في مايو 1939، عندما كانت أوروبا تتجه نحو الحرب، اكتشف الحفار وعالم الآثار الهاوي “بازل براون” الذي تم استئجاره لحفر التلال الضخمة في ممتلكات “إديث بريتي” في “سوفولك” هيكلا عملاقا لسفينة يبلغ ارتفاعها 88 قدما تعود إلى العصر الأنجلو ساكسوني وباستمرار البحث تم العثور على عملات ذهبية وبعض الأدوات. وكانت هذه هي المرحلة الأولى لما وصفته “سو برنينج” أمينة المتحف البريطاني بواحد من أهم الاكتشافات الأثرية في كل العصور بالنسبة لبريطانيا.
كانت المرحلة التالية هي اكتشاف غرفة الدفن داخل السفينة المليئة بالقطع الأثرية المحفوظة في حالة ممتازة والمصنوعة من الذهب والعقيق. وقد تبرعت السيدة “إديث بريتي” بالقطع الأثرية للمتحف البريطاني، حيث توجد إلى يومنا هذا. وتكمن القيمة العلمية للكشف الأثري في أنه غيَّر ما كان مستقرا لدى علماء الآثار عن همجية هذا الشعب وبربريته وعدم تمتعه بأي درجة من درجات التحضر؛ فجاء هذا الكشف ليدحض كل ذلك مثبتا رقي وتحضر الأنجلو سكسون الذين كانت لهم فنونهم وآدابهم وطقوسهم ومعاملاتهم المادية وعملاتهم المصنوعة بدقة ومهارة ما أزال عن هذه العصور صفة المظلمة التي ظلت لصيقة بها لفترة ليست بالقصيرة.
هذه الحادثة الفريدة سجلها الكاتب “جون برستون” في رواية بديعة قام كاتب السيناريو الموهوب “مويرا بوفين” بالعمل عليها بطلب من المخرج “سيمون ستون” الذي استطاع بتوفيق كبير أن يصنع في النهاية فيلما بالغ الروعة والجمال مستحضرا باقتدار أجواء نهاية عقد الثلاثينات من القرن الماضي حين كان العالم يستعد بغباء شديد للقفز في أتون حرب عالمية ثانية.
بنعومة شديدة سيحملنا “ستون” إلى حقول “سوفولك” الواسعة بطبيعتها الخلابة، حيث تعيش “إديث بريتي” المرأة الشابة الثرية الأرملة التي تعاني من حالة صحية متردية، يفاقمها خوفها على طفلها “روبرت” وماذا سيحدث له بعد رحيلها المحتم.. لكنها تهرب من ذلك بإحياء شغفها القديم بالحفريات، حيث كانت على مشارف الالتحاق بجامعة لندن لدراسة علم الآثار، لكن مرض والدها ألغى خططها العلمية، كما جعلها ترجئ أمر زواجها، فلم تتزوج إلا بعد وفاة أبيها عقب مرض دام لثلاث عشرة سنة.. لكنها ما تلبث أن تصبح أرملة تعذبها مشاعر الفقد والحرمان بالإضافة إلى تلف صمامات القلب بتأثير الإصابة بحمى روماتيزمية في الطفولة.
في أجواء تحمل نذر الحرب الوشيكة تحاول “إديث” صنع وشائج جديدة أكثر قوة مع الحياة بالانهماك في الكشوف الأثرية بتلك التلال التي تنتشر في أرضها-سنعرف بعد ذلك أنها وزوجها اشتريا الأرض خصيصا لذلك- ويقع اختيارها على “بازل براون” عالم الآثار الهاوي المتبحر في الدراسات الأركيولوجية؛ لكنه لا يحظى بالتقدير المستحق من علماء المؤسسة الرسمية لانصرافه عن الانخراط في تعليم نظامي وعدم حصوله على الشهادات والدرجات العلمية؛ ليبدو في تواضعه وهيئته أقرب إلى عمال التنقيب، لكنه دقيق واسع الاطلاع له مؤلف في الفلك للهواة وقد ورث المهنة أبا عن جد؛ لذلك نرى حرص رئيس متحف “إيبسويتش” على استخدامه في التنقيب لكن مقابل أجر بخس، مع الاستمرار في الحديث عن أن “براون” صعب المراس وغير تقليدي وغير مدرب طوال الوقت.
في لقائهما الأول يخبر “براون” السيدة “بريتي” أن تلك التلال كانت مسرحا لعمليات تنقيب عديدة، وأن الجدوى من عمل حفريات بها الآن تكاد تكون ضعيفة.. لكن السيدة تصر على بدء العمل يدفعها حدس قوي بوجود شيء ما تحت هذه الأرض؛ فتوافق على الأجر الذي طلبه وإن كان يزيد عما يتقاضاه من مدير “إيبسويتش” فيبدأ “بازل” العمل.
ورغم تباين عالمي “براون” و”بريتي” إلا أنهما يتقاربان بفعل شغفهما بالشيء نفسه، ورغبة كل منهما في التشبث بالحياة بطريقة ما.. ليبدو فعل التنقيب نفسه بمثابة وسيلة لإعادة إنتاج الحيوات السالفة وهو ما أعلنه “براون” بقوله: “نحن لا نحفر لنبحث عن أموات، بل ننقب لنكتشف حياة”.
تتبلور هذه النظرة العميقة في علاقة “براون” بالطفل “روبرت” الذي ينظر إليه باعتباره أبا بديلا ساقته الأقدار إليه.. ويلتقيان على هواية مراقبة النجوم مع وعد بأن يري الصغير الكون من خلال تلسكوب “براون” الخاص، ليعود العجوز إلى العمل مجددا بعد رحيله عنه عقب تهميش دوره من قبل رئيس المتحف البريطاني الذي خُوِّل بشكل رسمي لإدارة العمل في الموقع بعد الكشف عن السفينة، وليكون إلى جوار الصبي في لحظة انهياره معنويا بعد معرفته بحقيقة مرض والدته.
بعد الكشف عن العملات والمشغولات الذهبية تتصاعد الأحداث مع محاولة رئيس المتحف البريطاني مصادرة الكنز لكن السيدة “بريتي” ترفض وتلجأ للقضاء الذي يحكم لها بالأحقية.. لكنها في النهاية تقرر إهداء الكنز بكامله للمتحف.
علاقات إنسانية
على هامش عمليات البحث والتنقيب والصراع الدائر حول الكشف الأثري بين رئيس متحف “إيبسويتش” ورئيس المتحف البريطاني، نكتشف ولع “روري” ابن عم “إديث” بعالمة الآثار الشابة “بيغي” التي تعاني من زواج فاشل بزميلها “ستيوارت” .. الذي يتحاشى الاقتراب منها .. لكن “بيغي” تتحرر من هذا الارتباط بعد أن تكتشف أن الصور التي التقطها “روري” كانت معظمها لها، ما جعله يعود إليها بعد تجنيده وقبل أن يسلم نفسه لوحدته الجوية.
من المثير للاهتمام أيضا تلك العلاقة التي تجمع بين “بازل براون” وزوجته “ماي” إنها شغوفة به إلى حد الوله.. تكاتبه يوميا رغم علمها أنه لا يهتم برسائلها.. تأتنس بقراءة كتبه في غيابه.. تتفهم انجذابه على نحو ما للسيدة “بريتي” وتناقشه في وجوب الحذر من أن يقع تحت تأثير جمالها، لكنها تتعمد الخلط في الحديث بينها والسفينة الأنجلو سكسونية المكتشفة.. متحلية بقدر كبير من الحكمة تستطيع معه دائما أن ترده إلى صوابه، وتذكره بدوره العظيم في ربط الماضي والحاضر بالمستقبل من أجل أن تدرك الأجيال القادمة علاقتها بالأسلاف وما يترتب على ذلك من مسئوليات وتبعات.
في أحيان كثيرة كان تركيز العمل على العلاقات الإنسانية وما تنطوي عليه من انفعالات وصراعات داخلية مرهقة بل وشديدة الإيلام- يتعاظم بشدة ما يمكن معه للمشاهد أن يشعر أن قصة الكشف الأثري تبدو هامشية أو رمزية، أمام هذا الإفراط في الحديث عن الخلود والفناء واستمرار الحياة في صور متعددة بعد الانتقال إلى العالم الآخر، وما يسهل رصده من إلحاح في بعض جمل الحوار على تأكيد هذا المعنى الذي يقوله صراحة “بازل” لـ “إديث” في لحظة انهيارها أثناء العودة من المحكمة من عدم اعتقاده أن الموت هو النهاية فـ ” منذ أول بصمة يد بشرية على جدران كهف ونحن جزء من شيء مستمر؛ لذا فنحن لا نموت حقا”.
من خلال قصة الكشف الأثري والبحث الدؤوب عن الأمل يوجه لنا المخرج الأسترالي “سيمون ستون” الدعوة لأن يبدأ كل منا في اكتشاف كنزه الداخلي بإعادة تقييم العلاقات الموجودة في حياته، فلربما اكتشف أحدنا أنه يفوّت دون قصد فرصة ذهبية للسعادة بإصراره على السير في الاتجاه المعاكس دون مبررات كافية كما في قصة الزوجين “بيغي” و”ستيوارت”.
وتبدو أحداث بدايات الحرب في الخلفية ذات ثقل يبعث على الحزن والقلق، مع إصرار “روري” على الذهاب للحرب دون مبررات كافية، فهو شاب يهوى التصوير ويرتاد السينما ويعجب بالعالمة الشابة بيغي ، ولديه واجبات أسرية عليه أن يقوم بها تجاه ابنة عمه “إديث” وصغيرها.. فلم يبد مقنعا في إقدامه على التطوع في القوات الجوية البريطانية ذات السمعة السيئة آنذاك بسبب طائراتها المتهالكة، وهو ما ذكرته السيدة “بريتي” نقلا عن زوجها العقيد الراحل الذي قال لها ذات يوم: “إذا أردت أن تفقدي ابنك فأرسليه إلى القوات الجوية”. تعليقا على سقوط طائرة يقودها طيار شاب في النهر ما اسفر عن وفاته، رغم محاولة “روري” لإنقاذه.. فظهر كما لو كان يحاول إنقاذ أفكاره الطائشة من الغرق دون جدوى.
لم يكن الأداء الرائع بالغ العمق والتأثير للممثل رالف فينيس لشخصية “بازل براون” تغريدا خارج السرب، إذا نظرنا تحديدا لأداء “ماري موليجان” في دور “إديث براون” التي صنعت بأدائها السلس في المشاهد التي جمعتهما حالة من التناغم الفني بلغ ذروته في أكثر من مشهد، كما عبَّرت عن معاناتها المرضية دون افتعال بطريقة متوازنة. وكذلك القديرة “مونيكا دولان” في دور الزوجة “ماي براون” بأدائها الواثق المتفهم لطبيعة شخصية الزوج.
في النهاية من الإنصاف أن نعتبر فيلم “الحفرة” من أفضل الأفلام التي أنتجتها “نتفيلكس” في الآونة الأخيرة، إن لم يكن أفضلها.. كما أنه من الممكن اعتباره من بشائر تعافي السينما العالمية من آثار “كورونا” ذلك الوباء الذي قلب حياتنا رأسا على عقب، ومازال يرسل موجاته الواحدة تلو الأخرى دون دلائل مؤكدة على نهايته.