نقلًا عن صفحة الكاتب والصحفي أيمن الصياد على الفيسبوك
هذه لحظةٌ مفصليةٌ في التاريخ، وتداعيات هذه اللحظة في المنطقة كلها، لن تكون أبدا عابرة.
تكشف الصورة المعبرة، للطريقة التي دخل بها مقاتلو طالبان القصر الرئاسي، دون أدنى مقاومة، كما تكشف «صدمة المفاجأة» في التصريحات السياسية، والعسكرية، بل والاستخباراتية الغربية عن ما كان من فداحة الاستسلام للديماجوجية الإعلامية، وللتصورات الذهنية «المسبقة»، وتجاهل الواقع والحقائق على الأرض.
لم يختلف الأمر كثيرا عندنا، فالدرس، على وضوحه لم يحل دون أن نرى المبالغات، والتعليقات المتطرفة المعتادة على جانبي «جدار الاستقطاب» الذي بات عاليا ومترسخًا، وواضح الأثر في كل قضية أو مسألة تجد طريقها للنقاش العام، فكان طبيعيا، رغم وضوح الدرس أن نجد هذا وذاك، كعادته سائر بكل دأب على طريق الخطأ ذاته؛ الاستسلام للتصورات الذهنية المسبقة.
للمبتهجين، والمبتئسين على جانبي جدار (الاستقطاب) في بلادنا، أرجوكم لا تختزلوا ما جرى في أفغانستان على أنه معركة بين الإسلام والغرب، ولا تسارعوا باستحضار اللافتات والأوصاف «سابقة التجهيز»، كما لا تحاولوا حشره في خانات الاستقطاب (الصفرية) التي ترسخت في منطقتنا (وأفسدت أدمغتنا) في السنوات العشر الماضية.
الأمر أكثر تعقيدًا، ودروسه، كما أن أسئلته أكثر أهمية وتأثيرا.
لا أحد في دول الإقليم؛ الغني والقوي في آن يمكنه أن يتجاهل التداعيات الجيوسياسية لبناء «إمارة إسلامية / سنية» في تلك الدولة التي تبدو عصية رغم ما قد يبدو من فقر وإنهاك عقود من الأطماع والحروب والتدخلات،
فبالإضافة إلى التركيبة السكانية الاثنية المتداخلة مع دول الجوار جميعها؛ الطاجيك، والهزارة، والأوزبك، إلى جانب البشتون؛ العمود الفقري لحركة طالبان. تظل للحدود والجغرافيا في عالم لم تنضج فيه الدولة (الوطنية / القومية)، لأسباب عدة، دورها وظلالها الحاكمة.
– ففي الشمال تقع الجمهوريات «الإسلامية» للاتحاد السوفياتي القديم.
– وفي أقصى الشرق هناك التنين الصيني التي لا يريد لمشكلة «الإيغور» المسلمين أن تعرقل مسيرته نحو الصف الأول في النظام العالمي الجديد.
– وفي الجنوب من نقطة التماس الشرقية الصينية تلك، تقع الحدود الأطول، فهي مع باكستان النووية؛ الدولة الإسلامية، اسما، وتضاريسًا اجتماعية، و«العسكرية»، فعلا، وواقعا حاكما، والتي يرتبط عسكريوها بعلاقات مميزة ومتجذرة مع الغرب (ودوائره). وتتداخل حدودها الواسعة جغرافيا وسكانيا، بل وأمنيا مع «إمارة» طالبان المنتظرة. ثم لا تنس أن باكستان تلك هي الدولة الإسلامية (الوحيدة) التي تملك سلاحا نوويا.
– أما في في الغرب فالحدود واسعة مع إيران؛ الجمهورية «الإسلامية» رسميا، «والشيعية» مذهبيا، والفارسية إمبراطوريا، وبغض النظر عن صحة الرواية التاريخية التي تقول بأن الجد الأعلى للملا عمر (الزعيم الروحي لطالبان) كان قد فتح مدينة أصفهان الفارسية الشهيرة ليؤسس فيها امبراطورية أفغانية على أنقاض دولة شيعية في ذلك الزمان البعيد للحروب (الاثنية / الدينية) في أسيا الوسطى تبقى الجهود الحثيثة (الحاضرة) التي يدركها كل ذي عينين لجعل الصراع المذهبي بديلا لكل صراع في الشرق الأوسط، لينشغل به العرب عن إسرائيل، والمسلمون ببعضهم، ويعاد فيه شحذ سيوف قديمة صدئة تستحضر «فتنا» يزيد عمرها عن أربعة عشر قرنا من الزمان.
ماذا سيُحدثه، في زمن الانترنت مشهد «طالبان في القصر»» بفطرتهم الدينية الأولى، يتلون في لحظات المشهد الأول «سورة النصر»؟ ويستدعون إلى ذاكرتهم ما نسب إلى أبيهم الروحي الذي فقد إحدى عينيه في القتال مع الروس، قبل أن يضعه الأمريكيون في صدارة قائمة المطلوبين: «إذا كان جورج دبليو بوش وعدني الهزيمة، فقد وعدني الله النصر .. وسنرى أي الوعدين أصدق».
قد لا تكون الرواية دقيقة. بالضبط كما هي رواية موته الغامض، الذي لم يُعرف به إلا بعد أن حصل بعامين. ولكن، في زمن الانترنت تبقى للروايات والصور (الحية) المنقولة على الهواء مباشرة مصداقيتها، وتداعياتها، كما صورة: «طالبان في القصر .. يتلون سورة النصر»
***
ربما كان من الصحيح أن طالبان لا تعيش عصرها، ولكن من الصحيح أيضًا أن الآخرين لا يعيشون الواقع. ليتهم، مبكرًا أدركوا الحقائق على الأرض، وعلموا أن «ليس هكذا تورد الإبل».
لم تكن محاولة الاستئصال أبدا حلا (واقعيا)،
فبعد عشرين عاما من الحرب، وآلاف القتلى، وعشرات المليارات، تبقى الحقيقة على الأرض واضحة (وفاضحة): لم ينجح أعداء طالبان، على اختلاف مشاربهم وأهدافهم في حذفها من المعادلة؟ وربما كان هذا هو الدرس الأهم الذي علينا أن نتعلمه.
ولكن رغم أن هذه باتت حقيقة لا مراء فيها، إلا أن الأسئلة الصعبة، بطبيعتها تظل هي الأهم، كما تظل في إجابتها مفتاح الأيام القادمة، ليس فقط في أفغانستان بل في المنطقة كلها:
هل تنجح طالبان 2021 فيما فشلت فيه طالبان التسعينيات، وتنشئ دولة عصرية، تحترم حقوق الإنسان (غير القابلة للتأويل)؟
هل ينجح «الطلبة»، في فهم النصوص فهما معاصرا لا يجعل من «الإمارة»، ملكا عضودا يتجمل بمقولات «الحاكم المتغلب»، و «المستبد العادل»؟
هل يخاصم حكام اليوم، التاريخ الدموي لحكام الأمس، الذين جمّل لهم فقهاؤهم استبدادهم، واحتكارهم للسلطة، فأضاعوا الدولة، وأورثونا التخلف، بعد أن اساءوا «للخلافة»، مفهوما ومضمونا؟
هل يسمو «المنتصرون»، على ثأراتهم، ويحتسبوا دماء قادتهم، وزملائهم عند الله؟
هل يدرك «العائدون إلى القصر»، أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، وأن «الفقه بلا مقاصد، فقه بلا روح»، وأن الدولة المدنية الديموقراطية، ربما كانت الطريق «الآمن، والمضمون» إلى ما يبتغونه من إقرار العدل والمساواة والحكم الرشيد؟
الأسئلة (الصعبة) لا تنتهي، كما هي طرق أفغانستان الجبلية الوعرة، التي لا ترى أبدا نهاياتها.
***
وبعد …
فكما هي حقيقة المشهد الذي رأيناه جميعا لـ «طالبان في القصر»، ستبقى حقيقة أنه، رغم النوايا الحسنة، ورغم التصريحات المطمئنة، ورغم جهود الدوحة؛ الراعي الرسمي للانتقال السلمي للسلطة، لا أحد في مثل تلك التضاريس الوعرة يمكنه أن يتنبأ بما يمكن أن يأتي به الطقس من أمطار، أو عواصف رملية.