ثقافة

شوق الدرويش.. قصة عشق وثورة

في عام 2014 صدرت رواية شوق الدرويش للكاتب السوداني حمور زيادة عن دار العين للنشر بالقاهرة.. وفي نفس العام فازت الرواية بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها  الجامعة الأمريكية. وهي جائزة تباينت آراء كثير من مثقفي مصر حول مراميها وأهدافها –وصفها الناقد الراحل الدكتور سيد البحرواي بأنها تمثل واقعا تصنعه بنفسها ولذلك اعتُبرت خطرا عظيما على الرواية العربية وعلى مجال الأدب في العالم العربي بل وعلى المستقبل العربي- في العام التالي فازت شوق الدرويش بجائزة البوكر العربية.. فيما لم يعتبر مفاجأة .

وقد أثارت الرواية لغطا واسعا في الأوساط الثقافية السودانية واشتد الخلاف حول ما تضمنته  هذه الرواية من تعبيرات مباشرة وإيحاءات رأى البعض أنها تحمل زراية واضحة بالسودانيين تصل إلى حد العنصرية؛ وذلك من خلال تبني وجهة نظر استعلائية  تصم ثورة المهدي 1881 بأنها كانت سببا في تعطل حركة التطوير في البلاد ما أدى بها إلى مهاوي الخراب والضياع والمجاعة.. وقد وجد هذا الرأي مناصرين كثرا استشهدوا بعدد لا بأس به من الأخطاء التاريخية التي وصفوها بالمتعمدة بهدف تشويه ثورة المهدي والتماهي مع وجهة النظر الاستعمارية التي كانت أهم أسلحة بريطانيا التي استخدمتها ببراعة في إخماد الثورة وإحكام قيدها على السودان.. وقد تناول هذه الشواهد في بحث تاريخي معمق الكاتب السوداني عبد الرحمن الغالي في كتاب بعنوان “المهدية قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش”.

https://www.youtube.com/watch?v=5kjFWoOgpc8

 وقد رأى الغالي أن الرواية ماهي  إلا صياغة أدبية لكتاب الأب جوزيف أورفالد (عشرة سنوات في أسر معسكر المهدي) الذي كتبه بالألمانية ..بينما ترجمه إلى الإنجليزية   ريجنالد ونجت مدير الاستخبارات العسكرية للجيش المصري الذي أصبح بعد ذلك جنرالا وصار الحاكم العام للسودان.. ومن الغريب أن غلاف الرواية عبارة عن صورة للأب أورفالد والراهبتين كاترينا تشينكاري واليزابيتا فينتيوريني والأَمَة عديلة بعد نجاح عملية تهريبهم من السودان إلى القاهرة  التي قامت بها الاستخبارات العسكرية المصرية.

وبعيدا عن هذا اللغط الذي مازالت أصداؤه تتردد خاصة بعد اشتعال الثورة السودانية وإطاحتها بالبشير؛ ما أعاد إلى الأذهان صراع القوى الدولية والإقليمية حول السودان ومآلات الحراك الواسع الذي انتهى إلى توافقات داخلية هشة في ظل تحديات إقليمية خطيرة أهمها التداعيات المدمرة لسد النهضة على السودان ومصر- سنحاول قراءة هذا العمل الأدبي الفريد بمعزل عن تلك الرؤى السياسية التي أحالت الرواية إلى جريمة تستوجب العقاب.

الأب جوزيف أورفالد أكثر من درويش

ليس درويشا واحدا هو ما عناه حمور زيادة.. هناك أكثر من درويش يصارع أشواقه العاصفة. هناك بخيت منديل ذلك العاشق الصب الذي عاش حياة المعاناة المتصلة منذ اختطف صبيا ليصير عبدا يتعرض لأبشع أنواع الاستغلال إلى أن يقع أسير عشق مستحيل لا توجد له أسباب.. فالمعشوقة لا تنتمي لعالم بخيت من بعيد أو قريب. هي بيضاء أوروبية ممن كان يراهم كائنات شائهة “…أجسادهم مسلوخة تكسوها حمرة. أعينهم كقطط خبيثة. ورائحتهم نحاس صدئ”. صارت ثيودورا لعنته الأبدية التي لا يستطيع منها فكاكا. وتكتمل مأساة بخيت بمقتل معشوقته في الليلة التي قررت فيها أن تمنحه نفسها قبل أن تهرب إلى مصر.. لكن إحساسه بالغضب بسبب ما كتبته عنه في مذكراتها؛ منعه من الذهاب إليها وإنقاذها من مصيرها المحتوم. لتكتمل فجيعته باختيار الأقدار له ليكون هو من يوسدها قبرها ويهيل على وجهها التراب. ليكون الانتقام من كل الذين اشتركوا في الجريمة هو الهدف الذي سيعيش من أجله قبل أن يستسلم للموت ليلقاها في العالم الآخر.

رغم الجهد الكبير الذي بذله الكاتب في إقناعنا بهذا الحب إلا أنه لم يحرز النجاح المطلوب فبدت القصة الرئيسة في الرواية بكل تفاصيلها مخاصمة لكثير من الحقائق التي تؤكد صعوبة التقاء الشخصيتين على النحو الذي ورد بالرواية.. حتى أن تطورات العلاقة لم تكن لتمنحها الحياة خاصة مع تهرب ثيودورا المستمر من حب بخيت الذي وصل به  الهوان  في أحيان كثيرة حد احتقار ثيودورا  له.

درويش آخر قطع رحلته منذ البداية مناوئا لكل المعوقات التي كان من الممكن أن تحيله إلى شخص بلا أدنى قيمة لكنه لم يستسلم.. ثم يكون صريع إيمانه الذي يورده الموارد ويحيل حياته إلى جحيم بعد أن يضطره إلى تطليق زوجته التي طالما هام بها عشقا ليخرج مجاهدا في سبيل نصرة الحق.. الذي سرعان ما سيتبين له أنه ليس إلا صورة أخرى للباطل”… لماذا صرت يا مهدي تركياً آخر” إنه حسن الجريفاوي الذي صنعه حمور زيادة بإحكام شديد وبتفاصيل تليق بالشخصية الرئيسة في العمل لا لشيء إلا ليكون على قدر حدث النهاية حين يستسلم بخيت منديل لمصيره بعد إتمامه لعملية القتل الأخيرة.

الروائي السوداني حمور زيادة
الروائي السوداني حمور زيادة

ثيودورا المدفوعة بإيمان عميق بدورها في نشر تعاليم المسيح بين هؤلاء المعدمين البؤساء لم تخف اشمئزازها منهم ومن طباعهم وصورهم ورائحتهم “…إن هؤلاء الوحوش لا يمكن إلا أن يعامَلوا بالكراهية والتوحش الذين هم جديرون به” حتى ذلك العبد الذي أحبها على صورة هي أقرب إلى الجنون لم يستطع أن يغير نظرتها تلك.. لتدفع حياتها في النهاية ثمنا لمغامرة هروبها من ذلك الشعور القاهر بالتأثم لحظة القبلة الأولى.

مريسيلة لم تكن ببعيد عن ذلك الاحتراق المحموم بالعشق المستحيل.. فها هو بخيت الذي أحبته منذ طفولتها لا يبادلها حبا بحب بل يغرق في أوهام الانتقام لتلك المرأة التي لا تتوقف مريسيلة عن سبها ونعتها بأحط الالفاظ حية وميتة.. ربما كانت مريسيلة هي “الكنداكة” التي نأمل أن تستطيع تغيير واقع السودان المرتبك.. لكنها رغم قوتها البادية لا تملك لجرحها دواء.. حتى الكي لا تقدر عليه لأن حب بخيت يجري منها مجرى الدم.

على نحو أكثر معقولية يُكمل هؤلاء العشاق الآيسين يوسف أفندي سعيد المصري الذي يحب زوجته حبا شديدا ويصبر على أذاها هي وأمها، لكنه في النهاية يرمى بسهم الخيانة ويستسلم لداعي الانتقام.. وكأن حمور زيادة قد قرر أن يجعل من الحب لعنة لكل أبطاله أو قل دراويشه.. ربما ليجعلنا نواجه حقيقة الفناء الحتمي الذي لا يصمد في وجهه حب سوى حب الواحد الأحد.. حتى التوق إلى الحرية بعد سنوات السجن الطويلة التي قضاها بخيت في سجن الساير لم يكن إلا تلبية لنداء القتل .. وهو ما كشف الحقيقة ناصعة أمام عين الجريفاوي حين قتل الطفلة استجابة لذلك النداء اللعين. حتى ثيودورا استجابت لنداء القتل فخنقت الدُّوري في يدها دون سبب.

ثورة المهدي
ثورة المهدي

قتل ثيودورا على هذا النحو البشع لم يكن بغية طالبيه في ظل شروطه الموضوعية.. لكنها الاستجابة العمياء لنداء الدم الذي صار طوق النجاة الوحيد من هذا الجحيم الذي لا يطاق.. جحيم الحب المستحيل.

تزخر الرواية بالنصوص الدينية من القرآن الكريم والإنجيل بالإضافة إلى نصوص للشيخ محي الدين بن عربي  وقد كان من الممكن التخفف منه كما جاءت لغتها في مواضع كثيرة لغة صوفية تخفي أكثر مما تعلن في إلغاز محبب لا يجاوز الحد ويصنع تلك الحالة من التأمل لدى القارئ.

أظن أنه يحسب للكاتب أنه جعل الأحداث التاريخية خلفية للقصة الرئيسة في العمل ولم يستغرق في تلك الوقائع  استجابة لشوق المحلل السياسي – إذا جاز التعبير-  وإن كانت عباراته تشي في غير موضع بانحيازاته إلا أنه نجح في إحداث تلك الحالة من المجاورة بين التاريخي والروائي كان الانحياز فيها محمودا بطبيعة الحال للجانب الروائي. ومع تعدد الاصوات  وتباين الأزمنة وتداخلها حافظ زيادة على إيقاع منضبط لم يُفلته، ولم يسمح معه بانطفاء شوق القارئ رغم أن السرد اعتمد على استرجاع أحداث قد وقعت بالفعل.. ورغم ذلك استطاع حمور أن يحافظ على توهج الأحداث وضراوة وقعها وشدة أثرها دون كبير عناء.

شوق الدرويش هو عمل روائي جدلي بامتياز.. لا نطلب له درجة الكمال.. هو بكل أخطائه ونقائصه استثنائي بما يجعل حمور زيادة حبة في عقد كبار المبدعين في الرواية السودانية والعربية.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock