ثقافة

خالتي صفية.. أيقونة بهاء طاهر الوطنية (3-3)

تبدأ رواية ” خالتي صفية والدير ” بذلك التقليد السنوي المُتبادل  بين بيت الحاج ” أحمد ” والد الراوي ، وذلك الدير الواقع شرق البلد ، ففي كل عيد فطر ، يذهب الصبي الذي تجاوز المرحلة الإبتدائية وبلغ عمره اثنى عشر عاماً ، بعلبة من الكرتون الأبيض ، وهي في الأصل ، ، مليئة ب” كحك العيد ” ومعه عدد أصغر حجماً من الكحك المُعتاد ، يُسمىّ ” غُرّيبة ” ….

المقدس بشاي

يذهب الصبي  الى الدير الذي يوجد به عدد محدود من الرُهبان ، أشهرهم ” المُقَدس بشاي ” ليُسلمه تلك الهدية السنوية القادمة من بيت الحاج ، مشفوعاً بتوصية ودعاء من الحاجة ، أم الراوي ، دعاء لسُكّانْ الدير من القّسّاوسةْ والرهُبان بطول العُمر ، والعيش في سلام  ….

لم يكن هذا التقليد السنوي ، سوى رد لتقليد سنوي آخر ، من رُهبّان الدير الحريصين عَلى إرسال بعض من إنتاج مزرعتهم ، سواء من القصب أو البرتقال أو البلح لبيت الحاج ، وعدد محدود من بيوت القرية ….

الدير الذي كان يزوره الصبي برُفقة والده ، عندما كان طفلاً صغيراً ، بات الآن في متناول  يده ورهن رغبته ، دون الحاجة الى صُحبة الحاج في كل مرة ، كانت رغبة قوية لدى الصبي الذكي  في الإستماع الى حكاوي المُقَدس ” بشاي ” أو ” المٍجدٍسْ بشاي ” وفق لهجة أهل الصعيد ، حكاوي منقولة عن المُتنيح ” باخوم ” الذي كان بمثابة الأستاذ والمُربي للمُقدس ” بشاي ” والذي تجاوز المائة عام عندما رحل عن دنيانا ، فقد عاصر المُقّدّس الراحل تاريخ تلك القرية ونشأتها وتكوين عائلاتها الواحدة تلو الآخرى ، فتلك القرية قامت واتسعت في كنف الدير الذي لولاه ، ما كانت ولا كان سكانها ، فهي في الأصل أرض بور لا تُنتج زرعاً ، ولا تّرعىّ ضرعاً ….

كان المُقَدس ” بشاي ” طيب المعشر والمُبتسم دائماً، هو مخزن معلومات وكنز أسرار لذلك الصبي الباحث عن معرفة تاريخ قريته ، وأصول عائلاتها ، وأحوالها منذ نزلها ” عسران بك الكبير ” والذي تناسلت من ذُريّته كل عائلات القرية !!

تاريخ قديم الأزل ” عَلى نحو ما كان يقول الناس !!

غير أن ” المٍجدٍسْ بشاي ” لم يكن حكاءً لتاريخ مضى ، وسنوات خّلّت ، بل كان خبيراً في الزراعة لا يُشَق له غُبار ، فكم من مرة نصح الحاج ، والد الراوي ، بأن يزرع كذا ، ولا يزرع كذا ، فالأرض التي أصلها أرض بور ، لا تُنتج قطناً ، بل العدس أفضل لها ، لأنه لا يحتاج الى ماء كثير …

وهكذا يحتل ” المٍجدٍسْ بشاي ” مكانته بين أهل تلك القرية ، ولكن نكتشف أن هذا الراهب والناسك ، مُحب لوطنه ، فهو يشكر الرب لأنه حج الى القدس ، قبل أن يحتل فلسطين هؤلاء الملاعين من اليهود، ويدعو للرئيس ” جمال ” ، ” أن يُعينه الرب ليخرجهم من فلسطين ” زي ما أخرج الانجليز من بّرْ مصر ” …

المُقدٍس ” بشاي ” حج الى فلسطين  ، وتّقّدّس ، سالكاً رحلة المسيح عليه السلام ، وكان يتمنى ، والدمع يملأ عينيه  أن تكون رحلته الى القدس ، بمثل ما فعل أبونا ” باخوم ” فقد ذهب الى هناك وعاد الى هنا مُمتطياً ظهر حمار !!

الراوي عرف هذه القصة الأعجوبة ، عندما لاحظ العناية الشديدة والحب الجارف الذي يّكنهُ المقدس ل ” حمار ” الحاج ، وكل حمار !!

فقد عرف الجواب من المُقَدس  :

” ألم يدخل مُخلصنا أورشليم مُمتطياً هذه الدابة فتهلل له الشعب ” !!

 صفية .. وحربي.. والقنصل

من الناحية الأخرى تتشكل صورة ” خالتي صفية ” كقطب ثانٍ في هذه الرواية الجميلة ، بل والفاتنة !!

فبمثل ما فعل الراوي ، بذهابه بعلبة الكحك الى الدير ، كان يذهب الى قصر ” خالتي صفية ” يترك لها الهدية ، دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة ، وذلك وفقاً لتعليمات الحاجة والدته ، يتركها بجانب ابنها الطفل الصغير ” حّسّان ” اذا كان مُستيقظاً دون أن يقول لها ” عيد مبارك ، أو كل سنة وانتٍ طيبة يا خالتي ” أو ” أي كلام مالوش لازمة ” !!

غير أن الصبي كان يعشق   ” خالتي صفية ” منذ زمن ، فهي باهرة الجمال ، صغيرة الأنف والفم ، وكلما قّصّتْ جزءاً من شعرها الأسود ، نما وأسترسل عَلى ظهرها ناعماً وغزيراً حتى بتجاوز الطرحة السوداء التي كانت تُغطي كتفيها وظهرها ، أما عيناها فكان جمالها فريداً، وكل من يرى خالتي صفية ، سواء عند الصباح والنهار أو عند المساء ، يقول ” بسم الله ماشاء الله ” سبحان الخالق العظيم !!

لم يّر الصبي جمالاً مثل جمال خالتي صفية ، لم يكن ينافسها في هذا الكون ، سوى الفنانة “فاتن حمامة ” التي وقع الصبي  في غرامها عند أول فيلم شاهده في سينما الأقصر ….

خالتي صفية ، لم تكن سوى طفلة ، تّكبُر الصبي بنحو تسع سنوات ، وهي ابنة أب وأم ماتا في وباء الكوليرا الذي ضرب صعيد مصر خلال سنوات الأربعينيات ، فحصد أرواح عشرات الألاف من الفقراء وغير الفقراء ، فباتت تلك الفتاة يتيمة الأب والأم في لحظات !!

وعند هذه الساعة ، لم يكن بيت الصبي سوى بيتها ، وشقيقاته  البنات الأربعة هن أخوتها ، ولأن الحاج والحاجة والدة الصبي ، هما من  أقاربها من أكثر من ناحية ، فبات والده الحاج ، هو أبوها وولي أمرها ، شرعاً وقانوناً ، والوكيل الوحيد عن كل شؤونها وأرضها وكل ماتملك ، فقد اعتبر قاضي الأقصر ، وهو من نفس القرية ، الحاج هو الوصي المأمون عَلى تربية اليتيمة ورعاية ميراثها ، وكان نٍعمّ الأب ، فهو الدارس للقرآن ، وخريج معهد الأزهر في أسيوط ، وخطيب الجمعة في مسجد القرية عندما يتغيب إمام المسجد ، فوجود الحاج ، هو الخير والبركة ، وهو القادر بحمد الله عَلى أن يّسُدْ أي فراغ ، سواء في عمليات الصُّلح  بين الأهالي المُتّخاصٍمينْ ، أو  رد الأمانات الى أهلها …

وبمثل ما كانت خالتي صفية ، هي نوارة القرية ، وملكة جمالها المُتوجة ، فإن “حربي ” هو أجمل شباب القرية ، وقد وُلدّ يتيماً أيضاً ، وهو ابن عّم والد الصبي ، وقريب الحاجة ، وبات من كل الجوانب  هو نظير خالتي صفية ، في كل شئ ، فأرضه التي ورثها عن والده تُجاور أرض الحاج ، وكثيراً ما كان يقوم بالنيابة عن الوالد برعايتها عندما أخذت مهنة التدريس من وقت الحاج ، مما تّعّذّرْ معه رعايتها رعاية كاملة !!

خالتي صفية ، والتي كانت ترى ” حربي ” كثيراً عندما كان يزور الحاج في بيته ، تمنت أن يكون زوجاً لها ، فقد رفض الحاج كل الخُطّابْ الذين توافدوا الى بيته لخُطبتها ، غير أن مقصدهم خاب لإصرار الحاج عَلى بلوغها السن القانونية للزواج ، أي أربعة عشر عاماً …

لكن خالتي صفية تجاوز عمرها الستة عشر بقليل ،  مما أصاب الحاجة بقلق عَلى البنت ، فكيف تصل الى هذا العمر دون أن تكون في ” بيت العّدّل ” !!

غّيرّ أن هذا القلق لم تهتز له ” خالتي صفية ” ولو للحظة واحدة ، فإنتظارها ل ” حربي ” كان هو رغبتها في الحياة !!

غير أن حربي ، لم يأت ، ولم يطلب يد أحد !!

وفي ذات صباح جاء حربي الى البيت وفي معيته ” البك القنصل ” وهو حفيد عسران بك الكبير ، وهو حاصل عَلى رتبة البكوية من أيام الملكية ، ويملك أكبر بيت في القرية ، ولكنه يعيش في الأقصر في بيت كبير هو ” السراي ” الذي تتسع مساحاته والحدائق المحيطة به بصورة تتجاوز كل تصور !!

كان ” البك القنصل ” يملك آلاف الأفدنة ولكن طُبقّ عليه قانون الإصلاح الزراعي الذي جاءت به الثورة ، وأصبح كل مايملك من الأرض هو مائتا فدان فقط ، تركها لقريبه ” حربي ” يرعاها ويتولى كل شؤونها ، فتجارته الواسعة في كل شئ ، وعشرات العمارات التي يملكها في أكثر من مدينة ، جعلت من قرارات الإصلاح قدراً لا يملك له رداً، فضلاً عن أن ثروته المُترامية بين مصر والسودان ، والتي كان يديرها من القاهرة والأقصر ، كانت كفيلة بالمحافظة على ثرائه الكبير  ، فلم تهز قرارات الثورة إمبراطوريته المالية بشئ !!

” البك القنصل ” الذي لم يعمل بالسلك الدبلوماسي قط ، ولكن أخذ لقبه بوصفه القنصل الفخري لمملكة اليونان ، جاء الى القرية قاصداً بيت الحاج ، وبصحبته ” حربي ” لا  ليصل  الرحم والإطمئنان عَلى الأهل ، حتى لو كانوا من بعيد !!

جاء ليخطب ” خالتي صفية ” وهو الذي وصل عمره الى أربعة أمثال عمر ” خالتي صفية ” أو يزيد !!

وبتزكية مٍنْ مّنْ ؟؟

من ” حربي ” العريس المُنتظر !!

وعندما سمع الحاج بمطلب ” البك القنصل ” مادت به الأرض ، ولم تّقو  قدماه  عَلى حمله !!

غير أنه تّماسك ، وتحرك بأقدام ثقيلة ومُتثاقلة الى حجرة ” خالتي صفية ” وهو عَلى يقين برفضها ، فكيف تقبل فتاة تجاوز  عمرها  الستة عشرة  ربيعاً بقليل  ، بمن تجاوز عمره ” ستين خريفاً ” بل ويزيد !!

لم يصدق الحاج أُذنيه ، ولم تدرك الحاجة حجم المصيبة التي حلت بها وبخالتي ” صفية ” عندما سألها الحاج عن رأيها في هذا الزواج !!

كان ردها:

” الأمر أمرك ياوالدي، المشورة مشورتك  ، ولكن أنا موافقة على البك القنصل ، سأتزوجه وسأعطيه ولداً ، والأمر أمرك ” !!

لم ينطق الحاج سوى بكلمة واحدة :

” بل الأمر لله من قبل ومن بعد ” .

وخرج من غرفتها ، وبمثل ما جاء اليها مُتثاقلاً ، عاد الى ” البك القنصل ” ليبلغه موافقة “خالتي صفية ” …

وهكذا تزوجت ” خالتي صفية ” على سُنّة الله ورسوله ، لتخرج من بيت الحاج لتعيش في السراي …

ولكن ما حدث بعد ذّلٍك لا  يُرضي الله ولا يُرضي رسوله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock