كتب جيمس سكوت في كتابه اللافت “المقاومة” بالحيلة، “كلما كان القوي أكثر خطرًا..كان قناع الضعيف أسمك” [1]، استرجعت تلك الجملة في تفسير التمويه الذي استخدمه الأسرى الفلسطنيين في حادثة الهروب من سجن جلبوع قرب الناصرة، باستخدام (الملعقة)!!، حسنًا كل شيء جائز، لقد هدمنا خط بارليف بخرطوم ماء، يبدو أن لاشيء مستحيل على هذا الكوكب.
يتمحور المقال بصورة عامة في تفكيك وهم السيطرة، واقتراح كيفية تفسير وفهم سلوك المقاومة المناهضة للسلطة التي تمارسها الجماعات الخاضعة، المعتقلين والأسرى على سبيل المثال، لفهم سياسات المقاومة لديهم والتي مارسوها من أجل التصدي لكسر أسرهم أسرهم أو مناهضة السلطة المفروضة عليهم، كيف يتم ذلك التمويه من قبل الضعيف في حضور سلطة القوي، كيف نفند أوهام الأشكال الممنهجة للخضوع الاجتماعي داخل رؤسنا؟
فن التموية:
في تناوله لمفهوم الحرية يتحدث (سكوت) عن “الفعل الإبداعي” وأن تحرير الإنسان لا يمكن أن يحدث إلاّ عن طريق “الفعل الإبداعي”، وهو ما لن يتحقق إلاّ بانخراطه في سياسة “المقاومة بالحيلة”[2]، تكمن هذه السياسة التي أسسها سكوت في السياسة التاحتية Infra politics للجماعات الخاضعة في سمات لا يعلن عنها بوضوح، وبحسب سكوت فإن الجماعة الخاضعة تخلق من محنتها “موروثًا مخفيًا” يمثل سلوك نقدي للسلطة من وراء أصحاب السلطة كذلك صاحب السلطة نفسها يطور هو الآخر موروثًا مخفيًا يمثل ممارسات ومزاعم لحكمه قد لا يظهر علنًا، وعند مقارنة كلا المورثين بعضهم البعض بالتراث العلني للسلطة يستكشف رواية جديدة لفهم المقاومة بالحيلة، من المهم كذلك أن نوضح أن تلك المقاومة تتم بشكل حذر بالضرورة، لا أن يحتجوا صاخبين بل نراهم يتبنوا أساليب أكثر مواربة، ذلك لأن الصراع بين المقاومة والسلطة يكون كامنًا “كالمقاومة بالملعقة”، على سبيل المثال، في سنوات الاستعمار الانجليزي لمصر، حاول المستعمر “أنجلزة” الشعب المصري، وحاولوا فرض لغتهم، أسلوب حياتهم، فكرهم وأيدلوجيتهم، على الجانب الآخر كانت مقاومة المستعمر من المصريين هي آلية الانغماس داخل الذات، بمعنى التقوقع على الهوية والأيدلوجية بالإضافة إلى عدم التقاطع مع الاحتلال آنذاك، في أي أنشطة خاصة بهم، كأسلوب مقاومة لرفض الذوبان، لرفض أي هيمنة وسلطة، وجد المصريين هذا الأسلوب “محاولة التذويب”، هي مقاومة كامنة ووسائل خفية ضد المستعمر، وعدم الاعتراف به ضمنيًا.
الفعل الإبداعي:
في حالة هروب الأسرى الستة، لابد من ملاحظة الروابط المشتركة بينهم، كوضعهم الظرفي التي أعطتهم قوة مستترة جعلتهم يوجهوا جهد الغضب والقمع إلى أفعال إبداعية، وصلتهم إلى فعل لم يخطر على بال أحدهم “المقاومة بالملعقة”، حسنًا لم يكن هذا في الحسبان.
في تحليل هذا الفعل الإبداعي “المقاومة بالملعقة”، نجد أن الجماعات المقموعة توجه غضبها وقمعها إلى شريحة أو عرق أو شعب، يصبح القمع والغضب والثأر مقاومة في حد ذاته، مستوى المقاومة يتحدد بناء على مقدار قوة السلطة فالمقابل، قد يكون على شكل هروب أو أعمال تخريب يحاول معها تعويض جزء من مشاعر الغضب والرفض بداخله، حينئذ تصبح المشاعر الشخصية نتاج هذه الروابط المشتركة، سواء كانت روابط ظرفية مكانية اجتماعية طبقية وغيرها، ومهما كان الشكل الذي تتخذه هذه المقاومة تكون الأساس لهدم علاقات القوة والسيطرة ووهم الخضوع، فالمقاومة بالحيلة تبطل القوة الوظيفية للأشياء، وتجرد النفس من سطوة الشعور بالهزيمة.
الآن بعد الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء، قد يخيل لنا أن تقنيات المراقبة الحديثة والتجسس الرقمي قد يطيح بأي رغبة في مقاومة السلطة، نتوهم أنه يمكن اختراقنا بسهولة، ومعرفة ما نفكر فيه قبل أن نقوله، فالآن ما يهم حقًا ليس ما نقوله أو نفعله بل فيما نفكر فيه، لكن حتى مع هذا الطرح فالحدّ من فكرة المراقبة الحديثة وهيمنة السلطة وارد، إنه شيء غير خيالي كما يبدو لنا، حيث أن القدرة على المراقبة شيء وتحقيقها بنجاح شيء آخر.
يبدو أن وهم تمكن السلطة من اختراقنا في أذهاننا جميعًا، خاصة حين نشاهد ما لديه من تقنيات حديثة متطورة يصبح التتبع والمراقبة أمر مسلم به، إلاّ أننا لا نملك مع هذه الحادثة إلاّ الاندهاش حد الضحك، ونحن نشاهد خبر الهروب من سجن جلبوع باستخدام ملعقة!!
بالفعل إنه فعل إبداعي غير متوقع، أين برج المراقبة، أين المجندة الكسولة، أين كل تقنيات المراقبة من تحت الجلد التي أخبرونا بها !!، الأمر هنا لا يستدعي هذا الاندهاش، ببساطة عندما نتذكر أحداث جلل سابقة سنغير تفكيرنا بخصوص هذا الشأن، ففي هذا الشهر يتذكر العالم أجمع هجمات 9/11 التي غيرت مجرى العالم كله، حسنًا هل تعلم أن تلك الهجمات كانت نتيجة خلل في التنسيق بين وكالات الاستخبارات!، سمح هذا الخلل ببقاء 19 شخصًا داخل الولايات المتحدة الأريكية عامً ونصف، تدربوا خلاله على الطيران، ثم ماذا حدث ؟، تم خطف 4 طائرات مدنية والتوجه بهم إلى البرجين ومخمس عسكري حصين، إلى آخر الحدث الذي نعلمه جميعًا، كذلك ما حدث مؤخرًا في أفغانستان نتيجة سوء تقديرات عسكرية، والانسحاب المربك للولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان بعد احتلال دام 20 عاما، نتساءل ، أين ذهبت سنوات المراقبة ؟، أين موجات التنصت عبر الراديو؟ أين الخبراء العسكريون ؟، حقيقة الأمر أن كل تلك السلطة المهيبة هي في أرؤسنا، كجسم عملاق ضخم على ساقين..لكنه مصنوع من قش.
أسطورة المراقبة الحديثة التي ألهمت مُعظّمي نظرية “وحش السلطة العملاق”، كان أساس فكرة (سجن البانوبتيكون Panopticon) نظريًا، وهو مشروع تابع ل UCL للعلوم الإنسانية الذي يختبر خوارزميات المراقبة، حيث يأمل الباحثون من خلاله أن يثير نقاشًا حول المراقبة الحديثة، أي استحداث نوع من أنواع السيطرة المؤسسية والحكومية وتطبيقها على الأشخاص، يسمح سجن (البانوبتيكون) للحارس بمراقبة السجناء دون أن يعرفوا بالضبط أيهم يخضع للمراقبة، يكون فيه مبدأ التفتيش بواسطة الدوائر الإليكترونية والتليفزيونية المغلقة، ولا يحتاج إلى مبنى دئري محكوم بأسلاك شائكة ولا أسوار عالية، ولا أبراج مراقبة بها مجندين مرهقين، هذه المنهجية في المراقبة الانضباطية مازالت مطروحة للتفكير والتطبيق.
يرتكز هذا النوع من المراقبة على مبدأ الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) عن السلطة الذي طرحه في كتابه “الانضباط والمراقبة” عام 1974، رمزية البانوبيتكون هنا كوسيلة لتوضيح نزعة المجتمعات التأدبية لإخضاع مواطنيها، فالنزيل داخل هذا السجن يكون هو الطرف المتلقي للمراقبة غير المتكافئة، إنه يُرى لكنه لا يَرى، ونتيجة لذلك يقوم النزيل بضبط نفسه خوفًا من العقاب، فكرة البانوبيتكون في ظل فلسفة فوكو عن السلطة هي استعارة التلاشي عندما نبدأ في التفكير والإيمان بأن الأنواع الحديثة من المراقبة والمرئيات أصبحت مماثلة لمفهوم برج المراقبة المركزي، ولا سبيل للفرار إلاّ بالتلاشي.
وبالسحب على حالة هروب الأسرى التي لاقت جدلاً واسعًا بين مصدق ومكذب للحدث، الأمر هنا في حقيقته يدعو للتساؤل عن علاقة المراقبة والمقاومة الكامنة، هل كان الأسرى يعلمون أنهم مراقبون بالطريقة التي طرحها (البانوبيتكون)؟ وهل لو كان لديهم ذلك التصور عن المراقبة الحديثة هل سيكون سلوك مقاومتهم مختلف عن سلوك “المقاومة بالملعقة”؟
أخيرًا ..بعد أخبار القبض على الأسرى الهاربين من سجن جلبوع، فالأمر المعنى هنا سيكون كالآتي؛ في علاقة السلطة ومقاومتها بكل أنواعها وأشكالها، عاجلاً أم آجلاً فإن خطاب المقاومة المستتر مع الوقت سيظهر على السطح ويعلن عن نفسه بكل وضوح، كالإعصار الذي يحدث معه أشكال تمرد أكثر حدة، ويسقط كل أقنعة التنكر والتمويه للجماعات الخاضعة، كضربة تتلقاها السلطة يسقط معها وهم المراقبة بفعل إبداعي واستحداث أساليب مبتكرة لكسر قيود السلطة، على سبيل المثال “المقاومة بالملعقة”.
[1] جيمس سكوت ، المقومة بالحيلة ص 16.
[2] المرجع نفسه ص 30