علي قدر ما تخرج في الأزهر من نوابغ يظل جدنا المعظم مولانا رفاعة الطهطاوي أيقونة الفكر المصري التي لم تكتشف بعض جوانبها حتي اليوم ، وفجر حادث قطار طهطا سيرة ومسيرة المدينة التي تشتهر بالعلم حتي صار ابنها البار سبب شهرتها حتي( عند جان جاك روسو) ، والربط بينهما في إنجاز الفكر التقدمي الذي سبق به الطهطاوي(روسو) في قضية إنصاف المرأة ، وكثير من المؤرخين أهملوا هذا الجانب عمداً أو قصدا ولهم العذر فالرجل أكبر من الإحاطة في بحث أو أثنين ، مع ذلك يبقي في حياة الطهطاوي منجزات فكرية مدهشة
في كتابه مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية يقدم الطهطاوي فن التأريخ بمنهج واضح وبمنهج عالم مؤسس لهذا العلم ،وقد تأُثر الطهطاوي بميزة التعليم الأزهري ، التي لا تُضَيِّقُ على الطلاب في دراستهم, والتي تقوم على الحرية الفردية؛ فتعدهم لحياة الرجال التي تنتظرهم, فوق أنها ترهف الأذهان, وتفسح الملكات, وتطبع العقول على التفطن لما دق من الأفهام, وخفى من الأغراض.
شهادة سعد زغلول عن مولانا الطهطاوي
وقد روي سعد باشا زغلول في مذكراته عن فضل الطهطاوي ومنهج الأزهر الذي تعلم فيه بسبب حبه للطهطاوي فقال تعلمت من كتب الطهطاوي، أن إجالة الفكر, وتقليب الرأي, تساعد على قوة الحجة, والرصانة في الجدل, والاقتدار على المحاورة, ومحاججة الخصم, والثبات للبحث المتشعب, والصبر على التفهم العميق, وهذه الطريقة في التعليم هي التي أشاد “سعد زغلول” بذكرها, فقد قال في خطبة ألقاها بالأزهر, بعد عودته من أوربة سنة 1921م:
“جئت اليوم لأؤدي في هذا المكان الشريف فريضة صلاة الجمعة, وأقدِّمُ واجبَ الاحترام لمكانٍ نشأت فيه, وكان له فضل كبير في النهضة الحاضرة, تلقنت فيه مبادئ الاستقلال؛ لأن طريقته في التعليم تربي ملكة الاستقلال في النفوس؛ فالتلميذ يختار شيخه, والأستاذ يتأهل للتدريس بشهادةٍ من التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول كل نابغ فيه, ومتأهل له يوجه إليه كل منهم الأسئلة التي يراها, فإن أجاب الأستاذ, وخرج التلميذ ناجحًا من هذا الامتحان, كان أهلًا لأن يجلس مجلس التدريس, وهذه الطريقة في الاستقلال التي تسمى الآن خللًا في النظام, جعلتني أتحول من مالكيّ إلى شافعيّ؛ فقد وجدت علماء الشافعية في ذلك الوقت أكفأ من غيرهم”.
في كتاب الطهطاوي ( مناهج الألباب) كتب: لما استقرَّ أمر مصر لمحمد علي باشا, أراد أن يوطِّدَ أركانه، ويثبّتَ دعائمه بجيش قويّ يدعم الأمن ويصدُّ المغير، واستلزم ذلك إنشاء مدرسة تُخرج الأطباء الذين يأسون الجرحى, ويردون الأوبئة إذا هبت ريحها, فأنشأ هذه المدرسة في سنة “1242هـ-1826م” بجهة أبي زعبل، ثم نقلت إلى قصر ابن العيني في سنة “1838م” فاستقدم لها أساتذةً من الغرب، وأسند رئاستها إلى الطبيب “كلوت بك الفرنسي” الذي كان قد استوفده لجيشه.
وأشار الطهطاوي إلى أن هذه المدرسة قامت على تلاميذ من المصريين الأزهريين كانوا أغلب تلامذتها؛ إذ جلبت لها مائة تلميذ من طلبة الأزهر،
هكذا تظهر عبقرية الطهطاوي في سرد وقائع مجموعة من الأحداث ليشكل منها هيكلا سرديا متصلا، وهو الموقف نفسه الذى كان يتخذه كاتب الرواية التاريخية إزاء المواد التى تقدمها له المصادر التاريخية العربية القديمة والوسيطة.
إن التاريخ عند الطهطاوى ينقسم إلى أثرى وبشرى (فالأوّل ما كان من طريق الشرع كالقصص الواردة في الكتب السماوية والثانى ما وقف عليه الناس من الوقائع والحوادث الحاصلة في الأعصر القديمة والحديثة
ولما كان هدف الطهطاوى من كتابة السيرة يتصل بأهداف كتاب الرواية التاريخية والتعليمية، فقد كانت تقنية الاستطراد في السرد تقنية مشتركة بين كتابته وكتابتهم.
وستتبدى تلك الجوانب بتفصيل أكبر في فقرات تالية، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بعد الوقوف على مدى وعى الطهطاوى بالأشكال السردية المختلفة ووظائفها.
المترجم والصحفي البارز
وكتب الشيخ كامل الفقي في رسالة دكتوراه عن رفاعة الطهطاوى (1801- 1873 م) أنه كان نموذجاً للمثقف العربى المجدد في أولى مراحل النهضة العربية الحديثة التى بزغت مع بدايات القرن التاسع عشر، وقد فرضت تلك المرحلة ذلك المثقف الحديث والمحدّث والمترجم البارز الذي يسهم بكتاباته في مجالات ثقافية واجتماعية متعددة، وقد جسد الطهطاوى هذا النموذج إذ جمعت كتاباته بين عمل المفكر الاجتماعى والتعليمى، والصحفى، والأديب (الشاعر والناثر) ، والمؤرخ غير المحترف، ومثل منحاه الإصلاحى العنصر الأساسى الرابط بين كتاباته التى تؤكد، بتنوعها، سعى الطهطاوى إلى الوفاء بما تطلبه واقعه.
وقد تنوعت إسهامات الطهطاوى في مجالات الأدب العربى في القرن التاسع عشر؛ ورغم كونه واحدا من شعراء المرحلة الأولى من مراحل حركة الإحياء، على نحو ما يتجلى في ديوانه، فإن من اللافت أن إسهاماته في ميادين الكتابة النشرية هى التى وضعت اسمه في قائمة الأدباء المجددين في القرن التاسع عشر؛ إذ جمع بين تقديم شكل الرحلة في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» (1834) والإسهام في تأصيل الرواية التعليمية وذلك بترجمته لرواية فينيلون (1651- 1715) المسماة” وقائع تليماك” (1699) والتى أعطاها الطهطاوى روعة في المنطقة الواصلة بين التاريخ والأدب.
ولعل تلك الأهمية التى نالتها الأخبار التاريخية هى التى جعلت الطهطاوى يرفض الأخبار التى أولع بها (الإخباريون والقصاص) من (الأقاويل غير المرضية) و (ما يظهر بعرضه على ميزان العقل أنه من محض الخرافات) أو من (الأباطيل والخزعبلات) . ويمثل موقف الطهطاوى استمرارا لمواقف فئات مختلفة في المجتمع العربى الوسيط من نشاط القصاصين وحكاياتهم وأخبارهم ، كما أنه يمثل دافعا من الدوافع المباشرة التى دفعته إلى تلخيص السيرة النبوية وتقديمها في شكل موجز.، ومن اللافت أن الطهطاوى في مقدمة ترجمته تلك يمدح النبى” ص” بأنه (خير من اختص بالقصص والنبأ، وأنبأ عن قصة بلقيس وسبأ، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من أخبار العرب والعجم)
كما قرن الطهطاوى رواية” تليماك” ببعض الأشكال السردية العربية الوسيطة، فتليماك- كما يراها الطهطاوى- موضوعة (على هيئة المقامات الحريرية في صورة مقالات) ، كما أطلق الطهطاوى مصطلح” قصة” على بعض السير الشعبية العربية، ثم فضل رواية تليماك عليها وعلى بعض الأشكال السردية العربية الاخرى كألف ليلة وليلة؛ إذ يقرر (وأين منها (أى من تليماك) عند القوم ألف ليلة وليلة وألف يوم ويوم، وهل تقاس بها قصة ذى يزن أو عنتر، فكيف وموضوعهما أقطع أبتر، فقد اشتهرت هذه المقالات بين الملل والأمم اشتهار نار على علم وترجمت بفصاحتها الركبان في سائر الجهات لما اشتملت عليه من المعانى الحسنة مما هو نصايح للسلاطين والملوك وبها لسائر الناس تحسين السلوك تارة بالتصريح والتوضيح وأخرى بالرمز والتلويح).
ولما كان الطهطاوى بترجمته رواية” تليماك” يقدم نصّا يقوم على استلهام أصل أسطورى فقد توقف أمام مصطلحى الأسطورة والأساطير؛ إذ قدم- فى ديباجة ترجمته- تعريفا بتليماك وعرّف بأصله الأسطورى، ونصّ على أنه يستقى معلوماته من (كتب الخرافات اليونانية) (38) . وفي ضوء ذلك حاول أن يبرر ميلاد تليماك من مواقعة المشترى للكمينة زوجة انفتريون، وسعى إلى تقريب هذا إلى ذهن المتلقى العربى بتقديمه عدة أخبار من التراث العربى تتحدث عن زواج الأنس بالجان أو الأنس بالملائكة (39) . وفي هذا ما يشير إلى أن الطهطاوى قد أدرك أن الأسطورة شكل سردى يقوم على مجموعة من الأخبار التى تحوى أفعالا خارقة أو مجاوزة للمألوف، من ناحية، كما أنها- من ناحية ثانية- تجسيد لعقيدة جماعة معينة، ولكنها يمكن- من ناحية ثالثة- أن توظف لأهداف تعليمية أو أخلاقية.
وفي ضوء ذلك يتبدى وصفه للأدب اليونانى بأنه مبنى (على إفراط العبارة) فى الاعتماد على الأساطير مؤكدا أن الفرنج كانوا يحذون في آدابهم حذو اليونان
ويتبدى اتصال الإحيائية بكتابة الطهطاوى” نهاية الإيجاز” من كون الطهطاوى قد أعاد إحياء ذلك الشكل السردى بعد أن توقفت كتابته في مصر لمدة أربعة قرون؛ إذ أن اخر الكتابات المصرية السابقة على الطهطاوى هو كتاب المقريزى” إمتاع الأسماع” . ويتصل بذلك الإحياء بعدان يتعلق أولهما بالصلة بين الأدب والتاريخ ودورها في تحديد طريقة كتابة السيرة وتقديمها بوصفها شكلا سرديا. بينما يرتبط ثانيهما بوعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة والقديمة. ولا ينفصل عن هذين البعدين تصور الطهطاوى لمهمة الأشكال السردية والأنواع الأدبية الحديثة.
وإذا كان التاريخ أحداثا ووقائع تنتمى إلى الماضى دائما أو إلى الحاضر أحيانا، فإن الكتابة التاريخية عند الطهطاوى تستهدف تحقيق مهمة مزدوجة، وتعود هذه الازدواجية إلى المتلقى الذى كان الطهطاوى يتوجه إليه؛ إذ كان بحكم موقعه الثقافى والطبقى وطبيعة المرحلة يتوجه بكثير من كتاباته إلى الحاكم من ناحية، وإلى عامة القراء
إن كتابة التاريخ لدى الطهطاوى بمثابة (معاد معنوى لأنه يعيد الأَعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت اثارهم وعفت). وليست هذه سوى عملية استحضار للماضى، بأحداثه وشخصياته إلى وعى المتلقى الذى يتوجه إليه الكاتب المؤرخ، وتنهض تلك العملية على مجموعة من الأشكال السردية المختلفة
عبقري التجديد في الشعر الحديث
ومن التجديد المثمر الذي أُدخل على الشعر العربي في العصر الحديث ما فعله الطهطاوي”، فإنه لما عاد من بعثة “باريس” حاول إدخال نوع جديد في الشعر المصري، إذ كان قد تعلم الفرنسية وآدابها، وأراد محاكاة بعض الشعراء هناك، وكان من أول آثره في ذلك أن نقل قصيدة “المارسيليز” التي هي نشيد فرنسا القومي إلى العربية في شعر تصرف فيه بعض التصرف، حيث قال:
فهيا يا بني الأوطان هيا … فوقت فخاركم لكم تهيا
أقيموا الراية العظمى سويا … وشنوا غارة الهيجا مليا
عليكم بالسلام أيا أهالي … ونظم صفوفكم مثل اللآلى
وخوضوا في دماء أولي الوبال … فهم أعداؤكم في كل حال
وجودكم غدا فيكم جليا … فماذا تبتغي منا الجنود
وهم جمع وأخلاط عبيد … كذا أهل الخيانة والوفود
هكذا يثبت الطهطاوي مكانته وسط فحول اللغة والأدب في الأزهرويضع نفسه مع أساتذة الرعيل الأول من نابهي الشعراء في هذا العصر الرافعين علمه المقيضين له أسمى وأرفع المنازل، فكان الشيخ “رفاعة” من المجددين في الشعر على هذا النمط.
وكان صاحب الفضل في إضافة هذا اللون من الشعر الذي يمثل الحياة المصرية من بعض وجوهها.
لقد غرس “رفاعة” في الشعر الحديث هذا الغرس الذي كان نواة للأناشيد القومية التي تودع كل معاني الحماسة، والغيرة على الوطن والتي هي رمز لكفاح الدولة فكان سابقا فيه كما كان سابقا في مجالات أخرى كثيرة تثبت نبوغه وتفوقه وإسهامه في بناء نهضة مصرية حديثة ..