من مٍنّا لم يقرأ ل ” يوسف ادريس ” عبقري القصة القصيرة العربية ، أو ” تشيكوف” العرب ؟؟
لا أظن أن من عرف طريقه الى حب القراءة – مجرد حب القراءة- لم يقرأ لهذا المُبدع المعجون بالموهبة الأدبية الى حد الجنون !!
ولهذا يُفاجئنا ، الصديق ” ايمان يحيي ” بتلك الرواية الرائعة عن ” يوسف ادريس ” والتي صدرت عن دار الشروق في طبعتين ، الأولى في عام ٢٠١٨ والثانية في العام ٢٠١٩ ، وتضم ٢٣ فصلاً ، وتمتد صفحاتها الى أكثر من ٣٠٠ صفحة من القطع المُعتاد في الأعمال الأدبية …
ولكن من المهم التوقف عند شخصية الكاتب ، ، فهو كاتب روائي يعمل أستاذاً جامعياً وطبيباً في احدى كليات الطب المصرية ، وقد سبق أن صدت له رواية أولى بعنوان ” الكتابة بالمشرط ” في نهاية العام ٢٠١٣ تتحدث عن خفايا الحياة وطبيعة العمل في احدى المستشفيات !!
غير أنني ، ومن واقع معرفة شخصية بالدكتور ” ايمان يحيي ” أنه يتميز عن أقرانه من الأطباء الذين تركوا تلك المهنة الإنسانية والنبيلة وأتجهوا الى عالم الإبداع الأدبي ، أنه صاحب تجربة سياسية وحزبية مُميزة في معسكر اليسار المصري ، وهو ما وسَمَ كتاباته الإبداعية بتجربة عميقة ، وخبرة كبيرة ، ومعرفة دقيقة بخبايا وخفايا هذا العمل الحزبي ، وخصوصاً في تلك الفترة الحرجة من عمر الوطن ، في سنوات الأربعينيات والخمسينيات المُلتهبة …
ومن واقع تلك الخبرة ، والإدراك الواضح للصراعات الحزبية والسياسية داخل التنظيمات والحلقات والأحزاب الشيوعية المصرية ، جاءت روايته ” الزوجة المكسيكية ” حافلة بالمعلومات الدقيقة ، إلاّ الوقوع في بعض الأخطاء التاريخية البسيطة التي لا تنقص من هذا العمل قيمته الإبداعية ….
البيضاء
الباعث الفعلي لهذه الرواية البديعة ، هي رواية ” البيضاء ” وهي الرواية الأهم للدكتور ” يوسف أدريس ” وتكاد تكون هي الرواية الأكثر إزدحاماً بالأحداث ، وإثارة للجدل في حياة هذا الأديب الكبير ، فقدرته مُذهلة في صياغة القصة القصيرة ، لا يُنافسه في ساحة الإبداع العربي ، إلاّ العدد القليل من معاصريه ، أما أعماله الروائية الطويلة ، فثمة مُنافسين كبار ، لا يملك ” يوسف ادريس ” نفسه ، برغم ذاتيته العالية ، سوى التوقف معها وعندها بكل تقدير واحترام !!
رواية ” البيضاء ” كتبها “ادريس ” بين عامي ٥٥ و ١٩٥٦ ، وإن كانت نُشرت بعد ذلك بسنوات ، وهي تعكس تجربة شخصية لإنخراط المؤلف في العمل السياسي والحزبي منذ كان طالباً في كلية ” طب القصر العيني ” حيث شارك في قيادة ” اللجنة الوطنية للطلبة ” وبعد ذلك في الأعمال التحضيرية لتأسيس ” اللجنة الوطنية للطلبة والعمال ” التي قادت التظاهرات الكبيرة في عام ١٩٤٦ ضد اتفاقية ” صدقي / بيڤن ” وانتهت بالإطاحة بحكومة ” اسماعيل صدقي ” في نفس العام ، غير أن مشاركة ” يوسف ادريس ” في تلك السنوات العاصفة ، لم تتوقف بنجاح الحركة الوطنية المصرية في إسقاط تلك المعاهدة ، و الإطاحة بحكومة الدكتاتور ” اسماعيل صدقي ” بل إمتدت الى حقبة الخمسينيات ، وبعد قيام ثورة يوليو ، حيث ظل عضواً ناشطاً في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ، وهي تنظيم شيوعي يُعرف في الأدبيات الماركسية التاريخية المصرية ، اختصاراً بإسم ” حدتو” اذ كان عضواً فاعلاً في مكتب الأدباء والفنانين في هذه الحركة ….
غير أن رواية ” البيضاء ” لم تأخذ أهميتها لجوانب إبداعية فقط ، فهي من تلك الناحية بها ثغرات ليست قليلة ، ولكن أهميتها مُستمدة من كونها ، شهادة من الداخل ، ووفق رؤية المؤلف عن عجز تلك الحركة أو غيرها في إحداث التغيير الثوري المنشود في المجتمع المصري ، فيقول في رواية “البيضاء ” بما يشبه الاعتراف :
“… ولكني أذكر أني بدأت أحس بالتناقض داخل نفسي أنا ، كانت خواطري القديمة ، وعدم هضمي لكل تلك الأساليب الأوروبية في العمل الثوري نفسها قد بدأت تعود الى تفكيري ، بل بدا يخطر لي أحياناً أن كل ذلك العالم السري الذي عِشتُ فيه وقضيت أهم سنوات عمري أخوضه لا يمكن أن يؤدي بِنَا الى ثورة حقيقية نُنقذ بها بلدنا ” ….
وليست تلك الشهادة الواضحة ، بعجز تلك التنظيمات السرية في إحداث التغيير المنشود هي ما أثار رفاق وزملاء ” يوسف ادريس ” فقاموا بشن حملة من الغضب عليه ، واستنكار سلوكه الذي وصٌف من بعض من زملائه الْقُدّامىّ بالإنحراف الفكري والحزبي ، بل الأخطر من ذلك اتهامه بالإنحراف الأخلاقي ، وذلك اثر اعترافه للمستشرقة الروسية ” فاليريا كيربيتشنكو ” بأنه كتب تلك الرواية الناقدة للحركة الشيوعية المصرية في منتصف الخمسينيات ، ولكنه نشرها عَلى حلقات في جريدة الجمهورية في عام ١٩٦٠، حيث كان أبرز كُتَّابها ، وقبل إنتقاله فيما بعد الى جريدة الأهرام في زمن الأستاذ ” محمد حسنين هيكل ” اذ تحمل سنة نشر ” البيضاء ” في حلقات ، دلالة خطيرة ومُثيرة ، حيث اعتبرها رفاقه القُدامى طعنة فى ظهر من كانوا معه في ذات الحركة ، والكثير منهم تم اعتقالهم في حملة ١٩٥٩ اثر الصدام بين نظام ثورة يوليو والحركة الشيوعية المصرية بسبب الإختلاف حول قضية الوحدة المصرية السورية في عام ١٩٥٨ والصراع ما بين الرئيس ” عبدالناصر ” و” عبدالكريم قاسم ” المؤيّدْ من موسكو ، والمدعوم من الحزب الشيوعي العراقي ، ونال تفهماً وتعاطفاً من بعض فصائل الحركة الشيوعية المصرية !! ..
صدام أسماه المفكر اليساري الكبير الدكتور ” أنور عبدالملك ” بين عبدالناصر والشيوعيين المصريين بأنه “صدام في الظلام”!!
رواية ” البيضاء ” والتي لم تُنشر في القاهرة ، شأنها شأن ” أولاد حارتنا ” للأستاذ ” نجيب محفوظ ” وصدرتا في بيروت في وقت غير مُتقارب ، كتبها ” يوسف ادريس ” بطريقة جمعت بين الفن القصصي بما فيه من خيال ، وبين الحقائق التاريخية التي عاشها ، غير أنه ذكر أبطال روايته بأسماء غير حقيقية ، أو كما كان يعرفها في الواقع ، وإلاّ يتم تصنيف روايته بالأعمال التسجيلية وليست الإبداعية اذ اتخذ هذا المسلك !!
ومن هنا بات في إمكانه تفادي مواجهات وخصومات مع بعض رفاقه ، كان من الممكن أن يصل بعضها الى ساحات القضاء اذا ما كشف عن شخصياتهم الحقيقية !!
الأبطال الحقيقيون
هنا نعود الى ” ايمان يحيي ” وروايته ” الزوجة المكسيكية ” حيث تأتي أهمية هذه الرواية البديعة حقاً ، لا من حيث استخدام اللغة العربية الفصيحة بصورة كبيرة ، والتي نادراً ماتجد بين صفحاتها كلمات من اللهجة العامية المصرية ، إلاّ في أقل القليل ، ولكن في ظني أن تلك الرواية تكتسب أهميتها من فكرتها ، وأسلوبها ، فضلاً عن دقتها التاريخية …
من حيث الفكرة ، فهي بعث الحياة من جديد في رواية ” البيضاء ” بعد سكون لفها وأسكتها لأكثر من نصف قرن !!
أما الأسلوب ، فهو بديع وجديد ، فهو أقرب الى منهج الصحافة الإستقصائية ، التي تبحث بكل الوسائل عن الحقيقة ، ومضاهاة الوقائع التاريخية ، بعضها مع بعض ، والمتعلقة بحدث ما أو شخصية معينة ، حتى تُثبت صحتها ، وهذه المدرسة الجديدة في عالم الصحافة ، جديدة وحديثة في مجالها التلفزيوني ، فما بالنا لو تم استخدامها في عمل روائي !!
وفيما يتعلق بالدقة التاريخية ، فإن رواية ” الزوجة المكسيكية ” تكشف عن الأبطال الحقيقيين الذين وردت حولهم أو معهم أحداث في رواية ” البيضاء ” ل ” يوسف ادريس ” فنجد أشخاصا وأدوارا لأسماء مثل ” الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف بك حلمي رئيس اللجنة المصرية للسلام ، والشاعر والأديب عبدالرحمن الخميسي ، ومفكرين وفلاسفة عالميين ، مثل الفرنسي جان بول سارتر ، وبابلو نيرودا ، شاعر شيلي الكبير ، ودييجو ريڤيرا المكسيكي أهم وأشهر رسامي الجداريات في القرن العشرين ، والأديب الروسي إيليا اهرنبورج ، وسياسيين مثل عبدالناصر ومحمد نجيب وصلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو ، وأحداث كبيرة ، كأزمة مارس ١٩٥٤واعلان الجمهورية المصرية والغاء الأحزاب ، وفنانين مثل حسن فؤاد رئيس تحرير روزاليوسف والفنانة الكبيرة تحية كاريوكا ، وصحفيين كبار مثل أحمد بهاء الدين وفتحي غانم وأحمد أبوالفتح وفاطمة اليوسف ومرسي الشافعي وفتحي خليل ، وغيرهم وغيرهم !!
طبعاً أدوار هذه الشخصيات التاريخية تتراوح في ” الزوجة المكسيكية ” بين الحضور الكامل والتأثير المباشر في الأحداث أو التواجد في المسرح العام لتلك الفترة بما لهم من حضور تاريخي في الواقع ، دون إنغماس في التفاصيل ، ولأن الأحداث التاريخية لا يمكن ذكرها دون الإشارة اليهم !!
هنا تأتي القيمة الإبداعية ل “ايمان يحيي ” كواحد من المُبدعين الجُدد ، والذي يعترف بأنه جاء الى هذا العالم من الفن الجميل ، مُتأخراً ، فقد جاوز العقد الخامس من العمر دون أن يقدم في وقت سابق ما كان ينبغي تقديمه !!
غير أنه جاء في ظني بما يستوجب عظيم الإحترام والإحتفاء والإهتمام ….