ثقافة

خالتي صفية.. أيقونة بهاء طاهر الوطنية (2-3)

 توزعت الوقائع والأحداث في هذه الرواية البديعة للأستاذ ” بهاء طاهر ” بين أربعة فصول وخاتمة ، هي ” المُقَدَّس بشاي ، وخالتي صفية ، والمطاريد، والنكسة ” ثم يُتحفنا الكاتب بفصل إضافي جعل عنوانه لافتاً وهو ” سأنتظر ” ! …

وعلامة التعجب من عنده ، وليست من عندي ، لكن المُبدع حقاً والمفيد حقاً ، أن هذا الفصل الإضافي ليس سيرة ذاتية للأستاذ ” بهاء ” فقط ، ولكن سيرة ذاتية لأبناء جيله من المُبدعين عرفهم وتعرف عليهم خلال دراسته معهم  في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، منهم الأساتذة ” رجاء النقاش ” ، الناقد الأدبي الكبير ، رحمه الله ،  وشقيقه الفّذْ ” وحيد النقاش ” الذي غادر الدنيا وهو في سن الشباب وفي ذروة الإبداع ، مُبدعاً في عالم الرواية ،  فضلاً عن ترجماته البديعة  عن الفرنسية ، ومن أهمها ترجمته الراقية لكتاب الأديب الايطالي الكبير ” ألبرتو مورفيا ” عن الثورة الصينية  ” ثورة ماو الثقافية ” !!

وبالإضافة الى صُحبة ” رجاء النقاش وشقيقه ، زامل كاتبنا الكبير أصدقاء كُثرا ، منهم  صبحي شفيق الذي اختار الترجمة عن الفرنسية والفن السينمائي طريقاً له ، ومصطفى أبو النصر الذي سبق زملاءه مع رجاء النقاش ، في نشر بعض أعماله القصصية في مجلة  الآداب البيروتية ، بما لها من مقام رفيع  ولصاحبها الأستاذ  ” سهيل أدريس ” فضلاً عن معرفة ” بهاء طاهر ”  بأسماء كبيرة عرفهم في الجامعة ، كأساتذة ، وعرفهم خلال عمله مُذيعاً في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية ، وهو البرنامج المُتخصص في الإبحار في عالم الأدب والموسيقي والفنون بكل أشكالها وأنواعها …

كان ” بهاء طاهر ” خلال تلك السنوات التي سماها سنوات التكوين محظوظاً الى أبعد حد ، فقد تعاهد هؤلاء الأصدقاء عَلى خلق نوع من الأدب كان طموحاً للغاية ، فقد رأوْا في أنفسهم أنهم قادرون عَلى تجاوز مدرستيْ  نجيب محفوظ ويوسف أدريس في الشكل والمضمون !!

 نجيب محفوظ ويوسف أدريس وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس
نجيب محفوظ ويوسف أدريس وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس

هل تجاوزوا حقاً مدرستيْ هذين العملاقين؟

من الصعب القطع بالإجابة  المباشرة والسريعة ، فتلك قضية ثقافية كبيرة ، تحتاج الى الإحاطة الكاملة بالمُناخ الثقافي لتلك الفترة ، فضلاً عن التوقف بالدراسة النقدية الأكاديمية والموضوعية لكل مُبدع عَلى حدة ، فبرغم أنهم من أبناء جيل واحد ، إلاٌ أن مناهجهم ومعالجاتهم الأدبية تعددت وتنوعت …

وهنا نجد ” خالتي صفية والدير ” وهي رواية تتوسط الرحلة الإبداعية للأستاذ ” بهاء طاهر ” نموذجاً يمكن القياس عليه ، فقد سبقها مجموعات قصصية هي الخطوبة وبالأمس حّلّمُتْ بك ، وأنا الملك جئت ، وروايتان هُمّا شرق النخيل وقالت ضُحَىّ ” ثم لحقها الحب في المنفى وواحة الغروب وغيرها من أعمال إبداعية ونقدية ، ولعل كتابه المهم والرائع ” أبناء رفاعة ” هو أحد العلامات البارزة والهامة في مسيرة هذا المُبدٍع الكبير ….

واحة الغروب

نموذج مثالي

وعودة الى ” خالتي صفية ” نجد أن اللغة بسيطة وسهلة ، تتشابه الى حد كبير مع لغة الأستاذ ” يحيىّ حقي ” صاحب ” قنديل أُم هاشم ” و مع الأستاذ ” أحمد بهاء الدين  ” بكل وضوحه ومبدأيته ، مع الفارق طبعاً بين عالم الأدب ، عالم ” بهاء طاهر ” وعالم الفكر والتاريخ والسياسة ، عالم ” أحمد بهاء الدين ” ….

التشابه هنا واضح ، فالبناء الروائي مُتماسك ، والزيادات والإطناب اللُغوي غير موجودة ، والصياغة الرومانسية والإنفعالات الزاعقة لا نجد لها أثراً ، فاللغة عند ” بهاء طاهر ” تّتّحّلىّ بالوضوح ، الى الحد الذي وصفه الناقد الكبير الدكتور ” صبري حافظ ” بأن ” نصوص بهاء طاهر ، أسست لفن جديد في مسيرة القص والسرد المصري بل والعربي ، وارتادت بقاعاً جديدة غير مطروقة من قبل  ، وعوالم بكراً مُدهشة جعلت كاتبها من أبرز الأصوات القصصية العذبة في العربية ومن أكثرهم عُمقاً وشاعرية ” …

عَلى هذا النحو تأتي ” خالتي صفية والدير ” فهي نموذج مثالي يمكن القياس عليه ، من حيث اللغة أو البناء المعماري للعمل الروائي ….

ودون الدخول في تفاصيلها وثناياها المُبهرة والجميلة ، نجد أن الراوي ، وأعتقد أنه الأستاذ ” بهاء طاهر ” نفسه ، والذي لا  يُذكّرْ  أسمه طوال صفحات الرواية  ، يتحدث عن تلك الوقائع الواردة في النص بوصفه شاهداً  عَلى تلك الفترة التي تمتد من سنوات الصبا  ثم تتدرج  الى الوصول الى مرحلة الدراسة الجامعية ، والتي جعلته مُتخصصاً في علم الآثار ، ونكتشف أيضاً عَلى صعيد التأريخ العام ، أن تلك الأحداث جرت في تلك القرية بصعيد مصر ، والقريبة  من مدينة الأقصر ، بين مطلع عقد  الخمسينيات حتى السنوات الأولى من سبعينيات القرن الماضي ، بما فيها من أحداث كبيرة أبرزها قوانين الإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس وقرارات التأميم ونكسة ٦٧ وتداعياتها ….

واذا كانت تلك السنوات خطيرة ومصيرية في حياة الوطن ، فإنها- وهذا هو الإبداع حقاً -، تبدو إطاراً للمسرح وليست المسرح ذاته ، فتأثيراتها قوية ، ولكنها تبدو بعيدة وغير مِباشرة ، فالرواية ليست عملاً دعائياً ، وإلاّ  سقطت في المُباشرة ، وتخلت عن كونها إبداعاً …

الإبداع حقاً هو تلك اللوحة المرسومة بحرفية وصنعة في هذه الرواية ، والتي جعلتها قائمة بين عالمين ، عالم الدير حيث يعيش المُقّدّسْ ” بشاي ” بكل عذوبته ونبله وتسامحه ، وعالم ” خالتي صفية ” بكل عُنفها وسطوتها وطُغيانها ، وبين العالمين ، يّنهّضْ دور الأب ، الحاج أحمد ، الذي يُجٍسد  الواقعية والحكمة ، ومحاولة خّلقْ عالم من الجمال خال من العنف والثأر والإنتقام  ، عالم من التسامح والإصلاح والنقاء ….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock