أثار قرار لاعب الوثب العالي “معتز برشم” اقتسام الميدالية الذهبية مع منافسه الإيطالي “جيانماركو تامبيري”. ردود فعل واسعة وإعجابا كبيرا في الأوساط الرياضية والأوليمبية، كما أعاد هذا الموقف إلى الأذهان العديد من القصص الرائعة التي تجلت فيها الروح الرياضية في الأولمبياد.. ونحن نتذكر هنا قصة بطلنا العظيم الذي لم يبهره بريق الذهب، ولم تلعب برأسه أحلام اعتلاء منصة التتويج؛ برغم أن ذلك كان حقا خالصا له.. والسبب أن هذا النصر إذا تحقق سيكون ملوثا باستغلال إصابة الخصم في مباراة قبل النهائي.. تساءل البطل: ما جدوى أن يتحقق حلم السنوات الأربع على حساب التخلي عن أسمى القيم؟!.
ليكن الانتصار للروح الرياضية أعز وأبقى مما سواه، دون حساب للعواقب.. لكن فارسنا سيجد العالم كله يقف احتراما وتقديرا له على ذلك الصنيع؛ وقد كان هذا مدهشا جدا له؛ فهو لم ير في فعله ما يستحق الثناء..” لم أفعل في حقيقة الأمر إلا ما رأيت أنه من الواجب عليّ فعله”.
إنه محمد رشوان ابن الإسكندرية الذي بدأ لاعبا لكرة السلة؛ ثم ما لبث أن انصرف عنها إلى لعبة لم تكن قد حظيت بعد في مصر بالجماهيرية ولا الشهرة، لكن شيئا ما جذبه إليها، ربما كان ما رآه فيها من قدرات ومهارات يكتسبها اللاعب الموهوب بالمران، فيصل فيها إلى حد الإجادة الكاملة، أما على بساط المنافسة فإنه يستخدمها بحساب دقيق مراعاة لضوابط أخلاقية صارمة لازمت تلك اللعبة منذ نشأتها، لأن “الجودو” وإن كانت رياضة تقوم على المنازلة ومحاولة طرح الخصم أرضا إلا أنها تختلف عن غيرها في خطورة بعض حركاتها الهجومية؛ لأن اللاعب في هذه الحالة إذا لم ينتبه جيدا فمن الممكن أن ينقلب هجومه إلى هزيمة خاطفة، كما أن عديدا من تلك الحركات الهجومية ينطوي على مغامرة يجب أن تكون محسوبة بدقة وإلا انتهى الأمر إلى إصابة خطيرة.
ينتظم رشوان في التدريب على يد مدرب قدير هو الكابتن عبد المنعم الوحش؛ وما هي إلا ستة أشهر فقط حتى يستطيع الحصول على المركز الأول في بطولة الإسكندرية تحت سن الثامنة عشرة، وتبدأ مسيرة البطولات، ويشهد عام 1975، أول مشاركة لرشوان خارج مصر في البطولة الدولية بتشيكوسلوفكيا، وفي نفس العام يشارك في بطولة إسبانيا، وبعد ذلك بخمس سنوات يمثل مصر في بطولة العالم العسكرية في كلورادو، ويعتلي بطلنا منصة التتويج مكتفيا بالميدالية البرونزية؛ وبعد عامين -وفي البرازيل- يضيف رشوان برونزية أخرى إلى ميدالياته، متطلعا إلى خوض المباراة النهائية في إحدى البطولات الكبرى التي أصبح اسمه فيها معروفا، وفي العام 1982، يقدر لرشوان أن يذوق طعم الذهب الإفريقي فيفوز بذهبيتي إفريقيا في وزن الثقيل والمفتوح، ثم يحتفظ بهما في العام التالي دون منافسة حقيقية؛ لكن ساحات المنافسات الدولية هو ما كان دائما نصب عينيه؛ وكان قد خاض مباراة كبيرة في نهائي دورة ألعاب البحر المتوسط المقامة بأثينا، ولكنه حاز الفضية في وزن فوق 95 كجم.
ثم تأتي دورة الألعاب الأوليمبية في لوس أنجلوس، والآمال معقودة على البطل محمد رشوان ليحقق حلم الميدالية الذهبية التي غابت عن مصر منذ اقتنصها الملاكم عبد المنعم الجندي بدورة روما عام 1960، وتسير الأمور على خير ما يرام ويصل بطلنا إلى المباراة النهائية؛ ليواجه بطل العالم لثلاث مرات متتالية الياباني” ياسوهيرو ياماشيتا” الذي وصل النهائي بصعوبة مصطحبا معه إصابة بالغة في الركبة، ويقف الشعب الياباني على أطراف الأصابع يراقب المباراة منتظرا ما سيفعله اللاعب المصري حيال هذا الأمر، والكل يعلم أن باستطاعته الفوز بسهولة إذا لعب على تلك الإصابة، وله من الإمكانات والمهارات ما يمكنه من ذلك دون التعرض لمكان الإصابة بشكل مباشر؛ لكن أيا من ذلك لم يحدث؛ فلقد تجنب البطل المصري الاقتراب نهائيا من الركبة المصابة، ولم يسع لفوز ملوث لن يضيف إليه بقدر ما سيخصم من رصيده الأخلاقي واحترامه لنفسه، ويخوض رشوان مباراة هي الأرقى في تاريخ الرياضة العالمية، وتنتهي المباراة بفوز البطل الياباني، وحصول رشوان على الميدالية الفضية، ولكن العالم بأسره سيقف احتراما وتقديرا له، وخاصة الشعب الياباني الذي أصبح رشوان منذ تلك اللحظة أحد معشوقيه الكبار.
يحكي بطلنا الواقعة فيقول:” كان من المقرر أن ألاقي “ياماشيتا” العظيم؛ وكنت قد علمت أنه أصيب في ساقه خلال الجولات التمهيدية للبطولة، وأنه لم يعد يمتلك كل إمكانياته.. في الواقع لم أرد نصرا كهذا. لم أكن أريد أن يقول الناس ذات يوم إنني فزت لأن “ياماشيتا” كان مصابا. كان من الصعب جدا أن أقبل ذلك على نفسي. في تلك الفترة كنت أميل إلى الهجوم من كلا الجانبين، يسارا ويمينا؛ لكن أثناء وقوفي على بساط المباراة النهائية الأولمبية، لم أتمكن ببساطة من الهجوم بقوة على الساق المصابة لخصمي. ذهبنا إلى الوضع المعروف بالـ “ني وازا”، ولكنه شل حركتي وفاز باللقب الأولمبي. بالطبع شعرت بخيبة أمل؛ ولكني كنت سعيدا من أجله. خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب ذلك، سألني بعض الصحفيين عما إذا كنت أعرف بإصابة “ياماشيتا” قلت بطبيعة الحال: “نعم وهذا ما منعني حقا من القتال”. لأكثر من عام لم تحاول أي جهة التواصل معي بشأن ما حدث. ثم حدث ذات يوم أن اتصلت بي اللجنة الدولية للعب النظيف لتبلغني أنها منحتني ميدالية اللعب النظيف عن عملي في المباراة النهائية للألعاب.. لقد كنت فخورا جدا”.
في صبيحة اليوم التالي أصدرت منظمة اليونسكو في صبيحة اليوم التالي للمباراة بيانا خاصا تشيد فيه بالبطل المصري، كما قررت المنظمة منحه ميدالية الروح الرياضية، كما حاز رشوان جائزة اللعب النظيف عام 1985، وجائزة أحسن خلق رياضي في العالم من اللجنة الأوليمبية للعدل بباريس، وقد قلدته الدولة المصرية أرفع الأوسمة.
وعندما لبى رشوان الدعوة لزيارة اليابان تم استقباله بشكل غير مسبوق، وحظي بتكريم كبير من الشعب الياباني، كان من آثاره أن خفق قلب البطل لإحدى اليابانيات، وكان الزواج السعيد الذي أثمر ثلاثة أبناء.
نال رشوان أيضا جائزة «بيار دي كوبرتان» باعث الألعاب الأولمبية الحديثة لعام 1984، وحصل على شهادة امتياز خاصة لأحسن خلق رياضي لعام 1984م، وجاء ضمن أفضل ستة لاعبين في العالم عام 1984، كما اختارته مجلة «الإيكيب» الرياضية الفرنسية كثاني أحسن الرياضيين خُلقا في العالم. وتم اختياره ضمن أحسن 16 شخصية على مستوى العالم في تاريخ لعبة “الجودو” وذلك أثناء إقامة بطولة العالم في “ريودى جانيرو” بالبرازيل2013.
وفي ربيع عام2019، منحت الحكومة اليابانية البطل المصري، وسام الامبراطور “أكيهيتو” وسام الشمس المشرقة “كيوكوجيتسو شو” تكريما له على مساهماته الفعالة في نشر لعبة الجودو حول العالم؛ وتقديرا للدور الكبير الذي يلعبه في نقل الثقافة اليابانية إلى مصر، والتعريف بها في شتى المجالات.. وقد تسلم “رشوان” الوسام في حفل كبير أقامه السفير الياباني بمقر السفارة بالقاهرة.
ويحتفل المصريون كل عام في ساقية الصاوي بالبطل “رشوان” في فعالية يطلقون عليها “احتفالية رشوان الأخلاقية” وذلك من أجل ترسيخ الأخلاق والروح الرياضية لدى الرياضيين وغيرهم.. كما يحضر الاحتفالية الياباني “هيدياكي ياماموتو” مدير مركز الإعلام والثقافة، اعترافا منه بجميل رشوان الذي لا ينسى ولا يقدر بثمن.
اعتزل البطل محمد رشوان اللعبة عام 1992؛ ليصبح بعد ذلك حكما دوليا، ثم عضوا باللجنة الفنية لاتحاد الجودو، ثم مشرفا عاما على اللعبة بنادي المقاولون العرب؛ ثم مشرفا عاما على الفريق الوطني.. ليبقى نموذجا فريدا للرياضي الخلوق الذي أدرك بيقين حقيقة الروح الرياضية فكانت عنده أغلى عنده من الذهب.