزيز الدين في نفوس الشباب، وترغيبهم في محاسن الأخلاق، وتبسيط الدين بعيدا عن التعقيد وتشعُّب الآراء، أن أولئك الدعاة ليسوا إلا طائفة من المتكسّبين بالدين، الذين يقولون ما لا يفعلون، وتتناقض أفعالهم مع أقوالهم، جملة وتفصيلًا!

نتفق، تماما، مع الباحث الراحل، حسام تمام (توفي 2011م)، الذي قال، فى أحد مقالاته، إنّ «عمرو خالد هو أيقونة الدعاة الجدد، وهو الأكثر تمثيلًا للظاهرة»، ويُرجع الباحث الراحل أسباب تمدّد وظهور وانتشار أولئك الدعاة إلى عدة أمور، أهمها تراجُع الأزهر، وهو المؤسسة الدينية الرسمية، وتراجع أنماط التدين الحركي سواء من خلال المواجهات مع الجماعات الإسلامية، فهؤلاء قدموا أنفسهم بشكل فردي مستقل من خلال التكوين الديني العصامي، كما أنهم جمعوا بين التعليم الديني والمدني ما بين التجارة وفن «إدارة الذات» و«التطوير البشري» وعلوم الإدارة الأمريكية، وغيرها، وبالتالي فهم يقدّمون لونًا دعويًّا جديدًا يختلف تمام الاختلاف عن ذلك اللون التقليدي الذي درج عيه خطباء ووعاظ ودعاة الأزهر والأوقاف، وليس الاختلاف في الشكل فقط، بل في المضمون كذلك؛ فمما لاشك فيه أن خطاب أولئك الدعاة يعتمد، في أجزاء كبيرة منه، على التسطيح والسذاجة، وسرد القَصص بصورة شعبوية لدغدغة مشاعر الشباب، على التخصيص، ولعل هذا في حدّ ذاته ذكاء منهم؛ إذ إنهم يرومون تأسيس خطابٍ دعوي يشتبك مع عقلية الشباب الهشّة التي تتململ من التعقيد، وتجنح، دائما، إلى تسطيح الأمور وتبسيطها، فالتدين الذي ينشده أولئك الدعاة، إنما هو تدين من نوع جديد، تدين يداعب المشاعر والأحاسيس والرغبات عند الشباب، لذلك قال الباحث الراحل حسام تمام واصفا ذلك بإيجاز: «هو تدين لا يدخل الفرد من خلاله إلى السجون والمعتقلات أو يخرج عبره إلى الجهاد العالمى فى أفغانستان والشيشان والعراق، هذه الشرائح البرجوازية [طبقة اجتماعية تمتلك رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج] تريد تديُّنا دون كلفة سياسية، لا يتصادم مع النظام السياسي القائم، ونمط التدين الذي يقدمه الدعاة الجدد هو نمط مرتبط بهذه الشرائح، البرجوازية التي لديها رغبات وطموحات فى الصعود الاجتماعي، وفى الوقت ذاته تريد تديُّنًا يُشبِع حاجتها الرُّوحية دون خسارة مكاسبها وامتيازاتها الاجتماعية، أو فقدان طموح المتعة واللذة والسعادة والراحة، فوجدت هذه الشرائح فى خطاب هؤلاء الدعاة الجدد النموذج المناسب».

حسام تمام
حسام تمام

كان عمرو خالد، إذن، هو أيقونة تلك الظاهرة، ومَثلها الدقيق، فهو قد جاء بعد انحسار وخمود الدعاة التقليديين، ومن ضمنهم الداعية ياسين رشدي (توفي 2010م)، الذي حقق في بداية تسعينيات القرن الماضي شهرة عريضة، ولم يكن بالأساس قد تلقى أي تعليم ديني لا في الأزهر ولا في معاهد إعداد الدعاة، فقد كان حاصلا على بكالوريوس العلوم البحرية، وكان يقدم على شاشة التلفزيون الحكومي آراءً معتدلة تختلف تماما عن الآراء المتشددة والممارسات الدموية التي كانت تنتهجها التنظيمات الإرهابية المسلحة، ليظهر من بعده مباشرة الشاب عمرو خالد، الذي جاء بشكل جديد غير تقليدي، واضعا نصب عينيه توجيه خطابه الدعوي “التمثيلي” إلى جماهير الشباب، فنجح بمساعدة البعض، ولظروف الواقع السوسيو سياسي في مصر، في تكوين وتأسيس قاعدة جماهيرية رهيبة، حتى أصبح هنالك ما يشبه “السوق” أو”البورصة” التي يُتداول فيها “الدعاة الجدد”، وكما كان عمرو خالد أيقونة الظاهرة وتمددها، كان أيضا أيقونة خفوتها ونحول ضوئها يوما بعد آخر، خصوصا بعد الأحاديث التي دارت حوله، في الآونة الأخيرة، على صفحات السوشيال ميديا والمواقع الإلكترونية، ودخوله حقل الإعلانات التجارية الموجَّهة التي تتناقض تماما مع صورة الداعية الذي يبتغي إيصال المفاهيم الدينية إلى الشباب، والدعوة إلى الدين بشكل تجديدي متسامِح.

ياسين رشدي
ياسين رشدي

الأمر يُشبه تماما السوق الذي يتهافت فيه البائعون على ترويج سلَعهم وبضائعهم، ويبدو أن السلطة السياسية، في ذلك الوقت، كانت ترى في أولئك الدعاة أملا لإلهاء وجرّ الشباب بعيداعن الخطابات الإسلامية الراديكالية التي تبنّتها جماعات الإسلام السياسي، والتنظيمات الجهادية المتطرفة، وساعد على تمدُّد أولئك الدعاة أيضا أرباب الأموال والأثرياء الجدد الذين جمعوا وحازوا ثروات طائلة في أعقاب الانفتاح الساداتي، فهم كانوا في حاجةإلى نمط دعوي جديد يتبنونه للخروج من “شرنقة” النمط القديم الذي لا يتسامح مع الثروات التي يشوبها المال الحرام، كما أن”ستايل” الدعاة الجدد كان مناسبا تماما للطبقة الثرية التي فتحت قصورها وبيوتها ونواديها لأولئك الدعاة، الذين كان على رأسهم عمرو خالد، الذي كان في بداية تكوينه عضوا بجماعة الإخوان، ثم فارَقهم، تنظيميا لا عقديا، ليمتهن الدعوة الجديدة القائمة على الاهتمام بالفرد ذاتيا، وإبعاده عن السياسة، وتبنّي خطاب دعوي ترغيبي قوامه أن من تمسّك بالدين فإن الله سيعوّضه ويرزقه، ليس مالا فقط، بل سيرزقه ألوانا من العطايا والمكافآت المعنوية والروحية! [راجع كتاب وائل لطفي: ظاهرة الدعاة الجدد، ط 2005]

ظاهرة الدعاة الجددوعلى شاكلة عمرو خالد ظهر مصطفى حسني، ذلك الشاب الذي بزغ نجمه في مجال الدعوة على الرغم من حصوله على بكالوريوس التجارة، لكن يبدو أن تجربة عمرو خالد التي سبقت تجربته بقليل شجّعته على خوض مجال الدعوة “المودِرن”، وتسلّح بمواصفات الداعية العصري الذي يتخذ من الشكل قاعدة وليس من المضمون، لكنه اهتمّ بمسألة حجاب المرأة المسلمة ربما أكثر من سلفه عمرو خالد، حتى إنه ظهر في فيديو مع مجموعة من المانيكانات يشرح فيه كيف تكون المرأة كاسية عارية، وأخذ يشير بمؤشر نحو أجسام المانيكانات، وكأنه يبرّر للتحرش، وأن ملابس المرأة هي سبب ذلك، لكنه بعد ذلك واجَه سيلا من الانتقادات، مما دفعه مؤخرا إلى تقديم اعتذار مصوَّر معلنا فيه أن الحجاب كما هو فريضة «لكن الدعوة إلى الله، أيضًا، بالحكمة والكلام الذي ينزل بردًا وسلامًا على قلوب المتلقي فريضة».

ويأتي الداعية الشاب معز مسعود في بداية موجة تالية لموجة عمرو خالد، وهو إن كان قد تلقّى تعليما عاليا في الجامعة الأمريكية، ويمتاز بصوت رائق ووسامة، بيْد أنه لا يختلف كثيرافي منهجه الدعوي عن عمرو خالد، أستاذه وأيقونته، فخطابه يركزأيضا على الرُّوحانيات والاهتمام بالخلاص الفردي، وعدم الخوض في السياسة، إلا ما ندر، وترغيب الشباب في الجوانب الروحية والإنسانية، لكن حالة “الفصام” والانفصال عن الخطاب الدعوي، جعلت هذا الداعية مثار انتقادات كبيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، بسبب إعلان زواجه المتكرر من الفنانات، وبالطبع لمتكن الانتقادات للزواج في حدّ ذاته كرباط اجتماعي، بل انصبّت الانتقادات حول حالة “الفصام” التي كشفته، فهو في أحاديثه مافتئ يحذر الشباب من الارتباط بالمرأة المتبرجة، وهو ما فتئ يدعو الفتيات والنساء إلى الحجاب والاحتشام، وهو وهو، فإذا به يفعل عكس ما يدعو إليه، ودلّل على أن أولئك الدعاة الجدد ليسوا سوى طائفة من رجال أعمال دينيين يقدسون قيم السوق، ويؤسسون نمطا من التدين “النيوليبرالي” الذي لا يقطع علاقاته مع النص التراثي والتمثيل المثالي للأسلاف، لكنه يدمج ذلك كله في صورة جديدة تستثمر أدوات ومعطيات العصر الحديث، لكنها للأسف تبقى مشوّهة

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock