رؤى

أرض الميعاد والشعب المختار.. والوعد المكذوب!

ركام من الأكاذيب التي لا تصمد أمام البحث والتقصي الدقيق في المصادر الموثوقة – هو المادة الخام التي صُنع منها الكيان الصهيوني على أيدي أناس يحسنون استثمار الأكاذيب ببراعة شديدة، وتسويقها على نحو مذهل؛ ليجنوا من ورائها الأرباح.. مع البقاء طوال الوقت في مواطن التعاطف والإشفاق.. وهي مواطن تنبت التعويضات والهبات والمنح بوفرةٍ، كما ينبت الماء البقل!

أشهر تلك الأكاذيب وأكثرها انتشارا أكذوبة أرض الميعاد أو الأرض الموعودة التي وعد الرب بها شعبه المختار.. استنادا إلى ما جاء في سفر التكوين.. وبمراجعة النص تجد أن الوعد كان لنسل إبراهيم جميعا ومنهم العرب أبناء إسماعيل، لكن الأكذوبة حوّلت الوعد إلى وعد خاص باليهود دون غيرهم.

والثابت تاريخيا أن اليهود لم يكن لهم أي وجود أو أثر بالأرض المقدسة منذ العام الميلادي السبعين؛ كما انمحى من الذاكرة أيضا كل ما يتعلق بالوعد التاريخي إلى نهاية القرن التاسع عشر، حتى عندما اختلقت فكرة القومية اليهودية، وهي منتج من الممكن جدا أن يكون سبب ظهوره وجود بعض النزعات القومية الأوروبية التي اتسمت بالعنصرية – لم تكن أرض فلسطين ضمن الأماكن التي طرحت أولا لإقامة وطن قومي لليهود، وقد ظهر أول مشروع استيطاني عام1625، وكان المكان “كوراساو” جنوب الكاريبي، ثم محاولة أخرى لإقامة جيب استيطاني في “سورينام” انتهى أمره على يد السكان الأصليين عام 1659، ثم منحت شركة الهند الغربية (الفرنسية) تصريحا لديفيد ناسي لتأسيس مستعمرة يهودية في كايين (جويانا) الفرنسية.

الحاخام إلمر بيرجر

وتوالت المشروعات الاستيطانية لليهود من أوكرانيا إلى الولايات المتحدة (جبل أرارات) وكان ذلك عام1826، وقد ظهرت “مشروعات صهيونية إقليمية كثيرة مثل مشروع العريش وقبرص ومدين وأنجولا وموزمبيق والكونغو والأحساء والأرجنتين، ولكن أهمها كان مشروع شرق أفريقيا الذي كان يهدف إلى إنشاء محمية إنجليزية يهودية في شرق أفريقيا كان من المفترض أن تكون تابعة تماما، على مستوى الأيديولوجية والديباجة، اسما وفعلا، للإمبراطورية البريطانية”.

لم تكن كل هذه المشاريع الاستيطانية المتعاقبة مغرية للأغلبية اليهودية التي اندمجت في مجتمعاتها إلى حد كبير، ومارست الأنشطة التجارية والربوية؛ بل وتسببت في أزمات كبيرة.. كما حدث في روسيا التي كانت تضم وفق عدد من الإحصاءات الرسمية أجريت عام 1880، أربعة ملايين وربع المليون يهودي من أصل سبعة ملايين ونصف المليون يهودي في العالم كله، وفي هذا العام بلغ عدد اليهود في فلسطين نحو عشرين ألفا فقط.

في العام 1898، دعا الصحفي النمساوي الغنوصي ثيودور هرتزل إلى عقد أول مؤتمر للصهيونية في بازل بسويسرا، ولم يطرح اسم فلسطين، مكانا للإنشاء الوطن القومي لليهود بشكل صريح سوى في المؤتمر السابع المنعقد عام 1905.

وبالرغم من ذلك فإن الأصوات الداعية إلى عدم العودة إلى فلسطين؛ كانت ما زالت قوية ومنها طائفة اليهود الأرثوذكس الذين كانوا يعدون العودة إلى فلسطين من قبيل الهرطقة، حتى هرتزل نفسه كان من المتحمسين للمشروع البريطاني الذي اقترح شرق إفريقيا – تحديدا كينيا- لإقامة مستعمرة يهودية باسم فلسطين الجديدة.

عبد الوهاب المسيري
عبد الوهاب المسيري

كذلك اعتبرت العودة إلى فلسطين لدى كثيرين من اليهود إثما مبينا واعتداءً صارخا على الغير، مما يزيد الفجوة بين الرب وشعبه، كما ذهب الحاخام الأمريكي إلمر بيرجر إلى أن “دولة إسرائيل الحالية ليس لها أي حق في ادِّعاء تحقيق النية الإلهية” بزعم الانتصار لإله صهيون؛ لأن ما تقوم به إسرائيل هو “محض غوغائية التراب والدم”.

وكان الحاخام إلمر بيرجر قد عارض بشجاعة منقطعة النظير، قيام الدولة اليهودية في فلسطين، كما أوضح أن الصهاينة استغلوا قلق اليهود الأمريكيين مما حدث في أوروبا على يد هتلر للوصول إلى أغراضهم. وكان يرى أن الصهيونية تهدف إلى قلب الدين إلى مبدأ سياسي، كما كان من أوائل من نددوا بالعنصرية الصهيونية وهو من صاغ مصطلح «إزالة الصبغة الصهيونية عن إسرائيل» آملا في إقامة دولة تضم اليهود والمسلمين والمسيحيين تكون نموذجا للتعايش.

“وفي عام 1964 أحرز إلمر بيرجر أعظم انتصاراته في إطار صراعه ضد الصهيونية، وذلك عندما حصل بالاشتراك مع البروفسور ميليسون على رفض رسمي من وزارة الخارجية الأمريكية لمقولة “القومية اليهودية” وذلك في إطار خطاب من فيلبس تالبوت، ينص على أن هذا المفهوم ليست له قيمة قانونية في نطاق نصوص القانون الدولي”.

ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته أن مصطلح الوطن القومي لليهود مصطلح ليست له مقدرة تفسيرية عالية، إذ أن كثيرا من الوقائع التاريخية لا تسانده. ومن الثابت تاريخيا أن عدد اليهود خارج فلسطين فاق عددهم داخلها قبل هدم الهيكل. كما أن من الثابت أن أكبر الهـجرات في تواريخ الجماعـات اليهودية، والتي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، اتجهت إلى الولايات المتحدة “ولو كانت فلسطين وطن اليهود القومي لاتجهوا إليها”. وقد بلغت نسبتهم نحو 80% من جملة المهاجرين اليهود، بل لم يَعُد يُشار في الأدبيات الصهيونية إلى الولايات المتحدة باعتبارها منفى وإنما أصبح يُشار إليها باعتبارها وطنا قوميا آخر لليهود، وباعتبارها أيضا “البلد الذهبي” الذي يحقِّق تطلعات المهاجرين المادية.

 

المسجد الأقصى
المسجد الأقصى من الأعلى

وبالقطع فإن هذا التعدد في الأوطان القومية ينسف الأكذوبة من أساسها؛ لكن اليهود الأمريكيين تحايلوا على الأمر –كعادتهم- واعتبروا أنفسهم مهاجرين من مسقط رأسهم إسرائيل، فهم الأمريكيون اليهود على غرار الأمريكيين العرب أو الأمريكيين الإيرلنديين وهذا يعني “أن أسطورة الذات الجديدة تصفي الأسطورة الصهيونية، إذ أن مسقط الرأس (إسرائيل) هو البلد الذي يهاجر اليهودي منه لا إليه” بحسب ما يصف الدكتور المسيري، برغم أن ذلك يتعارض مع الثوابت التوراتية التي يوردها المسيري إذ يقول: “والواقع أن تعاليم التوراة، كتاب اليهود المقدَّس، لا يمكن أن تُنفَّذ كاملة إلا في الأرض المقدَّسة. بل وكما جاء في أحد أسفار التلمود وفي أحد تصريحات بن جوريون، فإن السُكْنَى في الأرض بمنزلة الإيمان: “لأن من يعش داخل أرض يسرائيل يمكن اعتباره مؤمنا، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له”.

بل إن فكرة الأرض تتخطى فكرة الثواب والعقاب الأخلاقية، فقـد جـاء أن من يعش خارج أرض الميعاد كمن يعبد الأصنام، وجاء أيضا أن من يسر أربعة أذرع في (إرتس يسرائيل) يعش لا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعـش في (إرتـس يسـرائيل) يطهر من الذنوب؛ بل إن حديث من يسكنون في (إرتس يسـرائيل) تـوراة في حد ذاته. وقد جاء في سفر أشعياء (33/24) أنه “لا يقول ساكـن في الأرض(أي أرض إسرائيل) أنا مَرضْت. الشعب الساكن فيها مغفور الاثم”.

عندما نرى أن فكرة أرض الميعاد ووعد الرب لشعبه المختار والقداسة الحلولية للأرض التي اختارها الله لشعبه ومنحها له كمكافأة على تاريخ طويل من العصيان والأفعال المخزية والجرائم التي لا تسقط بالتقادم- محل اختلاف وخلاف معمق بين طوائف اليهود، في هذه الحالة علينا أن نوقن بأن الأمر كله محض افتراء، وأن هذا الادعاء ما كان ليقوم إلا بمساندة غير مسبوقة من القوى الأوروبية، التي رأت في المشروع الصهيوني سبيلا لتحقيق عدة أهداف بالغة الأهمية: أهمها أن تتخلص أوروبا من اليهود وما يحدثونه من فتن واضطرابات وما يحيكونه من حيل ومؤامرات، كما أن وجودهم في قلب العالم العربي يشكل رأس حربة للغرب يمكن استخدامها في أي وقت بدلا من تحريك الجيوش، وما يترتب على ذلك من نفقات ومعارضات شعبية، كما أن فكرة قيام مملكة للرب في فلسطين هي فكرة تلقي رواجا لدى العديد من الفرق والطوائف المسيحية خاصة في أمريكا، وهذه الطوائف تنتظر عودة المسيح المخلص في نهاية العالم كما هو معروف.

وعد الرب إذن لم يعد قائما، وهو كوعد بلفور لم يكن مستحقا أبدا فلقد سكن العرب هذه الأرض قبل التوراة والأنبياء بزمن بعيد، كما أن مملكة داود وسليمان لم يطل بقاؤها لأكثر من سبعين عاما، فأي وعد وأي حق هذا الذي يدعون!

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock