رؤى

“مصطفي عبد الرازق” الأزهري المُسْتَنِيرُ بالفنون

ما الذي حدث للمجاور الأزهري “مصطفي عبد الرازق” ابن الباشا؛ حتَّى يصبح تنويريا، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ, لا يعرف الكثيرون أنَّ الشيخ التنويري الكبير العالم “أحمد أبو خطوة” (الفيلسوف المتخفي )أستاذ الفلسفة والعقيدة بالأزهر الشريف –كان نبراس الضوء الذي توهَّج في وجدان الفتي مصطفي للمرة الأولي, كان الشيخ “أ بو خطوة” يسبق الإمام “محمد عبده” بخطوات في التنوير, لكنَّ شهرة الشيخ “محمد عبده” كانت طاغية منتشرة؛ فهو كاتب صحفي ورئيس تحرير.. في حين كان “أبو خطوة” يدرس الفلسفة التقدمية سرا.

“أبو خطوة” كان الرافد الأول في حياة مولانا الشيخ “مصطفي عبد الرازق” الذي كان يذهب لشيخه سيرا على الأقدام –ربما– لتهذيب النفس ببعض المشقة؛ تماهيا مع بؤس حياة المجاورين وربما كان يبحث عن شيء ما، وجده عند “أبو خطوة” العارف بالفنون والعلوم والمعارف هذا الشيخ الموسوعي الجليل الزاهد الذي لا يحب الشهرة ولا الأضواء, لم تكن صدمة آراء الشيخ “محمد عبده” عن الفتي “مصطفي” مهمةً كما صوَّرها بعض المؤرخين, فالشيخ نفسه أشار لتأثير “أبو خطوة” في حياتة التي كتبها الدكتور طه حسين بخطه, بل وحكي عن الشيخ التنويري “حسان الفزاري”  في حياة الإمام “عبد الرازق” في صفحة 79 من كتاب آثار “مصطفي عبد الرازق” .

آثار مصطفى عبد الرازق

بؤرة ضوء  “أبو خطوة” في حياة الشيخ

لقد تشكَّل وجدان “مصطفي” علي مراحل, حياته بدأت بالأزهر وانتهت به.. وما بين الفترتين معارك وشخصيات مؤثرة في محتوي فكر الشيخ. يقول الدكتور “طه حسين” عميد الأدب العربي عن مولانا الشيخ “مصطفي عبد الرازق” شيخ الإسلام (ابن الباشا): “كان صادق اللهجة، عذب الحديث، لا يرفع صوته إلا بمقدار، وكان قليل الحركة، معتدل النشاط، يمتازمن بين رفاقه بهذا الوقارالهادى المطمئن الذى لا يتسم به الشباب، وإنَّما هوسمة الشيوخ ومن يجرى مجراهم، وكان جمَّ الأدب، موفور التواضع, ثم يشير “طه حسين” إلى شافعية الشيخ، ومن درس علم الفقه الشافعي؛ يعرف أنَّ مفتاح هذا الفقه هو فن علم الإقناع, وهو مذهب فلسفي ظاهر، “يُعمل العقل في النقل والمتون وفي شتي مناحي الحياة ولو كانت علوما وضعية” وهكذا سار “مصطفي عبد الرازق” من البداية نحو إعمال العقل؛ ولم يتوقف حتَّي حصل علي الدكتوراه في فقه الشافعي وهو العلم الذي درسه على يد شيخه “أبو خطوة”. ثم يصف طه حسين كيف أنَّ الشافعي فتح عقل الشيخ “مصطفي عبد الرازق” كي يؤسس المدرسة المصرية للفلسفة وينطقها كالكلمات الرقيقة في وضوح تأثيرها مثل الموسيقي علي الروح , ويكتب دراسة نقدية في موسيقي “عبده الحامولي” تثبت أنَّ الرجل درس علوم المقامات والفنون. وقد شبَّ الفتي في قصر حسن باشا يسمع روائع الموسيقي من الشيخ “المنيلاوي” وسي “عبده الحامولي”, فضلا عن وجود “جرامافون” في قصر حسن باشا وعليه موسيقي غربية وشرقية. فكان الباشا مولعا بحب الموسيقي خصوصا الموشحات والإنشاد.

ولعل وصف عميد الأدب العربى الدكتور “طه حسين” يضع الشيخ عبد الرازق في نادي التنويريين الأزهرين الكبار حتي قبل سفره في سنة ١٩١١، إلى باريس لاستكمال دراسته العليا، سافر حاملا –أيضا– تأثير الشيخ “محمد عبده”  وكواكب أزهرية كثيرة, لكن تأثير “محمد عبده” كان من ناحية حسن باشا والده الذي كان يأخذ كتب الإمام ووصاياه، ويضعها بين يديه, ما جعل “مصطفي” في البداية يظنُّ أنَّ الأمر به وصاية, لكن وجهة نظره تطورت بعد ذلك, وفي ذلك يقول: “كنتُ طالبا من صغار الطلاب، جاء الشيخ “محمد عبده” إلى الأزهر، وكان أساتذتنا –عفا الله عنهم– لا يفتئون يقدِّمون لنا الشيخ ويمثِّلونه خطرا داهما على الدين وأهله، فتتأثَّر بذلك عقولُنا الطفلة، وكنتُ أفِرُّ بديني من أن ألقى الأستاذ أو أستمع لدروسه، مع أنَّه صديق لوالدي, حضرتُ درسه مرةً لأشهد كيف تشبه وجوه الملحدين، وتشبه معها عقولهم وقلوبهم، فلما رأيت الرجل بالرواق العباسي وسمعتُه يفسِّر كتابَ الله، قلتُ في ذلك اليوم: اللهم إنْ كان هذا إلحادا فأنا أول الملحدين”, منذ ذلك الحين بدأ الطالب الأزهري “مصطفى عبد الرازق” يفتح نوافذ عقله، ويتطلَّع إلى آفاقٍ لم يتعوَّد أمثالُه من الطلبة الأزهريين أن يتطلَّعوا إليها؛ فقد أفاد من اتصاله بمحمد عبده، فأدرك أفكارا ثائرة في الدين والدنيا.

طه حسين
طه حسين

شهادة نجيب عن تذوق الشيخ للموسيقي والفن

بدأ “مصطفي عبد الرازق” ينشر مقالاته في مجلة “السفور” قبل عام1911، يكتب عن الفن والموسيقي والنساء والشعر والشعراء وكتب مقالا شهيرا حول البلاغة وجمال اللفظ والموسيقي والمعاني , وكتب في الدفاع عن شرف الوطن واستقلاله بوضوح شديد.

إذن دخل الشيخ “مصطفي” (عش التنويريين) ثم اشتبك وهاجم بعض الأصوات المحافظة في الأزهر, بل وصار أهم كاتب في مجلة “السفور” التي كانت تعلن بوضوح عن (العلمنة حتَّي في المجتمع) وتتبني الخط الليبرالي وتدعو إلى تحديث الفكر العربي والوقوف على الفنون والثقافة الغربية ومعرفة ينابيع الحداثة, وهناك في باريس كان يحضر حفلات الموسيقي والمسرح ومتاحف الفنون التشكيلية،  فقد كوَّن الشيخ وجهة نظر في الفن، وبقي أن يطرح رؤيته في العلن ويقدم قضايا التنوير فعلا،  فكتب المقال المهم عن النزاع  بين الثقافات في مصر، وبذلك سبق حتي الدكتور “طه حسين” في طرح قضية الثقافة قبله بسنوات.. وكتب عن التعليم وإصلاح أحوال الفلاحين، وطلب لهم العِزَّة والحرية والكرامة, كما جاء في كتاب “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”.

يرى “محفوظ” أنَّ علاقته بالشيخ مصطفى عبدالرازق تحتاج إلى وقفة، فالرجل لم يكن أستاذه في الفلسفة فقط، بل كان أستاذا له في النبل الإنساني، وخدمة كل محتاج.. فقد أسس الشيخ في وزارة الأوقاف (دار الرهونات) التي كانت تمنح الفقراء منحا مجانية وسلفا دون فوائد ومن المفارقات تولِّي نجيب محفوظ شئون هذه الدار، وهو سكرتير الباشا “مصطفي عبد الرازق” وزير الأوقاف وشهادة النجيب لها ألف معني، فالرجل (ديمقراطي اجتماعي) فيقول بالحرف، وقد تعلمت منه حب البسطاء والعطف عليهم وصبره الشديد في تحمل قضاء حوائج الناس (هل تخيلت سيدة تدخل وزارة الأوقاف ومعها جاموسة تريد رهنها  مقابل خمسة جنيهات،  وكيف كان الوزير يقابل السيدات الفقيرات بحنوٍ مدهشٍ، وكثيرا ما دفع كل مستحقات الوزارة عند الفقراء”.

بالطبع عندما يرصد “نجيب محفوظ” الروائي الفذ؛ التكوين النفسي والفكري لشخصية الشيخ “مصطفي عبد الرازق” فإنَّه يكون قد رصدها بدقة فقد عرفه عن قرب, وأحبه وهو مازال تلميذا في قسم الفلسفة.. والمفاجأة بحق هي قرار تعيين “نجيب محفوظ” في وزارة الأوقاف، وكان الوزير “مصطفي عبد الرازق” يظنُّ أنَّ “نجيب محفوظ” مسيحي.. ولم يعرف أنَّه مسلم إلا بعد توقيع قرار التعيين.

 يروي “نجيب”: “كان الشيخ مجنونا بحب الكتب الفنية؛ يجمعها كل يومٍ، ثم يسألني هل قرأت عن هذا المطرب؟ هل سمعت هذه الأسطوانة؟ لاأعرف كيف  كان ينظم وقته بين متابعة الفنون والكتابة وإدارة وزارة بحجم الأوقاف المصرية.. منه تعرفت علي صوت كوكب الشرق”.

“… كان الشيخ يتميز بسعة الصدر في كل شيء، لم يُرَ –في مرة واحدة– محتدا أو منفعلا، محبا للخير.. يسقط عني كل توتر الدنيا وضيقها إذا ما أتيت إليه “.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

“أُمُّ كلثوم” نعمة الدنيا

يشير “نجيب محفوظ”  كذلك إلا أنَّ الشيخ مصطفى كان من أوائل الذين اهتموا بموهبة “أمِّ كلثوم” حين جاءت إلى القاهرة مع أسرتها، وساعد في تعليمها مبادئ اللغة الفرنسية وبعض التقاليد الأرستقراطية التي كانت تجهلها، وساعدتها هذه العلاقة الأبوية على أن تقفز بصِلَاتها الاجتماعية خطوة مهمة في سبيل تأكيد حضورها في مصر, ففي بيته عرفت شوقي بك أمير الشعراء، ومحمد عبد الوهاب  والعقاد, فقد كان بيت آل “عبد الرازق” ملتقى الفنون, وفي كتاب “من آثار الشيخ مصطفى عبدالرازق” نص لمقال أفاض فيه الشيخ “مصطفى عبدالرازق” في تمجيد صوت أم كلثوم، نُشر في مجلة “السياسة الأسبوعية” في 18 ديسمبر 1925، ووصفها بـ”أميرة الغناء في وادي النيل”, وقال عنها: “فتاة معتدلة القوام لا يشتكي منها قصر ولا طول، ولا يشتكي منها غلظ فيها ولا نحول، تنظر بعينين فيهما شباب وذكاء، وفيهما نزعة الدعابة ودلال الحسناء، في وجه ليست تفاصيله كلها جميلة، لكن لجملته روعة الجمال, وقال بالحرف  “أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا”.. ويشير الشيخ الحصيف إلى الكنز المختبئ فى حنجرة الفتاة الريفية، وتشجيع والدها على أن يقطن وأسرته بجوار قصره في عابدين، وظلَّ يتردد على حفلاتها مشجعا ومعجبا بالصوت وحلاوته، وحين تعرَّضت “أمُّ كلثوم” لمحنةٍ كادت تطيح بها، إذ نشرت مجلة المسرح عام 1926 –بتحريض رخيص من منيرة المهدية– خبرا كاذبا فحواه أنَّ “أمَّ كلثوم” رفعت دعوى قضائية على شاب من قريتها غرربها ورفض أن يتزوجها، وحين اختلقت مجلة المسرح هذه الشائعة؛ تصدى لها الشيخ بقوة وكتب عدة مقالات فى جريدة “السياسة” دفاعا عن المطربة الناشئة، بعد أن فتح أبواب قصره لها ولأسرتها وشملهم برعايته وحنانه، كما جاء فى كتاب “أم كلثوم السيرة” للناقد والمؤرخ اللبناني “إلياس سحاب”.

أم كلثوم
أم كلثوم

هكذا يبدع أستاذ الفلسفة، الوزير، الفنان الذي أحَبَّ إبداع المرأة،, فيلسوف محب للفن، ولم يجد أى تناقض بين الإسلام الداعى إلى التعامل بالتى هى أحسن، وبين الفنون التى تهذب الذوق وترقق المشاعر، كما جاء بكتابه الأول “مذكرات مسافر” وكتب عن مشاهداته فى باريس وانطباعاته عنها، صفحات من سفر الحياة الذي يثبت به نظرة منفتحة على الآخر محتفية بالاختلاف، فكان أبرز كواكب عصره وأقرانه الأزهريين، فليس في يومياته هذه أي تحيّزأو تحزب أو مغالاة في الانتماء للذات، وإنَّما لقاء بمختلف الجنسيات والأديان، وموقف يدل على اعتدال يضيء مواقف المغايرين له, في باريس تعلَّم الفرنسية، وحضر دروس “دوركهايم” في الاجتماع، ودرس الآداب وتاريخها. وفي مدينة ليون حضر دروس “جوبلو” في تاريخ الفلسفة, وتولَّى تدريس اللغة العربية في كلية ليون، واشتغل مع “إدوارد لامبير” في تدريس أصول الشريعة الإسلامية, وبعد العودة لمصر كانت لحظة الاختيار والاختبار, فيقرر الشيخ “مصطفى” أن يجعل الوسطية والاستنارة، قضية علي أرض الواقع؛  فيتبني ويشارك بماله وبما له من مكانة بين قمم عصره كعالم أزهري جليل في حملة بناء تمثال نهضة مصر, كما أنَّه كان صديقا لرائد النحت المصري “محمود مختار” ولم يخرج بفتوى تحريم التماثيل كما شهد بذلك صديق عمره “محمود مختار” فكان ضيفا دائما علي صالونه وداره التي تحتوي عددا كبيرا من اللوحات الفنية.

 كانت حياة الشيخ نقطة ضعف في الهجوم ؛ بوصفه من “عِلية” القوم, فلم يكن من الفقراء الذين يتلحقون بالأزهربحثا عن بعض طعام وعلم, بل كان دخوله للجامع كي يدرس التراث بعمق ثم ينطلق  نحو التنوير والحداثة فعلا, ولم يكن غريبا علي الشيخ أن يحقق كل برنامج الإصلاح الذي عرفه وناقشه مع شيخه “محمد عبده” عندما تولَّى المشيخة الازهرية, وكان “محمد عبده” يعلم علم اليقين أنَّ له في الأزهر تلاميذ نجباء قد ورثوا دعوته, ولقد عاش “مصطفى عبد الرازق” في الأزهر فترةً عصيبةً، قبل عودة الإمام “محمد عبده” من منفاه وتولَّى منصبَ الإفتاء، وقاد حركة الإصلاح في الأزهر.

ويذكر “طه حسين” ما قاله الشيخ “محمد عبده” عن “مصطفي عبد الرازق” إذ قال: “كانت حياته ظاهرة اجتماعية فكرية أثارَتْ حوله غبارا كثيرا، ولكن هذا الغبار لم يعلق بثيابه الرشيقة النظيفة، ولقد كانت أفكاره ومشاعره وعقيدته وأخلاقه مثل ثيابه رشيقة نظيفة, ثم وصف الشيخ “محمد عبده” تلميذه النجيب بهذه الأبيات فقال كما جاء بكتاب “الآثار” لـ”مصطفي عبد الرازق”

أبيات محمد عبده

الإمام محمد عبده
الإمام محمد عبده

الشيخ  الأنيق عاشق الجمال دقيق الوصف

كان “مصطفى عبد الرازق” رفيقا، أنيقا، متسقا مع نفسه، لا يناقض مسلكه مبدأه.. ومع ذلك كان محبا للحياة، يري أنَّها خير وجمال, وهذه الحياة العريضة المليئة بالعلم والمعرفة , ولعله العالم الأزهري الوحيد الذي نادى بحرية المرأة، ودعا إلى رفع الحجاب عن وجهها وعقلها، وكانت دعوته هذه في جريدة “السفور”، وظلت  باريس ملهمة له ولغيره في ذلك الزمن، فكتب عنها من باب الفنون الجميلة يقول: “باريس موجود حي، تنبعث الحياة من أرضه وسمائه ورجاله ونسائه، باريس عظيمة بكل ما تحمل هذه العبارة من معاني الحياة، والجلال، والجمال، والذوق، والفكر، والانسجام والخلود”. وقال يصف بعض أيامه في باريس: “زرت الحي اللاتيني، مجمع الكوليج دي فرانس والسوربون والبانتيون، حي العلماء والطلاب، وحي الشباب، رعى الله الشباب, طوَّفت حول الجامعة، فإذا طلاب وطالبات، برغم العطلة يغدون ويروحون، تفيض محافظهم بالكتب والأوراق، كما تفيض وجوههم الفتية بالنشاط والبِشْر، وإنْ عَلَتْها ملامحُ الجهد والتفكير.. هم من ألوانٍ مختلفة وبلدان شتَّى، وأكثر الطلاب الأجانب جدا وعملا وانتفاعا بالمقام في أوروبا؛ هم اليابانيون، فيما سمعتُ، وأكثرهم ترفا وانصرافا إلى اللعب وتضييعا للدرس؛ هم الرومانيون.

أمَّا المصريون فليسوا من خير الطلاب ولا من شرهم، لكنَّهم ممتازون بالتأنُّق والرشاقة وحسن البزة, ولا يبدو على مُحَيَّاهم أثرٌ للشحوب؛ فيقول قائلون: إنَّهم يرفقون بأنفسهم في الدرس رفقا يحفظ عليهم بهجة الراحة. ويقول قائلون: إنَّ سُمرة أديمهم تخدع الناظرَ عن سمات الجد والنَّصَب، وآثار السهر الطويل في المذاكرة والتحصيل, وكذلك الشأن في طلابنا في مصر نفسها، وكلا التأويلين محتملٌ في الجميع, ختمت زيارة الحي اللاتيني بحديقة لكسمبورج، وهي روضة ذلك الحي، فيها جلاله وعليها طابعه؛ الأشجار العتيقة باسقة، فقد اسودت جذوعها، واخضرت أعاليها خضرة مشوبة باصفرار، وانشقَّتْ بين صفوفها مسالك تظللها الأغصان المتشابكة، كأنَّك بينها في سحرٍ يتنفس صاحبه في أعقاب ليل، وكأنَّك في تجلِّي الأسحار، وفي هدأتها, وترى التماثيل البديعة في شعرها الصامت، منسجمة في ذلك الإطار البديع، وبين حنايا هذه الظلال تجد فنانا عاكفا على تصويره، ومفكِّرا مستغرقا في تفكيره، وشاعرا يستنزل الوحي من سماء الشعر، وعاشقا يبثُّ غرامه، ثم تخرج إلى ساحة تبتسم الأنوار فيها والزهر، وتنحدر على درج إلى البركة ذات النافورة، مرتع الأطفال اللاعبين بمراكبهم الصغيرة في أمواجها، ومن حولها دكك متفرقة لمَن ليسوا أطفالا.

ليسَتْ باريس صنع شعب من الشعوب، ولا عمل عصر من العصور، ولكنَّها جِمَاع ما استصفاه الدهر من نفائس المدنيات. باريس عاصمة الدنيا، ولو أنَّ للآخِرة عاصمةً لَكانَتْ باريس، وهل غير باريس للحور والولدان، والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين.

مصطفى عبد الرازق

مشهد أخير في حياة الشيخ المستنير

في عام ١٩٣٨ تقلَّدَ منصبَ وزير الأوقاف، فكان أول وزير يرتدي العمامة, وفي عام ١٩٤٥ أصبح شيخا للإسلام وقد فاجأه النبأ، وأحسَّ أن العبء أضخم من أن يتحمله اتجاهه الفكري وسلوكه الذهني, وحاوَلَ أن يرفض المنصب، وقد بقي فيه عاما واحدا.

في عام ١٩٤٦ قامت في الأزهر ثورة جامحة، بسبب تخطِّي الحكومة لخريجي الأزهر في بعض المناصب التي كانت تخصِّصها لهم، فأصبح ينازعهم فيها خريجو كلية الآداب وكلية دار العلوم, وتهيَّج الطَّلَبَة على شيخ الأزهر الفنان الرقيق الخجول، وسمع بأذنَيْه أصواتا تهتف بسقوطه, واتجه إلى بيته، وبعد الظهر ارتدى ملابسه، واستعدَّ للذهاب إلى مكتبه في الأزهر، وقبل أن تجيئه السيارة ليستقلها كان الموت قد وصل إليه، فمات بالسكتة القلبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock