في خريف عام 1976 كانت جامعة الإسكندرية على موعد مع لقاء هام واستثنائي في ذلك الحين كان التغيير قد بدأ بالزحف إلى جامعات مصر فظهرت لأول مرة “الجلابيب البيضاء واللحى ” لتعلن عن رحلة الغزو السلفي وطوفان الإسلام السياسي الذى سيطر تماما بعد عقد من الزمان من ذاك التاريخ تقريبا ولم يكن ينجح فى ذلك بعيدا عن دعم رسمي من الدولة بقيادة “الرئيس المؤمن ” .
كانت الجامعة تستعد لاستقبال الثنائي الأشهر في تاريخ الأغنية السياسية المصرية المعاصرة “أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى “
وكانت الفتاة ذات الأصول الأرستقراطية وسليلة العائلة الإقطاعية العريقة “بلبع ” وابنة السيدة المثقفة “ناهد عيسى ” التي تنتمي إلى أسرة تعرف السياسة جيدا وتناضل من أجل العدالة الاجتماعية بقوة عائلة “عيسى ” حيث خالها كل من الدكتور حسام عيسى والدكتور هشام عيسى
كانت الفتاة الارستقراطية “عزة بلبع ” تدرس آنذاك في كلية التجارة جامعة الإسكندرية وحيث كانت عزة قد تلقت تعليمها الأساسي فى مدراس فرنسية وكانت العائلة تأمل أن تدرس فتاتها الأدب الفرنسي لكنها التحقت بكلية التجارة.
كانت عزة تهوى الغناء منذ الطفولة وتشارك فى حفلات المدرسة مبكرا بعد أن اكتشفت معلمتها “منار أبو هيف “موهبتها وتولت تدريبها وقدمتها لتغنى لأول مره على مسرح المدرسة ثم تقدمها فى فرقة أنغام الشباب فيما بعد
عندما حضرت عزة حفل “إمام – نجم ” في جامعة الأسكندرية وجدت نفسها أمام حالة مختلفة وعالم فنى لم تعرفه من قبل فهما يقدمان أعمالا لم تسمعها من قبل أغنيات تفيض بالصدق والإيمان بكل حرف وكل نغمة …
رأت عزة وسمعت من إمام ونجم كل هذا الحماس وكل تلك القوة في التمسك بما يعتقدان أنه صحيح … يغنيان للوطن ويذوبان عشقا في ترابه دون أي ادعاء أو رياء .
إنه الحلم الذي طالما راودها و سعت إليه وهو أن تغنى معهما وان تصبح شريكا فى هذا المشروع الفني المختلف والصادق.
انتهى العام الدراسي وظل الحلم يسيطر على عزة فذهبت إلى القاهرة -متدربة في “وكالة أنباء الشرق الأوسط ” –وأقامت مع جدتها وقررت زيارة “إمام – نجم ” خطت قدماها لأول مرة إلى عالمهما في “حوش قدم ” وعلى حد وصفها فقد خطفتها “النداهة ” لتهيم روحها نحوهما ويستنير عقلها بهذا العالم الذى أبهرها كما أبهرها هذا الشاعر الصعلوك “نجم ” الذى وهب حياته وحريته من أجل كلمة حق يؤمن بها .
حوش قدم … الوعي والفن
فى الغرفة الصغيرة “بحوش قدم ” بحي الغورية غنت “عزة ” وصاح الشيخ إمام إعجابا بصوتها “الله الله ” وطلب منها أن تشاركهما الغناء … إنه الحلم الذي راودها منذ أول لقاء فى الإسكندرية يقترب من التحقق.
يكتب “نجم ” ويلحن “إمام ” وتغنى “عزة ” أولى أغنياتها “دولا مين ودولا مين … دولا عساكر مصريين ” وشاركت بها لأول مرة في إحدى حفلات الثنائي بجامعة القاهرة وتستقبل “عزة ” بعاصفة من التصفيق والترحاب من آلاف الطلاب الذين حضروا الحفل.
من هنا بدأت رحلة طويلة ومستمرة من الغناء الجاد وتصبح “عزة “شريكا قويا وحاضرا فى كل أعمال الثنائي الثائر وتنطلق نحو المزيد من التمرد ضد كل ما هو قبيح تغنى للناس وبالناس وتنحاز لهم وتتغير حياتها تماما من أجواء الأرستقراطية التي طالما تمردت عليها إلى حياة البسطاء وتقترب جدا من البشر الحقيقيين فى مصر المحروسة.
قصة الحب والنضال
تعيش عزة بلبع قصة حب شهيرة مع ” الفاجومى ” لتُجدِّد بذلك تمردها الطبقي وتنتصر لإختيار وعيها ونداء قلبها وتتحدى الجميع وتقرر الزواج من شاعر صعلوك يقضى معظم أيامه بين السجون والمطاردات …
تقرر الزواج من ذلك الشاعر المتمرد وتقبل أن تعيش فى حجرة شديدة البساطة فى “حوش قدم ” تشاركه حياته البائسة وولادة قصائده وصناعة أغنياته كما تشاركه الوجد والولع بالوطن والفقراء .
ولم تتوقف المشاركة عند ذلك بل تمتد إلى مواقفه السياسية وانحيازاته الفكرية وتدفع ثمن ذلك حين تعرف قسوة الاعتقال السياسي لأول مرة عام 1978 وتقضي مدة بسجن “شبين الكوم ” ثم تعاود السلطات اعتقالها وقضت مدة أخرى في سجن القناطر وهناك تعرفت على نماذج مبهرة من النساء …. ذاد إيمانها بصحة موقفها وانحيازها للبسطاء الذين يستحقون أن يجدوا صوتاَ يعبر عنهم وينقل معاناتهم وأحلامهم.
بعد سنوات من الزواج قررا الانفصال و لم يُلق الانفصال بين “عزة -و نجم” بظلاله على ارتباطها بالغناء الجاد والمغاير و ظلت مرتبطة به وبشعره ، وبقيت الصداقة والمواقف الوطنية تجمعهما، وتقول “عزة”: “كانت علاقتي بنجم كبيرة وشاملة، وكان هو السند دائماً” وقد ضمَّن نجم اسم “عزة بلبع” في عدد من أشهر قصائده، منها “الرسالة الأولى” و “كل ما تهل البشاير “
موهبة تحت الحصار
رغم الحصار الذي فُرِض على صوت “عزة ” من المؤسسات الرسمية الفنية والإعلامية إلا أنها نجحت فى كسر جزئي لذلك التعتيم من خلال مشاركتها في عدد من الأعمال الفنية بالمسرح والإذاعة والتلفزيون ومن أهم تلك الأعمال مشاركتها المميزة في رائعة فاروق جويدة “الوزير العاشق ” مع سميحة أيوب وعبد الله غيث وإخراج ” فهمى الخولى ” والتى تعتبر واحدة من عيون المسرح الشعري العربى
كما شاركت في مسرحية الحصان الطائر وزي ما تحب و عدد من السهرات التليفزيونية مثل الزواج في الزمن الصعب و عيون الوهم كما شاركت في فوازير “جدو عبده راح مكتبته ” و”ألف ليلة وليلة “
كما قدمت أدوارًا مميزة في عدد من المسلسلات مثل “وعاد النهار ” 1988ومسلسل “أماكن فى القلب ” وحديث الصباح والمساء ” وأم كلثوم ” وغيرها من الأعمال.
رغم صوتها الذى لا يختلف عليه اثنان إلا أن “عزة ” دفعت ثمن موقفها المنحاز للبسطاء والمدافع عن الوطن والمنتمي للغالبية العظمى من أبنائه .
دفعت الثمن وهى سعيدة لأنها فعلت ما آمنت به وهو أن الفن رسالة ودور وأن الغناء للناس ينير عقولهم ويحرضهم عند الحاجة لذلك .. هى المحرضة من أجل العدل والحرية.
فنانة بدرجة مناضل
ظل صوت “عزة “هو المؤذن من أجل العدل حيث جابت المدن والجامعات والنقابات والأحزاب السياسية تحيي فن “إمام – نجم ” حتى لا يندثر .
كما كانت صوت الثورة الذي لم يتوقف عن التحريض خلال يناير 2011 فكانت المغنية المصرية الوحيدة التى لم تغب يوما عن الميدان .. وهكذا كانت أيضا فى طليعة الرافضين لحكم المرشد المحرضين على التمرد ضد سلطة الجماعة حتى تحقق النصر فى 30 يونيو .
صرخت عزة بلبع بحنجرتها الذهبية التي تتسلق أحبالها روح التمرد من أجل الحق والعدل والحرية وظلت تتألم على “بقرة حاحا ” التي أعياها الظلم والاستغلال وتردد كلمات “صلاح جاهين ” مع إن مش كل البشر فرحانين ” تلك الأغنية التي قدمتها فى ألبومها الأول “وتتساءل يصوتها الجميل الثائر الرائق مع الشاعر “نجيب سرور ” “البحر بيضحك ليه ؟”
هى مغنية وممثلة بدرجة مناضلة عظيمة … لم تتخل عن موقفها يوما ولم تتراجع عن دورها ولم يكسرها الحصار الإعلامي ومحاولات حجب صوتها العذب والشجيِّ عن الناس فانتقلت هى إلى الناس تغنى وتبدع فاحترمها جمهورها وصنع منها أيقونة للفن المقاوم والأغنية البديلة.