رؤى

مستشرقون أم جواسيس؟

كتب: ماهر الشيال
في ساحة مسجد ابن طولون، يطيل الرجل المُكث مداوما على الذكر وحضور الصلوات، أحاديثه مقتضبة مع رواد المسجد، لا يسترعي انتباهًا، فالبلاد حينئذ تموج بأمثاله من ذوي الأصول الأوروبية، وقد استهوتهم أجواء الشرق الساحرة.. بعد فترة من التنقل بين مساجد المحروسة وأحيائها يقرر صاحبنا البدء في رسم بعض الأماكن توثيقا لرحلته، بعد أن صارت له صلات قوية بالأهالي الذين كسب ودهم بعطائه السخي وحسن عشرته.

وبينما كانت عين الرجل تلتقط أدق التفاصيل، لتسجلها في رسومات تحضيرية، كانت أذناه تجمع أحاديث الناس؛ لتنظم منها صورا كاملة لحياتهم ومواطن رضاهم وغضبهم، ومدى تقبلهم لممارسات الحكم التي أخذت الناس بالعنت والقهر في سبيل إنشاء الدولة الحديثة التي سيصير حكمها في أسرة الباشا إلى ما شاء الله.

في الجامع الأزهر يحضر الدروس، راصدا تفاعل المشايخ مع الطلاب والعامة؛ يلحظ قوة تأثيرهم، فيقارنهم برجال الكنيسة في أوروبا، يلاحظ أن المصريين يُجلون علماءهم عن اقتناع، فليس لديهم سيف حرمان ولا صكوك غفران، لكنهم يستحوذون على العقول؛ برغم محاولات الباشا إضعاف ذلك التأثير؛ إنه لا ينسى أنهم مهدوا الطريق أمامه ليصل إلى  الحكم؛ لكنه لا يغفر لهم أنهم شكَّلوا رقما في معادلة القوى ذات يوم؛ لولا ما أقدم عليه من إجراءات قاسية كان أقلها النفي والتشريد.

الحضارة الإسلاميةبعد أن وطّد صلاته بعدد من رجال الدولة يسافر الرجل إلى سيناء مستكشفا معالمها، وربما كنوزها المخبوءة، يتعلق قلبه بدير القديسة كاترين، ويقضي أياما في رسم لوحة له، وقد احتضنته جبال سيناء، وهو يبدو في أسواره المنيعة كحصن عسكري، يصعب اقتحامه.

مع بدايات عام 1839، يختفي الرجل دون أن يترك أثرا؛ لكنه يظهر في مدينة “وهران” ليعيد الكرَّة متقربا إلى الأهالي مظهرا تقواه وورعه متواجدا في مساجد المدينة، مجتهدا في تعلم اللهجة المحلية، يبدي ولعا ببساطة تلك الحياة مسجلا إياها بأدق التفاصيل في لوحات فنية تصوِّر واقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكثيرا من مواطن القوة والضعف في الجزائر.

في عام  1845، تشهد باريس معرضا يضم عددا كبيرا من اللوحات الزيتية التي تصوَّر جوانب من حياة الشرق وسحره.. وقد لفتت الأنظار بشدة إبداعات الفنان الفرنسي “إدريان دوزا” الذي قضى قرابة العِقد متنقلا بين الأقطار العربية بتكليف من البارون “تايلور” ثم الدوق “ليون “- متخفيا في زي رجل مسلم يهوى الرسم والتنقل والاستماع إلى أحاديث العامة.. هذا الرجل هو نفسه من كان يحضر الدروس في الجامع الأزهر ومسجد ابن طولون   ومساجد وهران بالجزائر وهو نفسه من  ذهب إلى دير القديسة كاترين ورسم لوحة له

الحضارة الإسلاميةلا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لموظف الجمارك السابق وأحد رواد ما بعد الانطباعية الذي وصف فنه بالبدائية- الفنان الفرنسي “هنري روسو” الذي زار مصر ومكث بها لفترة، ثم انتقل إلى الجزائر وساح في ربوعها لسنوات، كان ينزل فيها ضيفا على شيوخ القبائل، ويأوي إلى الأضرحة والزوايا، ويُستقبل بحفاوة من الأهالي، ما جعله غزير الإنتاج سريع التنقل من مكان لآخر على نحو مريب.

أما “جون فريدريك لويس” فقد قضى عقدا من الزمن على ضفاف النيل يحيا حياة الأمراء في قصر منيف، وهومن أغزر الفنانين إنتاجا وقد استبطنت لوحاته كثيرا من جوانب الحياة في مصر، وقد جاء وصفه في مذكرات صديقه “وليام ثاكراى” على نحو هزلي فهو “كسول يعيش حياة حالمة في أجواء ضبابية، يرتدي الملابس المحلية فيبدو من غُمار الناس”. أى واحد  من عامتهم ويبدو أن الاختلاط بالعامة وارتداء الأزياء الشعبية وكثيرا من الأنشطة التي مارسها الرجل في تلك الفترة التي أعقبت معاهدة لندن- لم تكن لوجه الفن وحده.

الحضارة الإسلامية

 لوحات المستشرقين .. والتمهيد للاستعمار

يرى إدوارد سعيد أن الاستشراق ينطوي على أفضل مقاربة لعلاقة الغرب بالشرق، إذ من الممكن تقسيمه إلى ما هو تخييلي وجامعي واستعماري، وهذه كلها معان يحيل عليها هذا العلم، غير أن ثمة تبادلا أو تضافرا بينها كلها لتحقيق أهداف معينة مسطَّرة مسبقا من قبل دوائر الاستعمار الغربي.

لقد لعب هذا الفن دورا هاما بالغ التأثير في الحملات الاستعمارية الغربية على بلادنا العربية، إذ كان الرسامون يسيحون في البلاد طولا وعرضا تحت دعاوى عديدة؛ مظهرين انجذابا كبيرا لحضارات الشرق وجماله وسحره، وعوالمه الغرائبية؛ لكن المؤكد أن أعمالهم الفنية كانت مزدحمة بالعديد من التفاصيل التي تتناول بصورة متناهية الدقة الجغرافيا السياسية والاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والثقافية، وسلوكيات الشعوب وعاداتها وتقاليدها، والقدرات الدفاعية للمدن والمراكز الاستراتيجية، وهو ما يلمح بقوة إلى أن تلك الأعمال لم تكن موجهة للجمهور بقدر ما كانت موجهة للنظم العسكرية الحاكمة.. لقد كانت تلك الأعمال تقارير استخباراتية مفصلة حسب ما أكده الكثير من الدارسين.

تاريخ مصر الإسلامية

وتؤكد الباحثة “نادية قجال” أن الأعمال الفنية للمستشرقين في القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر كانت بمثابة دراسات “سوسيولوجية” متعمقة؛ نظرا لأنها تحاكي الواقع بدقة، وتظهر أدق التفاصيل في ابتعاد عن التجريد والغموض، وتعتمد لغة تشكيلية “بليغة” تنم عن مهارة واضحة في فن التصوير، وعن دأب وقدرة عالية على استنطاق البيئات المحلية وسبر غور مكنوناتها.. وبالطبع فإن ذلك لا يتأتى إلا لفنانين لديهم من الذكاء واللباقة واللطف ما يمكنهم من التقرب من الأهالي ومعرفة الكثير من الأسرار والخفايا.

هل كان الفن  الاستشراقي قادرا على الاغتناء بأشكال الثقافات الأخرى، أم أنه كان بإمكانه فقط تمثيل الثقافات الأخرى وفقا لإرثه الخاص؟ سؤال بالغ الأهمية يطرحه الباحث الجزائري إبراهيم مهديد، وينقلنا إلى إشكالية كبرى تتعلق بانعكاس صورة الشرق في عين الفنان الغربي وما اكتنفها من ظلال وصلت بها في أحيان كثيرة إلى حالة من الزيف تارة، وكتعبير عن أزمات داخلية تارة أخرى، وكأداة تحمل رسائل موجهة للأنظمة وللشعوب الأوروبية في معظم الأحيان تارة ثالثة . لقد انصب اهتمام كثير من الفنانين في هذه الأعمال على عدة أمور تصلح نموذجا تفسيريا لقراءة وتحليل تلك اللوحات، فجاء التركيز على كنوز الشرق وثرواته قاسما مشتركا في معظم الأعمال، بينما نلاحظ اهتماما متزايدا بتصوير حياة الشرقيين كحياة يغلب عليه الكسل والدعة والرفاهية والتباهي، ثم نلحظ قسما كبيرا من الأعمال يصور نساء الشرق في الحمامات والخلوات والمخادع في مشاهد لا تخلو من العري والفحش والإثارة كما يبدو ذلك جليا في أعمال السويسري “أوتو بيلي” والفرنسي “هنري ماتيس”.. كما جاءت بعض هذه الأعمال معتمدة “…على المشاهد المركّبة، والنماذج البديلة المزيّفة والخيال، وينتابها اللبس وتتدفّق إيديولوجية أكثر ممّا ينسب إليها من غرائبية وتتبّع لسحر الشرق والروح الرومنسية” بحسب الباحث منير بهادي، ما يدعم التوجه القائل بأن هذه الأعمال كانت تهدف ابتداء إلى تهيئة الرأي العام في أوروبا لتقبل فكرة الحملات الاستعمارية على الشرق الذي يعيش أهله كسالى ناعمين برغد العيش في تهتك واضح، بينما يعاني الأوروبيون  من شظف العيش وأخطار المجاعات.

الحضارة الإسلامية

 فكرة استعمارية خبيثة

كما حملت اللوحات التي اتخذت من نساء الشرق موضوعا رسائل متضمنة، لحفز الشباب على الانضمام لتلك الحملات الاستعمارية؛ مؤكدة على أن الشرق اللاهي، يعيش بحرية فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية حيث تكثر الجواري والإماء وبائعات الهوى، في وقت كانت  فيه المجتمعات الغربية ما زالت متمسكة بالضوابط الأخلاقية الصارمة كما ألمح إلى ذلك الكاتب الفرنسي “روبير سوليه” في كتابه الشهير “مصر ولع فرنسي”.

لكن هذه اللوحات التي تناولت نساء الشرق كانت في أغلبها – إن لم تكن كلها – زائفة ولا علاقة لها بالواقع، فليس من المعقول أن يدخل الفنانون الغربيون إلى “الحرملك” في بيوت الشرقيين، وكان هذا المكان قاصرا على النساء، ولا يرتاده سوى محارمهم، وقد كشفت زيف هذه اللوحات عدة ملاحظات هامة منها: أن ملامح غالبية النساء في تلك اللوحات جاءت أوروبية، مع وجود تشابه في الملامح بين السيدات في اللوحة الواحدة، ما يدل على أن الفنان كان يستعين بـ”موديل” واحد مع تغيير زاوية الرؤية، مع ملاحظة أن لون الشعر يظهر دائما أسود فاحما، وكأن هذا هو الدليل الدامغ والوحيد على شرقية نساء اللوحات المزيفة، كما جاءت تلك اللوحات محشوة بالتفاصيل التي حملت فيما بينها شيئا من التناقض ما يصل في بعض الأحيان إلى العبث كما في لوحة “نساء الجزائر” لـ “يوجين دي لاكروا”.

الإسلام

وقد أثيرت حول هذه اللوحة تحديدا عديد من التساؤلات، ولم تخرج الإجابات عن التحايل والمناورة والزعم بأن اللوحة صورت نسوة يهوديات في وهران، يدخنَّ “الأرجيلة” التي لم يكن وجودها شائعا في بيوت الجزائريين، لكنه الولع بحشو التفاصيل كما ذكرنا سلفا.. ومن الطريف معرفة أن إجمالي الفترة التي قضاها المسيو”لاكروا” في الجزائر كان ثلاثة أيام فقط خلال شهر يونيو من العام1832!.

وتشير “قجال” إلى أن الاهتمام بتصوير نساء الشرق على هذا النحو كان لخدمة فكرة استعمارية خبيثة تتعلق بحفز جنود الاحتلال على الاقتحام واستباحة الحرمات وتنمية الرغبة عندهم في إذلال الشرقيين وكسر روح المقاومة لديهم، وفق معرفة معمقة بما تمثله المرأة في المجتمع الشرقي من رمز للشرف والعفاف.. وربما كان هذا ما يفسر استمرار عمل هؤلاء الفنانين طوال فترات الاحتلال، بالإضافة إلى عملهم على الرصد الدقيق للمتغيرات الاجتماعية والنفسية للشعوب المهزومة من أجل إحكام السيطرة عليها، وإطالة فترة استعبادها تحت نير الاستعمار.

لقد ارتبطت صورة الشرق في المخيلة الغربية بالأساطير والخرافات منذ زمن بعيد، وجاء الفن الاستشراقي ملبيا لذلك الشغف القديم بصورة أو بأخرى، ما جعله أغلب الوقت أحرص على أن يكون مرآة لهذا التصور المسبق، أكثر من حرصه على موافقة الواقع أو مطابقة الأصل.. من خلال نموذج اختزالي متوهم فكان ما أبدعه من فن ترجمةً لتلك الصور الخيالية عن الشرق التي هي أشبه ما تكون بحكايات ألف ليلة وليلة.. وقد مثّل ذلك أيضا رافدا قويا لفتح شهية الأوروبيين للانتقال إلى الشرق والاستيطان في ربوعه كما في الحالة الجزائرية.. وكان إلباس الشرق ثوب العار، وجعله مشجبا يعلق عليه الغرب أدرانه، مبررا جيدا للعديد من الممارسات الغربية اللإنسانية  والنهم الشيطاني للسلب والنهب وتجريف ثروات الغير، في حالة من التصالح مع النفس تقوم على التنصل المتوالي من النقائص بإلصاقها بالآخر المستحق لكل ما هو فيه من تأخر وتناحر وتردٍ في كل المجالات!.

الحضارة الإسلاميةربما كان من الضروري أن نعيد النظر في تلك الأعمال التي أنتجها فنانو الاستشراق محاولين قراءتها من جديد على أسس مغايرة، ومعطيات أخرى واضعين في اعتبارنا عدة عوامل تتعلق ببيئة الفنان وسيرته الذاتية وظروف وملابسات الحقبة الزمنية التي أنجز فيها أعماله، وما اكتنف بلاده في تلك الحقبة من الظروف والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وما يعتبر وثيق الصلة بالموروث الغربي الذي استولى على الذهنية الأوروبية في تلك الحقب؛ علَّ ذلك يكشف لنا بعض الحقائق التي طال استتارها بين الخطوط والألوان.

بالطبع فإن من المسلم به أن لكل قاعدة استثناء؛ فلا شك إذن أن هناك فنانون أوربيون جاءوا إلى الشرق بدوافع فنية بحتة يحدوهم الأمل في سبر أغوار الشرق واستبيان سحره الخاص، واستكناه مكنون تفرده من خلال أعمالهم الفنية؛ فكان إخلاصهم للفن وحده؛ ما جعل أعمالهم تبتعد كثيرا عن تلك المثالب التي ذكرت آنفا؛ لتبقى ذات مكانة فنية رفيعة في أعين أهل الاختصاص في الشرق والغرب.

المصادر

– إبراهيم مهديد، القطاع الوهراني ما بين 1850-1919م دراسة حول المجتمع الجزائري، الثقافة والهوية الوطنية، وهران، منشورات دار الأديب، 2006م، ص. 16.

– إدوار سعيد، الاستشراق، مؤسسة الأبحاث العربية، ص39.

– روبير سوليه، مصر ولع فرنسي، دار المستقبل العربي، 1999.

– زينات بيطار، الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي، عالم المعرفة العدد157، يناير 1992.

– عبده علي عرفة، من سحر الشرق إلى دهشة الاكتشاف” مجلة العربي، العدد 508، مارس 2002م، ص 60.

– ماريون فيدال بوي، الجزائر ورساموها …، ص 17.

– منير بهادي، الاستشراق والعولمة الثقافية، دار الغرب للنشر والتوزيع .ط1، 2002م، ص.11.

– نادية قجال، الوظائف الأساسية للرسم الاستشراقي قبيل وإبان الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، مجلة إنسانيات عدد46، 2009.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock