ثقافة

“العروي” والتراث.. قطيعة أم تواصل مشروط؟! (1-3)

في أحيان كثيرة يكون الانشغال الشديد بالتراث؛ داعيا إلى الاكتفاء به ونشدان كل شيء عبر قناته، ورفض كل ما يخالفه، ولو كان خلافا ظاهريا لا ينبني عليه شيء ذو قيمة.. يهمل أتباع هذا الاتجاه، مواضع عديدة من التراث تدعو إلى تلمّس “طرائق” جديدة إذا سلكناها نكون أكثر قدرة على فهم واقعنا وتمحيصه؛ على نحو يستأنسه، ويهدئ من غلوائه واحتداماته المتكررة، ونحن في سبيلنا للبحث عن منقذ من حالة الاستقطاب الشديد التي لا تورث إلا التناحر وأحيانا الاقتتال، في ظِلّ تسلُّط القوى المعادية التي تُعْمِل فينا مخططاتها؛ لندفع الثمن مضاعفا بعوامل تهافت الداخل وتناحر الخارج!

لقد صار تراثنا – بالنسبة لنا- قضية معلقة تستعصي على الحسم، وتتأبى على الاستجابة الناجعة لكل منهجية عرضت عليها؛ فصارت عبئا يصعب حمله والتخفف منه في آن.

إن الوقوع في أسر الحدِّية لا يمكن أن يكون سبيلا للخروج من أزمتنا في التعامل مع التراث؛ كما أن الرؤية “التلفيقية” لن تهبنا مسارات أخرى أقصر لبلوغ غاية الفكاك من أسر التخلف.. فهل نحن مطالبون للخروج من هذا المأزق، بالدخول في حالة “فقدان ذاكرة” ولو لبعض الوقت؛ حتى تلتئم في عقولنا تلك الجراح التراثية الغائرة؟! أم ان ذلك الفقدان “المتعمد” لا يمكن أن يسلمنا إلا إلى “المسخ” وضياع الملامح وانطماس الصورة!

إن ذلك التناقض الحادث بين القبول والتسليم -بما يشبه التقديس للتراث- والرفض التام الذي يصل حد الازدراء، من الصعب أن يؤدي إلى نتائج جيدة.

العروي

وقد كان من المنطقي أن تتجه العيون نحو أوروبا؛ لاستلهام تجربتها في النهوض من إرث الماضي الذي أنهكها قرونا، وتسبب في إفناء الملايين.. يقول المفكر المغربي المعاصر عبد الله العروي: “إن أوروبا انتهجت من أربعة قرون منطلقا من الفكر والسلوك، ثم فرضته منذ قرون على العالم كله. ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنتهجه بدورها فتحيا أو ترفضه فتفنى”. وبالقطع فإن هذا الرأي يسلم ابتداء أن الحل يكمن ببساطة في اتباع النهج الأوروبي الذي يُمثّل السبيل الوحيد للنجاة من الفناء- الذي نحن في طريقه الآن- وإذا كان اعتناق هذا الفكر أمرا يمكن التعاطي معه بشيء من المعقولية، إلا أن التزامه سلوكيا يحتاج إلى وقت طويل، وفي النهاية فإن العروي لا يضمن وفق هذا المنهج نجاة على الطريقة الأوروبية، بل هو فقط يريد أن يخرجنا من حال “الانكماش والانعزال” الذي نغرق فيه وننعته تلطفا بـ “الأصالة والخصوصية” لأن ذلك من وجهة نظره ما هو إلا “رجوع إلى نظريات الماضي” بقصد الحفاظ على أصالة فارغة؛ وهو بحسبه ما “يعوق التقدم”.

لعل ما يبرر تلك الحدة في التعاطي مع قضية التراث عند العروي؛ هو وقوفه على فرضية أن استحضار التراث على هذا النحو من التقديس، والإغراق في نصوصه بما يورث حال الانفصال عن الواقع؛ لحساب الفكر السلفي الذي يرى العروي ضرورة اجتثاثه من المحيط الثقافي؛ قبل أن نحاول علاج آثاره الضارة في كافة مناحي الحياة، لكن ذلك “يستلزم منا كثيرا من التواضع والرضا بأن نتميز عن الغير بنبرتنا فقط لا بمضمون ما نقول”.

ورب معترض يقول: ستكون حينئذ ثقافتنا تابعة لثقافة الغير”.

وحتى نتبين منهج العروي بصورة أكمل نعود إلى ما قاله عن نفسه إذ يقول: “لا أرى نفسي فيلسوفا.. من يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟! ولا أرى نفسي متكلما، ولا حتى مؤرخا هَمّه الوحيد استحضار الواقعة، كما وقعت في زمن معين ومكان محدد”. ويضيف: “لم أرفع أبدا راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ؛ بل رفعت راية التاريخانية، في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية، لكثرة ما فُنِّدت وسُفِّهت”.

والتاريخانية كما يشير العروي هي مسار تاريخ العلم، فهو يدافع عن “واحدية التاريخ البشري”. حيث أن التاريخ العالمي عنده هو خط واحد يتقاسمه جميع العالم تداولا وتكاملا.. إنه خط تاريخي تنتظم عليه حضارات العالم كلها، ويظهر ذلك في عملية “التحقيب”. من هذا المنطلق يتساءل العروى عن مدى إمكانية تجاوز فكرة أن الحضارة الإسلامية قد انبنت على الدين على الإسلام بوصفه دينا للإنسان والدولة والحضارة والمستقبل!

في هذا الطريق الذي يرى العروي أن علينا أن نسلكه؛ يرى أنه يتوجب علينا تخليص لغتنا من محمولها التراثي، وكذلك تخليتها من أية مضامين تراثية، وهو سبيل الخلاص الوحيد – من وجهة نظره- حتى لو كان ثمن ذلك تبعية كاملة لثقافة الغير، وهو -بحسبه- ليس ثمنا فادحا في مقابل ما سنجنيه من اليقظة من “سباتنا الطويل وتقهقرنا المتواصل واتباعيتنا (سنيتنا) المُركّبة”.

العروي

ينظر العروي إلى هذا المحمول التراثي العربي أنه ثمن باهظ جدا دفعناه ذاهلين، في مقابل حصولنا على “القومية الثقافية الفارغة” التي غذت لدينا النزوع نحو الاستعلاء، والامتلاء بالفخر؛ فتأخرنا بسبب ذلك وتجاوزتنا الأمم إذ أننا على حد قوله “افتخرنا طويلا وأنتجنا قليلا”.

برغم وضوح منهج العروي في رفض التراث وتعريته من كل قيمة إلا أنه – وربما بدافع الحنين- يعود ليبرر موقفه هذا، بأنه ليس بدعا من المتعاملين مع تلك القضية الشائكة فيقول: “إن المنطق الذي أدعو إليه هو أيضا موجود في تاريخنا وفي تجاربنا الماضية، إلا أن الخمول ذهب بنا إلى حد أننا لا نختار من تاريخنا ما يُحفّز ويحيي بل نفضل ما يُخدّر ويميت، عوضا عن أن نخص بالتحليل تلك النصوص التي تعلمنا الجدية في السياسة، واعتماد الحزم والقوة واعتبار المصالح وأخذ الحيطة والاستمرار في الهدف، وأن يكون الكلام دون العمل، فإننا عكس ذلك نُفضّل الكلام عن فلسفة التصوف وأفكار الغزالي الذي لم يكتب كلمة واحدة عندما سقطت القدس في أيدي الصليبيين، مع أنه عاش اثني عشرة سنة بعد سقوطها”.

يرفض العروي هنا تلك الانتقائية التي كانت ديدن كثير من القدماء؛ وليس بمثلهم يحتج علينا الآن، ويبدو أن داء الانتقائية قد امتد إلى زماننا المعاصر؛ حتى أننا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود يؤسس لموقفه من التراث على أساس النفعية الانتقائية منطلقا من الفلسفة الوضعية المنطقية التي اتخذها معيارا بغض النظر عن كونها تدعو إلى التحليل الجزئي والوصفي للظواهر، ولا تتكشف القوانين العامة للحركة في الفكر والحياة بحسب الدكتور محمود أمين العالم.

العروي

رويدا رويدا ينتقل عبد الله إلى تشريح المصطلحات المتعلقة بالتراث؛ فيحاول التمييز بين الخصوصية والأصالة فيصف الأولي بأنها “حركية متطورة” أما الثانية فيراها “سكونية متحجرة ملتفتة إلى الوراء”!

في مقابل ذلك يرى البعض أن الفصل بين كلا المفهومين خطأ فادح إذ أن الأول هو أساس فهم الثاني.

بهذا الخصوص يقدم لنا أمين العالِم رأيا آخر فيقول أن “الخصوصية تعتبر مفهوما لنوعية البنية الاجتماعية والاقتصادية، وتكون الأصالة مفهوما لخصوصية البنية الثقافية، وتعبيرا عن البنية الاجتماعية والاقتصادية”.. ويرى العالِم أنه بذلك قد ميَّز منهجيا بين كلا المفهومين.

وعلى الرغم من أن معرفة العروي بالتراث واسعة جدا، إلا أن تنازعه بين مع وضد قد أورده كثيرا من الموارد، فهو بين حال الرفض التام لتقديس التراث الذي اعتبره تأسيسا للفكر السلفي الذي جرَّ على الأمة كثيرا من الويلات، ورفضه أيضا للانتقائية المعتمدة منذ زمن في التعامل مع التراث- يؤكد العروي على أهمية استيعاب الفكر الغربي – وفق إطار أيدلوجية ماركسية- على أن تضطلع بهذا نخبة مثقفة تتحرك في إطار الثغرات الموجودة في البُنِى السياسية والاجتماعية، بهدف الوصول إلى البناء الاقتصادي الذي تتحقق به الحداثة والعصرية، كما يرى أن المرحلة الليبرالية مرحلة لابد من المرور بها في طريق بنا الواقع الثوري الجديد.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock