مع سقوط دولة خلافة بني العباس وعاصمتها بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي على يد جحافل المغول الغازية٫ نشأت دولة جديدة اتخذت من مصر قاعدة ومقراً لها وتصدت للخطريْن المغولي والصليبي على حد سواء وهي دولة المماليك.
وما كان لدولة اتخذت من مصر نقطة انطلاق وتوسعت منها الى الشام والعراق والحجاز أن تتجاهل مصدر الحياة والنماء في أرض الكنانة أي نهر النيل.
أدوارٌ متعددة
يؤكد المؤرخ المصري الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “النيل والمجتمع المصرى فى عصر سلاطين المماليك” أن النيل في عصر الدولة المملوكية لعب أدوراً عديدة في مقدمتها الدور الاقتصادي٫ حيث كان النيل هو الطريق الأساسي للانتقال بين مدن البلاد من شمالها إلى جنوبها.
فعلى “صفحة النهر الخالد٫ كانت تسير السفن النيلية والمراكب تحمل الغلال والماشية وشتى انواع البضائع مصعدة جنوباً أو منحدرة شمالاً”.
وكانت حركة هذه السفن والمراكب النيلية المشار إليها كثيفة للغاية في العصر المملوكي لدرجة أن مؤرخاً معاصراً لتلك الفترة هو ابن ظهيره يصف الحركة بقوله “ليس في الدنيا نهر تجري فيه السفن أكثر من نيل مصر” وهو ما يؤكده الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي زار مصر في تلك الفترة بقوله “إن في نيل مصر ستة وثلاثين ألف مركب للسلطان والرعية تمر صاعدة الى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات”.
ويبدو – وفقاً للمؤلف- أن كافة المدن والقرى المصرية المحاذية لمجرى النيل في العهد المملوكي كانت لها موانئ ولو بشكل بدائي بسيط.
وكانت أهمية النيل تزداد في أوقات المجاعات والقحط حيث كان السلطان المملوكي عادة ما يرسل إلى تجار الوجه القبلي لشراء القمح الذي تحتاجه العاصمة ولا سيما من منفلوط حيث كان الصعيد هو “مورد القمح الرئيسي في البلاد”.
كما كان الصعيد يورد أيضاً عبر النيل الى القاهرة قطعان الأغنام والماشية وكان الجزارون يستقبلونها في موانئ العاصمة.
أما الاستخدام العسكري للنيل فيمكن فهمه في سياق طبيعة دولة المماليك كدولة أنشأها فرسان نشأوا في الطباق أو ما يوازي اليوم الثكنة العسكرية ، فقد حرص سلاطين المماليك – كما يؤكد الدكتور قاسم – على تأمين السفن التجارية المسافرة في النيل٫ ومن أمثلة استخدام النيل في سياق الدفاعات العسكرية ما قام به السلطان بيبرس من ردم لفرع دمياط لكي لا تتمكن سفن الغزاة من الدخول اليه.
كما حملت مياه النيل كثيراً من الحملات العسكرية التي خرجت ضد الفرنجة وقراصنة البحر الأبيض المتوسط٫ كما أن بعض المعارك التي هٌزم فيها جيش ملك فرنسا لويس التاسع واُسر هذا الأخير جرت على صفحة النيل قرب المحلة من جهة والمنصورة من جهة أخرى.
وكانت هذه الأساطيل لدى عودتها من غزواتها ظافرة٫ يخرج الأهالي لاستقبالها بنفس الحماسة التي كانوا يودعون بها الحملات لدى خروجها إلى ميادين القتال.
كما كان النيل شاهداً أيضاً على حملات عسكرية داخلية لقمع المسلحين وتأمين الموانئ مثل الحملات ضد العُربان لوقف عدوانهم على الفلاحين في قراهم اضافة الى حملات أرسلها سلاطين المماليك عبر النيل لردع ملوك النوبة حينما كانت تتكرر اعتداءاتهم على الموانئ المجاورة لهم مثل أسوان.
النيل .. “كوثر”
ثم يٌفرد المؤلف فصلاً كاملاً لرصد كتابات مؤرخي العصر المملوكي عن نهر النيل٫ حيث كان من العادات المتبعة في ذلك العصر أن يٌصدر “ديوان الإنشاء” المسؤول عن مكاتبات الدولة رسائل البشارة بوفاء النيل أي بالفيضان “حتى تطمئن القلوب وترتاح النفوس”.
ومن بين رسائل البشارة المشار إليها تلك التي كتبها تقي الدين أبو بكر بن حجة واصفا فيها وفاء النيل بأسلوب شعري قاىلاً :
“وأطال الله عٌمر زيادته فتردد إلى الآثار وعمته البركة فأجرى سواقي ملكه الى أن غدت جنة تجري من تحتها الانهار”.
أما الفقيه والمؤرخ جلال الدين السيوطي فيصف النيل بقوله “وأما النيل فقد امتدت أصابعه٫ وتكسرت بالموج أضالعه٫ ولا يعرف الآن قاطع طريق سواه ولا من يٌرجى ويُخاف إلا إياه”.
ولم يقتصر الأمر على الكُتاب والمؤرخين وإنما أدلى شعراء المرحلة أيضاً بدلوهم وأسهبوا في وصف النيل بشكل لا يخلو من المبالغة مثل النص الشعري الذي يورده المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”:
“لعمرك ما مصر بمصر
وإنما هي الجنة لمن يتبصر
فأولادها الولدان من نسل آدم
وروضها الفردوس والنيل كوثر”
ويخلص المؤلف إلى أن كٌتاب عصر المماليك أدركوا قيمة النهر العظيم ودوره في حياة المصريين٫ لذلك تباروا في الكتابات التي يعددون فيها فضائله وأثره على البلاد والعباد.