في الرابع والعشرين من يناير عام 1972، احتل طلاب الجامعة ميدان التحرير بأعداد كبيرة، ورفضوا الانصراف، رغم التهديد من جانب قيادات الأمن بفض الاعتصام بالقوة.. وفي اليوم التالي ألقى السادات خطابا تحدث فيه عن الطلاب الطيبين الذين تقودهم “قلة منحرفة” لا يتجاوز عددهم عشرين طالبا وطالبة؛ دأبوا على سب أساتذتهم، والتطاول على القيادات، وهم يدخنون بشراهة، ما اعتبره الرئيس “مسخرة وقلة أدب” قبل أن يصرّح بعبارته التي انتشرت بسرعة مذهلة بين جموع المواطنين التي قال فيها “أنا ما أقعدش مع رُزَّه “!.
كان عام الحسم لشن الحرب على العدو الصهيوني – كما أسماه السادات- قد انقضى دون تغيير للوضع المتأزم، ما اعتبره البعض مماطلة وتسويفا، خاصة بعد أن ساق السادات ذريعة مضحكة للإرجاء وردت في خطابه يوم الثالث عشر من يناير عن انشغال العالم بالحرب الهندية الباكستانية التي اندلعت مؤخرا؛ ما أشعل الغضب الطلابي في جامعة القاهرة التي كان طلابها منشغلين بإقامة معرض لمناصرة الثورة الفلسطينية؛ احتفالا بذكرى انطلاقها.
قبل ذلك بأيام وفي مشهد جليل يتذكره جيدا هذا الجيل من الطلاب وقف أحمد عبد الله رُزَّه طالب السنة النهائية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بين جموع الطلاب الذين احتشدوا بأعداد كبيرة لم تشهدها الجامعة من قبل؛ شارحا حقيقة الموقف المتخاذل؛ الذي يعبر بجلاء عن وضع يفاقم الأزمة، صنعه نظام لا يملك حلولا ولا دوافع لخوض حرب التحرير، ناهيك عن تمسك مقيت بنهج قمع الحريات، والديمقراطية الشكلية واستخدام لأساليب عفا عليها الزمن للمراوغة والإرجاء.
رزه يقود ثورة الطلبة
بهذا الحضور الطاغي وذلك الوعي العميق وتلك اللغة الصادقة الرصينة- تحوّل المؤتمر الموسع الذي دعا رزه إليه بالجامعة مساء الخامس عشر من يناير- إلى اعتصام مفتوح، في تصعيد واضح للاحتجاجات الطلابية أرغم السلطة المرتبكة على إرسال أحد مسئولي الاتحاد الاشتراكي العربي للتفاوض؛ ولكنه فشل في الرد على الأسئلة التي طرحها أحمد عبد الله وزملاؤه، وكان كل ما استطاع أن يصرح به لهم أن الرئيس وحده هو الذي يستطيع الرد على تلك الأسئلة، بعد ذلك بعدة أيام أقيم مؤتمر كبير بكلية الاقتصاد، ووجه زعيم الطلبة الدعوة إلى رئيس الجمهورية للرد على الأسئلة في مؤتمر يعقد في العشرين من يناير بالجامعة، طالما أنه الوحيد القادر على الرد!
أصدر الطلاب بيانا يوضح ما اتفقوا عليه من مطالب، داعين رئيس الجمهورية إلى سرعة الاستجابة، مع الدعوة إلى استمرار الاعتصام داخل الجامعة، وكانت جامعتا عين شمس والإسكندرية، قد بدأتا في فعاليات مماثلة، وبطريقة المراوغة العقيمة ذاتها بدأت السلطة التحرك لإجهاض الحراك الطلابي؛ فأتت بالمهندس عزيز صدقي رئيسا للوزراء؛ وتم تعيين سيد مرعي –أحد كبار الإقطاعيين- أمينا للاتحاد الاشتراكي العربي، وأعلنت عن عدد من القرارات الاقتصادية زعمت أنها بمثابة استعداد جاد للمعركة الحاسمة. وبمجرد أن وصلت تلك الأخبار إلى الجامعة كان الصوت الثائر يدوي مجددا ليكشف للطلاب حقيقة هذا الدجل السياسي الذي يمارسه النظام؛ مؤكدا على عقد الاجتماع في موعده، وتجديد الدعوة لرئيس الجمهورية بالحضور، وتم المؤتمر في الموعد المقرر بحضور نحو 20 ألفا من الطلاب، وتم فيه الإعلان عن تشكيل اللجنة الوطنية العليا للطلاب التي ضمت ممثلين لكافة الكليات، واعتبرت بديلا للاتحادات الطلابية التي يسيطر عليها الأمن، وتم إصدار وثيقة بالتوصيات والمطالب التي طرحها ممثلو الكليات المختلفة، وتزامن مع هذا المؤتمر مؤتمرات مماثلة في جامعات الأزهر وعين شمس والإسكندرية.
وعلى مدى أربعة أيام استمرت الفعاليات بزخم هائل رغم محاولات النظام شق الصف، باختلاق بيان باسم طلاب جامعة الإسكندرية، كما تم استخدام الإعلام في ترويج الاكاذيب حول استجابة الرئيس لمطالب – أبنائه- الطلاب، واستمرت التحايلات مثل دعوة للقيادات الطلابية لحضور جلسة بمجلس الشعب، يتمخض عنها اجتماع مع الدكتور جمال العطيفي ينتهي إلى لا شيء بعد ظهور وفد طلابي-على حين غرة- يمثل الاتحادات الطلابية يحمل وجهة نظر مغايرة.
يعود أحمد إلى ساحة الجامعة، وقد اشتعل غضبا بسبب تلك الممارسات غير المسئولة من قبل النظام، ولكنه يفاجأ هو وزملاؤه في صباح الاثنين الرابع والعشرين من يناير باقتحام الجامعة بجحافل ضخمة من قوات الأمن، ويتم إلقاء القبض عليه ضمن 1500 طالب وطالبة بعد مصادمات تعرض فيها الطلاب للضرب بالعصي المطاطية والهراوات، والقنابل المسيلة للدموع، ولم يكن الوضع في جامعة عين شمس ليختلف عن ذلك، وربما كان أسوأ، وتم إصدار قرار بإغلاق الجامعتين وبدء إجازة نصف العام، وفي صباح اليوم التالي اجتمع نحو عشرين ألفا من الطلاب، وتوجهوا إلى ميدان التحرير، وعقدوا مؤتمرا ضم آلافا أخرى، لكن قوات الأمن اقتحمت الميدان واعتدت بالضرب على الطلاب، الذين ملأت دماؤهم الطاهرة أرضه واختلطت بترابه، ولكن المواطنين تدافعوا إلى الميدان لنجدة الطلاب وإسعافهم، واشتعل الغضب بسبب تلك الممارسات القمعية، وازدحم الميدان بالآلاف مجددا، وعاد عدد كبير من الطلاب إلى الجامعة للدخول في اعتصام جديد، ولكن قوات الأمن سارعت باقتحام الجامعة، وإلقاء القبض على نحو مئتين من الطلاب، وكان أحمد عبد الله رزة المتهم رقم واحد في هذه القضية التي عرفت بمظاهرات72.
ذكر أحد الصحافيين البريطانيين بعد ذلك أن ثورة الطلاب في يناير 1972م التي قادها أحمد عبد الله رزه ورفاقه، كانت أحد أهم الأسباب التي دفعت نظام الرئيس السادات لخوض الحرب في أكتوبر 1973م، كما اعتبر ذلك الحراك الطلابي حلقة هامة في سلسلة النضالات السياسية والاجتماعية في مصر، والتي ستتواصل حلقاتها بعد ذلك فيما عرف بانتفاضة الخبز في يناير1977م.
لم ينس الرئيس السادات أبدا ذلك الاسم الذي ذكره ذات يوم في أحد خطاباته على سبيل السخرية؛ فحال دون أن يتم تعيين أحمد عبد الله رزه في الجامعة برغم استحقاقه لذلك، وعندما علم بتقدمه للعمل بمركز الأهرام للدارسات السياسية والاستراتيجية، أصدر تعليماته بمنع ذلك أيضا، وإزاء هذا التضييق يضطر فارسنا للسفر إلى بريطانيا بعد أن حصل على منحة لدراسة الدكتوراه في جامعة كمبريدج، وكانت المساعدات المادية التي قدمها له أهالي منطقة حي عين الصيرة التي ولد بها، وظل وفيا لأهلها إلى آخر أيام حياته- هي كل ما كان يملك في تلك الرحلة، وكان إهداؤه لرسالة الدكتوراه لهم أكبر تعبير عن وفائه النادر جاء فيه ” إلى أهالي عين الصيرة الكرام.. الأميين الذين علموني، والفقراء الذين أغنوا ضميري”.
طبقت شهرة احمد عبد الله رزة الآفاق كعالم للاجتماع السياسي ففتحت له أرقى جامعات العالم أبوابها؛ لتنهل من فيض علمه؛ ولتستفيد من تجربته الثرية، كمناضل وثائر طلابي عاصر تحولات هامة في المنطقة العربية والعالم بأسره؛ لكن جامعات مصر ظلت موصدة الأبواب في وجهه؛ فلم ينس له النظام مواقفه الوطنية منذ قاد أول مظاهرة في حياته في 1968م والتي كانت بسبب الأحكام الهزلية في قضية قيادات سلاح الطيران؛ واستمر هذا الموقف غير المبرر؛ حتى بعد أن أصبح نائبا لرئيس الجمعية العامة لعلم الاجتماع التابعة للأمم المتحدة.
عودة الثائر النبيل
وبعد سنوات الغربة يعود المناضل مجددا لساحات النزال، ويخوض المعركة تلو الأخرى ضد الاستبداد والتبعية، ولا ينسى في خضم ذلك الفقراء من أهل عين الصيرة؛ الذين كانوا سندا دائما له؛ فينشئ مركز الجيل للشباب الذي حمل على عاتقه مد يد العون لهم؛ خاصة الصبية الذين اضطرتهم الظروف المعيشية الصعبة، لترك التعليم والانخراط في سوق العمل؛ فعرفوا قسوة الحرمان في سن الطفولة، وصار الدكتور أحمد بالنسبة لهم بمثابة الأب الحنون، وكان خروجهم بالعشرات يوم وداعه، أحد المشاهد التي ستبقى خالدة في الذاكرة.
ولم يكن مستغربا أن تراه وهو العالم المرموق وقد صحب عددا من هؤلاء الصبية؛ لينظفوا شارعا من شوارع الحي، ويزرعوا به بعض الأشجار؛ وكان لا يقبل أن يحمل عنه أحد أدوات النظافة والتشجير الخاصة به، والتي كان يستخدمها بنفسه.
إنه عاشق مصر وثائرها الأنبل، الذي لم يستطع النكران الذي قوبل به طوال حياته؛ أن يغير من عشقه لها، كما لم يستطع الاعتقال المتكرر، والإيذاء المستمر الذي تعرض له أن يثنيه يوما عن قول كلمة الحق التي كان يصدع بها بصوته العذب؛ فتهتز لها الأركان.
ويعتل القلب العاشق، ولكن الإرادة لا تضعف، ويستمر النضال في صبر وإيمان، إلى أن يلحق أحمد عبد الله رزه بربه راضيا مرضيا، دون تبرم أو شكوى، ودون أن يفارق إيمانه بعدالة كل ما دافع عنه من مبادئ، وكل ما حارب من أجله من قضايا وطنية واجتماعية وقومية؛ ليظل صاحب سيرة عطرة تستنشق الأجيال رحيقها عبر الزمن.