أثار تحقيق استقصائي في صورة فيلم وثائقي أنتجته هيئة الاذاعة البريطانية أواخر العام الماضي وحصل علي جوائز دولية مرموقة حالة من الجدل في الرأي العام العربي والإسلامي تجاه قضية المدارس الدينية، حيث رصد التحقيق الاستقصائي بالأدلة القاطعة عددا كبيرا من التجاوزات والانتهاكات بحق طلاب من الذين يدرسون في المدارس الدينية في السودان “الخلاوي”، حيث تنوعت تلك الانتهاكات بين اعتداءات بدنية وجنسية عنيفة، كما وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الحبس لفترات طويلة في غرف معزولة أشبه بالحبس الانفرادي.
نهج متطرف
بالطبع لا تمارس كل المدارس الدينية في العالم الإسلامي الانتهاكات التي يشير مقالنا إليها، كما أنه كان للمدارس الدينية في نفوس الشعوب المسلمة منزلة كبيرة منذ نشأتها، نظرا لارتباطها بتعليم القرآن والعلوم الشرعية، في ظل غياب كبير للتعليم المؤسسي المعروف الآن، كما أنها تمثل نموذجا تقليديا للمدارس التي تتسم بشيء من الحرية وعدم الإلزامية، والتي تختلف عن هيئة وعمل المدارس التعليمية النظامية المعروفة بمراحلها المختلفة.
لكن مع سيطرة الحركات المتطرفة والمتشددة علي العديد من هذه المدارس في اماكن مختلفة من العالم الاسلامي اهتزت تلك المكانة بشكل ملحوظ، ولم تعد كما كانت في السابق مقصدا أساسيا لتعليم صغار الطلاب والأطفال القرآن وعلوم الدين، نظرا لانتشار العديد من التجاوزات بها، مما استدعى بعض الدول للتدخل وضبط نشاطاتها بشكل يضمن عدم حدوث أي تجاوزات مرفوضة.
وكانت اقصي أساليب العقاب في تلك المدارس قديما بعض الأساليب البدائية كـ”الفلكة” (قطعة خشبية طويلة تربط بها قدما المذنب عاريتين وترفعان لأعلى بواسطة فردين آخرين، ثم يضرب على قدميه بالعصي كنوع من العقاب حتى لا يكرر خطأه مرة ثانية) . ولكن مع سيطرة المتشددين علي عدد لايستهان به من هذه المدارس وصل الامر إلى الجلد والتكبيل بقيود حديدية، وهو أمر يشبه في هيئته أعمال التعذيب في العبودية القديمة التي نهى عنها دين الإسلام.
لم يقف الأمر عند هذا الحد من الخطورة، بل تعدى ذلك إلى انتهاج بعض المدارس نهجا دينيا متطرفا، يحث تلاميذها على الجهاد العنيف والقتل وازدراء الآخر، وأصبحت تلك المدارس المشبوهة معقلا أساسيا لتفريخ قيادات الإرهاب والتطرف؛ ومصدرًا لتوريد المسلحين والمقاتلين، عبر نشر الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة. وقد شوهد الكثير من تلك النماذج في باكستان وأفغانستان حيث تبث الجماعات الإرهابية المتطرفة كتنظيمي القاعدة وطالبان أفكارهما الجهادية في نفوس الكثيرين من صغار التلاميذ الذين يدرسون في المدارس الدينية التي تخضع لسيطرتهما.
كان من أبرز السياسيين الباكستانيين الذين تنبأوا بخطورة تلك المدارس على مستقبل وأمن البلاد لما تقدمه من محتوى متطرف، زعيمة المعارضة ورئيسة وزراء باكستان سابقا بنظير بوتو (1953-2007)، حيث صرحت قبل اغتيالها بأيام بأن الرئيس برويز مشرف لم يفعل شيئا لاصلاح المدارس الدينية، وأكدت فى الوقت نفسه على احترامها للمدارس الدينية الحقيقية، وقالت أن هناك مدارس دينية سياسية فى باكستان تعلم طلابها كيف يصنعون القنابل ويستعملون البنادق ويقتلون النساء والأطفال وكبار السن. وأضافت أنهم هم الذين طلبوا من الأطفال حمل القنابل فى عيد الأضحى وقاموا بالهجوم الانتحاري لقتل وزير الداخلية السابق ووقع 150 ما بين قتيل وجريح.
و سرعان ما ثبتت صحة آراء بوتو، وتلقت الرد سريعا في 27 ديسمبر 2007، حينما فجر مراهق ينتمي لحركة طالبان لم يتجاوز عمره 15 عاما نفسه وسط مؤتمر جماهيري بين مؤيديها، وبعد إطلاق للنار من أحد الإرهابيين المتواجدين في المؤتمر عليها، مما أدى إلى مقتلها على الفور، ولم يغير كلامها من الواقع شيئا واستمرت المدارس الدينية المتطرفة في باكستان كما هي إلى وقتنا هذا.
وبالانتقال إلى أفريقيا، السنغال ونيجيريا مثلا، نجد أن إشكالية المدارس الدينية لا تقل مآساة عن نظيرتها في دولتي أفغانستان وباكستان، حيث سجلت منظمات حقوقية دولية عددا كبيرا من التجاوزات الحقوقية بشأن الطلاب الذين يدرسون في المدارس الدينية هناك، حيث يتعرض الأطفال داخل تلك المدارس إلى أسوأ أنواع الاستغلال، حيث يُجبرهم المدرسون هناك على التسول في الشوارع. وفي حالة عدم تمكنهم من جمع المال الكافي، يتعرضون في أغلب الأحيان للتعنيف الجسدي، علاوة على تنوع أساليب المعاقبة والتنكيل التي يواجهونها بحجة سوء السلوك أو عدم الالتزام بما يدرسونه من مقررات دينية، مما دفع بعضا من ذوي الطلاب الذين نالوا قسطا من التعذيب والإذلال هناك إلى تسميتها بـ”بيت الرعب”.
وكر طالبان
وبالنظر إلى عالمنا العربي، نجد أن الظاهرة منتشرة بكثرة في بلدان عدة، كـ مصر وبلدان الخليج وشمال أفريقيا.. وغيرها من دولنا العربية. ومن النماذج الإسلاموية الأصولية الحية التي نشأت على تلك المدارس “حركة النهضة” التونسية، حيث اعتمدت في بدايتها على ما يسمى بـ”جمعية المحافظة على القرآن الكريم”، وانتشرت مقراتها في أنحاء متفرقة من الدولة التونسية لتكوين الجماعة الإسلامية التي سُميت فيما بعد بالاتجاه الإسلامي ثم حزب حركة النهضة، مما دفع عددا من المفكرين والنخب السياسية المدنية في تونس إلى تسميتها بـ”وكر طالبان” الذي يفرخ أجيالا من الإرهابيين والمتشددين.
يجب إعادة النظر على المستوى الدولي في تلك المؤسسات التقليدية التي تتخذ من تعليم الدين الإسلامي ستارا لأعمالها المتطرفة والعنيفة، وبالطبع يتباين مستوى التجاوزات من بلد لآخر حسب مستوى الرقابة المفروضة منها، لكن ذلك لا يمنع أن يتم إعادة هيكلة تلك المؤسسات بشكل صحيح، كوجوب اشتراط ترخيصها من الجهات والمؤسسات الدينية المعنية لمزاولة أنشطتها بشكل قانوني، كما يجب وضعها تحت الرقابة الدائمة لكي لا تحيد عن أهدافها الحقيقة، إضافة إلى توعية أسر وذوي الأطفال الذين يدرسون القرآن في تلك المؤسسات لكي لا يكونوا فريسة لأي أهداف مغرضة تنال من إنسانيتهم ومن وطنيتهم على السواء.