رؤى

كيف رأى المؤرخون أول ثورة مصرية في التاريخ؟

لم يكن خروج ملايين المصريين إلى الشوارع في الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١ كما يتصور – أو يُصور- البعض أمراً مستغرباً أو غير مألوف في تاريخ مصر، بل كانت تلك الجماهير تستلهم تراث أجدادها الذين قاموا بأول ثورة اجتماعية في تاريخ البشرية.

انفجار شعبي

ويروي مؤرخ الحركة الوطنية المصرية الراحل عبد الرحمن الرافعي في كتابه “تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة” تفاصيل تلك الثورة والأسباب التي أدت الى قيامها في نهاية حكم الأسرة السادسة في مصر القديمة والتي حكمت البلاد ما بين ٢٤٢٠ و٢٢٨٠ قبل الميلاد.

تاريخ الحركة القومية في مصر القديمةكانت  “الأحوال قد أخذت  تسوء منذ أواخر عهد الأسرة السادسة” وأنشأ حكام الأقاليم “نظاماً اقطاعياً” و”اقتطعوا كثيراً من سلطة الملك” وأدى ضعف السلطة المركزية في العاصمة إلى ضعف الرقابة على حكام الأقاليم “فانحرفوا عن الحق والعدل” و”استبدوا بالأمر، واستغلوا السلطة لمصالحهم و مصالح ذويهم” مما أدى الى كثرة المظالم وتفشي الفساد

ويرى الدكتور أحمد بدوي في كتابه “مراكب الشمس” أن الأمور انتهت الى نتيجتها الطبيعية وهي “الثورة والانحلال السياسي” حيث أن الدولة المركزية في ذلك العصر كانت “قد شاخت وشاخ من حولها الزمان”.

ويضيف : “هب الشعب بثورته الاجتماعية الطاحنة التي اندلعت في البلاد من أقصاها إلى أقصاها” ووصلت بطبيعة الحال إلى العاصمة – آنذاك – مدينة “منف”.

وكانت أهم مظاهر هذه الثورة – كما يروي الرافعي- هي انتفاضة الشعب ضد السلطة والخروج على تقاليد الخضوع والهجوم على المخازن والمكاتب الحكومية وعلى الاقطاعيين بالذات.

إلا أن هذا الانفجار الشعبي الهائل الذي كان قوامه عامة الناس والبسطاء والذي كان أقرب إلى “ثورة الجياع” أدى إلى حالة عامة من غياب الاستقرار السياسي وبالتالي “تحللت الدنيا من كل قيد وانطلق الناس من عقالهم وأخذ بعضهم يومئذ يموج في بعض وساد في البلاد قانون الفوضى”.

وبلغت حالة عدم الاستقرار التي أعقبت تلك الثورة أن الأسرة السابعة التي وصلت إلى السلطة لاحقاً  -وفقاً للمورخ مانيتون-  تكونت من سبعين ملكاً وحكمت لمدة سبعين يوماً أي أن كل منهم حكم يوماً واحداً  فقط!

أفكار ثورية جديدة

غير  أن الدكتور أحمد فخري في كتابه “حضارة مصر القديمة” يرى أن هذه الثورة الاجتماعية – وأياً كانت نتائجها- يُحسب  لها أنها بعثت في شعب مصر أفكاراً جديدة حيث أعلت من شأن الفرد وكرست فكرة أن “كل إنسان مسؤول عما قدمت يداه من خير أو شر وأنه سيحاسب وسيجازى أمام الإله الأعظم على ذلك دون نظر إلى فقره أو غناه”.

ويضيف: أن مصر “عرفت قيمة الفرد وعمله في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية قبل أن يصل اليه غيرها بقرون كثيرة”.

وظلت حالة عدم الاستقرار مستمرة إلى أن تحقق للثورة هدفها الأساسي وهو وصول رجل من صفوف الشعب الى قمة السلطة وهو الملك أمنمحات الأول الذي أسس الأسرة الثانية عشرة.

ويرى الرافعي أن الأسرة التي أسسها الملك أمنمحات الاول “أنقذت البلاد من الفوضى وضربت على أيدي حكام الأقاليم الظلمة المستبدين والإقطاعيين وأشاعت العدل بين المواطنين وسنت قوانين عادلة لمصلحتهم ورفعت من مستوى الموظفين وجعلتهم خداماً للشعب”.

https://www.youtube.com/watch?v=fHVQ7VRtPU8

وإضافة إلى كل ما سبق فإنها أقامت عدداً من المشاريع العمرانية التي عادت على البلاد وأهلها بالخير والرفاهية.

ولعل أهم ما حققته هذه الأسرة الجديدة هي أنها قضت على واحد من أهم الأسباب التي أدت الى قيام الثورة ألا وهو ذلك  الظلم الذي كان يرتكبه  الحكام المحليون من سادة الأقاليم حيث صار حكام الأقاليم – كما يشير المؤرخ الفرنسي موريه في كتابه “مصر الفرعونية” – موظفين لدى الملك ، ومع وصول سنوسرت الثالث ، خامس حكام الأسرة الثانية عشرة الى السلطة بداية من عام ١٨٧٨ قبل الميلاد، سادت المساواة بين الجميع أمام القانون وتطلع البسطاء لأول مرة إلى شغل المناصب الرفيعة في جهاز الدولة،ويرى الرافعي أن هذا التحول الاجتماعي كان نتيجة مباشرة من نتائج الثورة حيث “انتقلت الى الشعب حقوق الطبقة الارستقراطية” بما في ذلك الحقوق الدينية التي كانت حتى تلك الفترة حكراً على الكهنة أو رجال الدين.

إلا أن آثار تلك الثورة امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك حيث ساهمت في ظهور طبقة وسطى من الصناع والتجار وأرباب الحرف في المدن والقرى وسموا أنفسهم “أهل البلد” وارتقت هذه الطبقة الوسطى بشكل واضح، كما باتت الدولة تعتني بالعمال وترسلهم إلى معاهد خاصة ليتعلموا فنون الصناعات المختلفة والمتنوعة.

المصريين القدماء
المصريين القدماء

بل إن منزلة الملك نفسه – كما يؤكد المؤرخ الأمريكي المتخصص في علم المصريات جون ويلسون في كتابه عن تاريخ الحضارة المصرية – ” هبطت  إلى منزلة البشر العاديين” وكانت الفكرة  المميزة للدولة الوسطى التي بدأت مع الأسرة الثانية عشرة هي “إن الملك راع يقظ يسهر ضميره للمحافظة على الأمة” كما نشأ اتجاه ثقافي يدعو الى صون حقوق الأفراد.

استطاع المصري القديم أن ينقش تفاصيل ثورته  الأولى في التاريخ، في سجل البشرية وأن يغير لا من وضع بلاده فحسب بل من ثقافتها المتوارثة أيضاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock